قوله :"وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ كما في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال: 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) (رواه البخاري (2475)، ومسلم (57) من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، وهو في البخاري من حديث عكرمة عن ابن عباس وفيه قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإذا تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه). ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته.
وبيان هذا أن صاحب الكبيرة كالزاني، والسارق، وشارب الخمر، ونحوهم لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق، وذلك «لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله» (مجموع الفتاوى (7/ 240)، وينظر: (7/ 258)، ولأن «حكم اسم الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله، فإنه يتناول فعل الواجبات، وترك المحرمات» (المصدر السابق (7/ 42)، وينظر: (7/ 417)، فالإيمان "المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله وترك المحرمات كلها" (المصدر السابق (7/ 446). وقد دل القرآن «على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال» (المصدر السابق (7/ 160). فالمؤمن «المطلق في باب الوعد والوعيد هو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، وهو المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق» (المصدر السابق (11/ 653). و «لهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو ترك فريضة؛ لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (تقدم تخريجه) (مجموع الفتاوى (7/ 360)، وينظر: (7/ 524).
و «الزاني، والسارق، والشارب، والمنتهب لم يعدم الإيمان الذي به يستحق ألا يخلد في النار، وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة، وبه يستحق المناكحة والموارثة، لكن عدم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب، ويستحق به تكفير السيئات، وقبول الطاعات، وكرامة الله، ومثوبته، وبه يستحق أن يكون محمودا مرضيا» (المصدر السابق (7/ 676). روى أبو داود والترمذي والحاكم من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان (قال الحافظ: بسند صحيح في فتح الباري (12/ 61) , وأخرج الحاكم عن أبي هريرة «من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من راسه». وهذا التفصيل في إطلاق اسم الإيمان على الفاسق هو الصحيح «فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان» (مجموع الفتاوى (7/ 354 – 355).
ومن المعلوم أن «نفي الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين؛ كما في قوله: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} الأنفال: 1، ثم قال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} الأنفال: 2 – 4، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك يكون منافقا من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب» (المصدر السابق (7/ 243)، فإن المنفي عن الفاسق «إنما هو المجموع، لا كل جزء من أجزائه، كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة، لكن بقي أكثر أجزائها» (منهاج السنة النبوية (5/ 206).
وأما إعطاء الفاسق اسم الإيمان المطلق فهي طريقة المرجئة والجهمية، فصاحب الكبيرة عندهم مؤمن تام الإيمان (انظر: مجموع الفتاوى (13/ 50)، (7/ 258). و «أصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه» (المصدر السابق (7/ 510). وخالفوا بذلك ما دلت عليه النصوص، فإن «نصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه، وبقاء بعضه؛ كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (رواه الترمذي (2598)، (4/ 714) (مجموع الفتاوى (7/ 223). فأهل السنة وأئمتها «متفقون على أن الفساق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين» (المصدر السابق (7/ 257). وبهذا تجتمع النصوص، ولله الحمد.