قوله :"وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس (وجه تسميتهم بهذا الاسم أنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرا غير الله. مجموع الفتاوى (8/ 100) هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها".
وبيان هذا أن «مسألة القدر مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس» (مجموع الفتاوى (8/ 521).
الطائفة الأولى: «قدرية مجوسية تثبت الأمر والنهي، وتنفي القضاء والقدر» (الاستقامة (1/ 433)، فزعم هؤلاء «أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله، ومشيئته، وخلقه، كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة، وسلف الأمة، وتبرءوا منهم» (المصدر السابق (2/ 59)، مجموع الفتاوى (7/ 385)، «وهم ضلال مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق» (الاستقامة (2/ 409). وقول هؤلاء القدرية المجوسية «يتضمن الإشراك والتعطيل، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله، وهاتان شعبتان من شعب الكفر، فإن أصل كل كفر التعطيل، أو الشرك» (منهاج السنة النبوية (3/ 287).
«ولهذا أسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا قولهم، وزعموا أن للخير والشر خالقين، كما زعمت المجوس، وأنه يكون من الشر ما لا يشاؤه الله؛ كما قالت المجوس ذلك» (التسعينية (3/ 1010)، وينظر: منهاج السنة النبوية (1/ 410، 3/ 77، 477)، والمثبت هنا هو من نقله رحمه الله عن الأشعري)، ففي سنن ابن ماجه وغيره عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله تعالى، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم) ((92)، (1/ 35). وهو عند أحمد وأبي داود من حديث حذيفة بلفظ "لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، فمن مرض منهم فلا تعودوه .. ". وعند أبي داود من حديث عبد الله بن عمر. وقد تكلم ابن القيم عن هذا الحديث وطرقه في حاشيته ثم قال: وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح، أخبرني ابن صخر، حدثني نافع أن ابن عمر جاءه رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام، فقال: إنه قد بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون في هذه الأمة أو أمتي -الشك منه- خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم من طوائف أهل البدع هم الخوارج، فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح).
وهؤلاء قد «سلبوا الله القدرة على أفعال العباد؛ تنزيها لله عن مشيئة القبائح وخلقها، ونسبوه إلى أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، ولا يقدر على أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، ولا يقلب قلب العاصي إلى الطاعة، ولا المطيع إلى المعصية» (الصواعق المرسلة (1/ 235). «وهذا يلزم منه الطعن في حكمته وعدله» (مجموع الفتاوى (8/ 99).
الطائفة الثانية: «قدرية مشركة تثبت القضاء والقدر، وتكذب بالأمر والنهي، أو ببعض ذلك» (الاستقامة (1/ 433)، فهؤلاء «أنكروا أن يكون العبد فاعلا لأفعاله، وأن تكون له قدرة لها تاثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئا لحكمة» (مجموع الفتاوى (8/ 521)، وينظر: منهاج السنة النبوية (5/ 98). «وأول من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه» (مجموع الفتاوى (8/ 460)، «فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف والأئمة، كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم، وبدعوا الطائفتين» (المصدر السابق). «وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة، واختيارا، ويقول: إن الفعل كسب للعبد، لكنه يقول: لا تاثير لقدرة العبد على إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول» (منهاج السنة النبوية (3/ 109). ومرادهم بالكسب مقارنة الفعل للإرادة والقدرة والإيجاد به من غير أن يكون لهما تاثير بوجه (شفاء العليل (ص: 278).