قوله:"وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات".
وأصل الشفاعة التوسط في جلب النفع والتخليص من بلاء (منهاج السنة النبوية (5/ 314). وللنبي محمد ثلاث شفاعات يوم القيامة سوى ما تقدم، ودل على ذلك أحاديث الشفاعة، وهي «كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عده» (مجموع الفتاوى (1/ 314)، وينظر: (1/ 153). وهي دالة على أن «له صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه عز وجل» (مجموع الفتاوى (7/ 65). وقد «أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس، وبعد أن ياذن الله له في الشفاعة، ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين- واستفاضت به السنن، أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضا لعموم الخلق» (الرد على البكري (ص: 389)، ومجموع الفتاوى (1/ 313).
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
هذه أولى الشفاعات الثلاث التي ذكرها المؤلف، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن في مجيء الرب لفصل القضاء، وبدأ بها لأنها أعم الشفاعات نفعا، وهي ثابتة بإجماع المسلمين، لم يخالف فيها أحد من أهل القبلة، "فالأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار ... " (مجموع الفتاوى (1/ 167).
إلا أنه في كل الشفاعات «لا يشفع أحد حتى ياذن الله، ويحد له حدا، كما في الحديث الصحيح؛ حديث الشفاعة: أنهم ياتون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (فياتوني فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع راسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فأقول: أي ربي، أمتي، فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد، فيحد لي حدا، ذكر هذا ثلاث مرات .... ) (رواه البخاري (6565)، ومسلم (193)، جاء من حديث أبي هريرة وحديث أنس) (الصفدية (2/ 290)، وينظر: مجموع الفتاوى (24/ 241 – 242). وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي اختص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم (مجموع الفتاوى (6/ 528)، فإن تأخر الأنبياء آدم ومن بعده «عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه، بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي مغفرة الله للعبد، وكمال عبودية العبد لله، ما اختص الله به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ولهذا قال المسيح: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) (تقدم تخريجه)؛ فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع» (منهاج السنة النبوية (2/ 425).
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
هذه ثاني الشفاعات التي ذكرها المؤلف، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في استفتاح الجنة، وقد ثبتت هذه الشفاعة بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه يجيء أهل الجنة آدم ومن بعده، كحديث الشفاعة الكبرى، يطلبون منهم أن يستفتحوا لهم، ثم ياتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيؤذن له ((288) كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة). ويدل له أيضا ما في صحيح مسلم من حديث أنس، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع في الجنة» ((196)، من طريق زائدة عن المختار بن فلفل عن أنس).
ومن الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم شفاعته في عمه أبي طالب «بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه، لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب، أنه قال: قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .... ) ((209)، وهو عند البخاري في كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب من طريق عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس، وجاء نظيره عن أبي سعيد فيهما) (مجموع الفتاوى (1/ 144)، لكن لما كان أبو طالب وغيره يحبونه صلى الله عليه وسلم «ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به، لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته، ولا بغيرها» (المصدر السابق (1/ 154). وبهذا يتبين أن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات خاصة به لا يشركه فيها أحد من الشافعين.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له، ولسائر النبيين، والصديقين، وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
هذه ثالث الشفاعات التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وهي مضمنة نوعين من الشفاعة؛ شفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها، وكذلك شفاعته فيمن دخلها أن يخرج منها. وهاتان الشفاعتان ثابتتان بالإجماع؛ فإن «أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته» (المصدر السابق (1/ 313)، وينظر: (4/ 309)، الرد على البكري (1/ 389)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 444)، «لكن لا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك» (المصدر السابق (1/ 153 – 154). فأهل السنة والجماعة «أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفوا ما نفاه الله في كتابه، وسنة رسوله، فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث» (المصدر السابق (24/ 341 – 342)، و «هذه الأحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث» (منهاج السنة النبوية (5/ 295).
«أما الخوارج والمعتزلة فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون» (مجموع الفتاوى (24/ 342)؛ فإنهم قالوا: «من يدخل النار لا يخرج منها؛ لا بشفاعة، ولا بغيرها» (المصدر السابق (1/ 148 – 149، 318)، (16/ 196)، و «زعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا» (المصدر السابق (1/ 314). فشفاعته في زيادة الثواب فقط (1/ 104)، (1/ 116، 313)، (4/ 309). «وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك» (المصدر السابق (12/ 481)، وينظر: (7/ 500)، (11/ 184). وممن أنكر الشفاعة أيضا غالية المرجئة؛ فقد حكي عنهم «أنهم وافقوهم –أي: الوعيدية- على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك» (مجموع الفتاوى (7/ 354).
فتلخص لنا مما تقدم خمس شفاعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الإيمان، «فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار ألا يدخلها (استدل الحافظ ابن حجر لهذه الشفاعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم». فتح الباري (11/ 428). وفي رواية سهل: "فعند ذلك حلت الشفاعة اللهم سلم سلم". فتح الباري (11/ 452)، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها» (المصدر السابق (1/ 317)، والسادسة شفاعته «لأهل الطاعة المستحقين للثواب» (المصدر السابق (1/ 318) في رفع درجاتهم (وهذا قد يستدل عليه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة وقوله: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين"، رواه مسلم من حديث أبي قلابة عن قبيصة عن أم سلمة، وقوله في حديث أبي موسى: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك" رواه البخاري (2671) ومسلم (4554). حاشية ابن القيم على أبي داود (8/ 134)، وقد تقدم بيان ما يختص به، وما يشركه فيه غيره.