قوله:"وبعذاب القبر ونعيمه".
وبيان هذا «أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب» (المصدر السابق (4/ 266). فالله تبارك وتعالى قد «ذكر عذاب القيامة والبرزخ معا في غير موضع، ذكره في قصة آل فرعون فقال: وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} غافر: 45 - 46، وقال في قصة نوح: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} نوح: 25 مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله: {والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}» (مجموع الفتاوى (4/ 266) ... نوح: 17 – 18، و «قال تعالى في الأنفال: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} الأنفال 50 – 51، وهذا ذوق له بعد الموت» (المصدر السابق (4/ 267).
«وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم: (يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا) (رواه البخاري (3976، 3980)، ومسلم (2873)، من حديث نافع عن ابن عمر وقتادة عن أنس)، وهذا دليل على وجودهم، وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب» (مجموع الفتاوى (4/ 267). وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة (انظر: المصدر السابق (4/ 285)، وسياتي ذكر شيء منها. والعذاب والنعيم الذي في القبر يكون «على النفس والبدن جميعا، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين؛ كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث، والسنة، والكلام» (مجموع الفتاوى (4/ 288)، «ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه؛ فأما أحاديث عذاب القبر، ومسألة منكر ونكير؛ فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) (رواه البخاري (216)، ومسلم (292)، من طريق الأعمش عن مجاهد عن طاوس). وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة – ونحن معه – إذ جالت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: (من يعرف هذه القبور؟) فقال رجل: أنا. قال: (فمتى هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك.
فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر). قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: (تعوذوا بالله من عذاب النار). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن). قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: (تعوذوا بالله من فتنة الدجال). قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال (رواه مسلم (2867)، من حديث سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة المنذر بن مالك عن أبي سعيد عن زيد). وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ((588).
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ((590). وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فقال: (يهود يعذبون في قبورهم) (رواه البخاري (1375)، ومسلم (2869). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتها، ولم أنعم أن أصدقها، قالت: فخرجت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: (صدقت، إنهم يعذبون عذابا يسمعه البهائم كلها)، فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر (رواه البخاري (6366)، ومسلم (586)، من حديث أبي وائل عن مسروق).
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مبشر رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط وهو يقول: (تعوذي بالله من عذاب القبر)، فقلت: يا رسول الله، للقبر عذاب؟ فقال: (إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم) (الإحسان (3125)، (7/ 395).
وأحاديث المسألة كثيرة أيضا، كما في الصحيحين والسنن، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فذلك قول الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} إبراهيم: 27، وفي لفظ: (نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وذلك قول الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} إبراهيم: 27) (رواه البخاري (1369)، ومسلم (2871). وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولا، كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع راسه فقال: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) مرتين، أو ثلاثا. وذكر صفة قبض الروح، وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه ...
إلى أن قال: (وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟). وفي لفظ: (فياتيه ملكان فيجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرات كتاب الله، وآمنت به، وصدقت به، فذلك قول الله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} إبراهيم: 27، قال: (فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة) -، قال: (فياتيه من روحها وطيبها)، قال: (ويفسح له مد بصره)، قال: (وإن الكافر)، فذكر موته. وقال: (وتعاد روحه إلى جسده، فياتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري.
فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار)، قال: (وياتيه من حرها وسمومها)، قال: (ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)، قال: (ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا)، قال: (فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابا، ثم تعاد فيه الروح) (رواه أحمد (18733)، (4/ 287)، وأبو داود (4753). فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد، وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روي مثل حديث البراء في قبض الروح، والمسألة، والنعيم والعذاب، رواه أبو هريرة، وحديثه في المسند وغيره، ورواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند راسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الصدقة عن شماله، وكان فعل الخير من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان عند رجليه، فياتيه الملكان من قبل راسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أصغت للغروب، فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، نشهد أنه رسول الله، جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله.
ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها؛ فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل روحه نسم طير يعلق في شجر الجنة)، قال: (فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} إبراهيم: 27). وذكر في الكافر ضد ذلك؛ أنه قال: (يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: {له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه: 124) (الإحسان (3113)، (7/ 380)، هذا الحديث أخصر، وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن، فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر، وهو في المسند وغيره بطوله. وهو حديث حسن ثابت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند راسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة ورضوان.
قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فياخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى ياخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، فينتهون به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له. قال: فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة. فيقول: اكتبوا عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، وياتيه ملكان فيجلسانه، وذكر المسألة كما تقدم، قال: وياتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي قد كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند راسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وغضبه، فتفرق في أعضائه كلها، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول؛ فتقطع معها العروق والعصب. قال: فياخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى ياخذوها فيجعلوها في تلك المسوح. قال: فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها فلا يفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين} الأعراف: 40، ثم يقول الله تعالى: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، قال: فتطرح روحه طرحا.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} الحج: 31، قال: فتعاد روحه في جسده، فياتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري)، وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: (وياتيه رجل قبيح الوجه، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد. فيقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي لا ياتي بالخير؟ قال: أنا عملك السوء. فيقول: رب لا تقم الساعة، ثلاث مرات) (تقدم تخريجه).
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن، خلافا لضلال المتكلمين، وأنها تصعد وتنزل، خلافا لضلال الفلاسفة، وأنها تعاد إلى البدن، وأن الميت يسأل، فينعم أو يعذب، كما سأل عنه أهل السؤال، وفيه أن عمله الصالح أو السيئ ياتيه في صورة حسنة، أو قبيحة. وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه؛ إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقررانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل –محمد -؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه محمد عبد الله ورسوله، قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما كليهما). قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون. ثم نرجع إلى حديث أنس (وياتيان الكافر والمنافق، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس. فيقول: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة، فيسمعها من عليها غير الثقلين) (رواه البخاري (1338)، ومسلم (2870).
وروى الترمذي، وأبو حاتم في صحيحه – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لهما: منكر، والآخر نكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل – محمد -؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له فيه، ويقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك) (رواه الترمذي (1071)، (3/ 374)، وأبو حاتم في صحيحه، الإحسان (3117)، (7/ 386).
من حديث أبي سلمة يحيى بن خلف البصري عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري، وأبو سلمة لم يوثقه إلا ابن حبان)، وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك؛ مما يبين أن البدن نفسه يعذب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا، حتى ياتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح! متى جاءتكم من الأرض؟ فياتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، يسألونه: ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه في غم الدنيا. فإذا قال: إنه أتاكم قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي مسخوطا عليك إلى عذاب الله، فتخرج كأنتن جيفة، حتى ياتوا به أرواح الكفار». رواه النسائي والبزار (رواه النسائي (1834)، كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 414)، ورواه مسلم مختصرا عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند الكافر ونتن رائحة روحه: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا ((2872). والريطة: ثوب رقيق لين، مثل الملاءة.
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه، وقال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة، فإذا قبضت نفسه جعلت في حريرة بيضاء، فتنطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحا أطيب من هذه الرائحة، فيقال: دعوه يستريح؛ فإنه كان في غم الدنيا. فيقال: ما فعل فلان، ما فعلت فلانة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض، تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها في الأرض السفلى) (الإحسان (3013)، (7/ 283)، ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه. وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) رواه النسائي، ورواه مالك والشافعي كلاهما (رواه النسائي (2075)، ومالك في الموطأ، كتاب الجنائز (49)، (1/ 240). وقوله: (يعلق) بالضم، أي: ياكل، وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال: (بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت)، وهذا يوافق ما روي (أن الروح قد تكون على أفنية القبور) كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) (ذكره ابن كثير في تفسيره (6/ 330). وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تاكل أجساد الأنبياء) ((1047).
وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه؛ مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن، ومنعمة ومعذبة» (مجموع الفتاوى (4/ 285 – 296).