قوله :"وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف".
وهذا هو «الصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأمة قبلهم وبعدهم؛ أتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله؛ حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسما لمجرد المعاني، ولا لمجرد الحروف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما» (المصدر السابق (2/ 541)، وينظر: مجموع الفتاوى (12/ 456، وما بعدها)، (12/ 567).
«والله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآنا، وكتابا، وكلاما، فقال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} الحجر: 1، وقال: {طسم * تلك آيات الكتاب المبين} الشعراء: 1 - 2، وقال: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} الأحقاف: 29، إلى قوله تعالى: {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا} الأحقاف: 30، فبين أن الذي سمعوه هو القرآن، وهو الكتاب، وقال: {بل هو قرآن مجيد} البروج: 21 الآية ... » (مجموع الفتاوى (12/ 125)، وقد أخبر سبحانه عن تكليمه موسى في آيات عديدة، وقد «وكد تكليمه لموسى بالمصدر» (المصدر السابق (12/ 39)، وفي ذلك «دليل على تكليم سمعه موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال: إنه يسمع فهو مكابر» (المصدر السابق (12/ 130).
«ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجميع كلام الله، وقال تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل} النحل: 101 إلى قوله: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} النحل: 103، كان بعض المشركين يقولون: إن محمدا إنما يتعلم القرآن من عبد لبني الحضرمي، فقال الله تعالى: لسان الذي يضيفون إليه القرآن لسان أعجمي، وهذا لسان عربي مبين، وهذا يبين أن محمدا بلغ القرآن لفظه ومعناه، لم ينزل عليه معان مجردة؛ إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقال: تلقى من هذا الأعجمي معاني صاغها بلسانه، فلما ذكر قوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} النحل 103 بعد قوله: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} النحل: 102 دل ذلك على أن روح القدس نزل بهذا اللسان العربي المبين» (المصدر السابق (6/ 536).
وقد خالف أهل السنة في هذا عبد الله بن كلاب؛ حيث قال: «ليس كلام الله إلا مجرد المعنى، وإن الحروف ليست من كلام الله، وتابعه على ذلك أبو الحسن الأشعري» (المصدر السابق (12/ 376)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 266)، على أن ابن كلاب «هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله» (مجموع الفتاوى (12/ 272) كما تقدم. ومنشأ قولهم هذا نفي قيام الأفعال الاختيارية بالرب جل وعلا، "فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا أقوالهم في مسألة القرآن" (درء تعارض العقل والنقل (2/ 18). وهو منشأ ضلال كل من ضلوا في هذه الصفة (درء تعارض العقل والنقل (4/ 24). ولأن الكلام عرض، والعرض لا يقوم إلا بجسم (النبوات (1/ 145).
وعلم من كلامه أن الأقوال في هذه المسألة «ثلاثة أقوال» (الاستقامة (1/ 211) تقدم اثنان، وأما الثالث فهو أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس، أو قلب، أو نحو ذلك؛ اسم لمجرد الحروف، وهو قول لطائفة «من أهل الكلام، والفقه، والعربية» (المصدر السابق، وقد ذكرهم أيضا في التسعينية (2/ 440)، ورد عليهم). وقد قال السلف: إن من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق مبتدع، ومن قال: مخلوق فهو جهمي (دقائق التفسير (2/ 182).