"فصل :ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق".
في هذا الفصل بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة القرآن. ولا غرو في كون الإيمان بأن القرآن كلام الله من الإيمان بالله، فإن الكلام صفته، كما أن «الإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو كفر بهذا، فتدبر هذا الأصل؛ فإنه فرقان هذا الاشتباه. ولهذا كان من يكفر بالرسل، تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين، مثل فرعون وقومه، قال الله تعالى: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} يونس: 2 الآية، وقال تعالى عن نوح وهود: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} الأعراف: 63، 69، وقال: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} الأنعام: 91 إلى آخر الكلام؛ فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، وقال عن الوحيد: {إن هذا إلا قول البشر} المدثر: 25، ولهذا كان أصل الإيمان الإيمان بما أنزله، قال تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} (مجموع الفتاوى (12/ 7 – 8) و«لهذا عظم تقرير هذا الأصل في القرآن، فتارة يفتتح به السورة؛ إما إخبارا كقوله: {ذلك الكتاب} البقرة: 2، وقوله:{الر تلك آيات الكتاب الحكيم} يونس: 1 ... » (المصدر السابق (12/ 8)، «وإما ثناء بإنزاله؛ كقوله: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} الكهف: 1، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} الفرقان: 1 الآية. وأما في أثناء السور فكثير جدا» (المصدر السابق (12/ 9).
«ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، كالأئمة الأربعة وغيرهم، ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق» (المصدر السابق (12/ 37). «فأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة» (المصدر السابق (12/ 504).
وهذا هو «المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفا عن سلف عن نبيها؛ أن القرآن جميعه كلام الله» (التسعينية (2/ 512). ومن المعلوم «بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله» (درء تعارض العقل والنقل (2/ 252)؛ فإن «من تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنفة في السنة ... رأى في ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة والتابعين ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات؛ المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه» (المصدر السابق (7/ 109). «فكان الصحابة، والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله، وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره» (الجواب الصحيح (4/ 333)، وينظر أيضا: (4/ 335، 340)، ومجموع الفتاوى (12/ 37)، وعلى هذا «استقر أهل السنة والجماعة، وجماهير الأمة، وأعلام الملة في شرقها وغربها» (مجموع الفتاوى (12/ 355).
فالقرآن كلام الله من القضايا الظاهرة المتواترة التي من جحدها كفر (المصدر السابق (6/ 57).
وهذه المسألة قد جرى فيها على أهل السنة فتنة عظيمة زمن الإمام أحمد رحمه الله، فكان أول من عرف أنه قال: القرآن مخلوق الجعد بن درهم (وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف بالقول أنه قديم هو ابن كلاب. مجموع الفتاوى (12/ 355)، (5/ 465)، «ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس، ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما – تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا – ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق، ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر راي جهم ... » (المصدر السابق (8/ 229)، وينظر: (5/ 552، 558)، (12/ 301)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 277، وما بعدها) درء تعارض العقل والنقل (10/ 250)، «وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المامون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه؛ أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا، وأطلقوه» (مجموع الفتاوى (14/ 352).
وهذه المسألة «قد كثر فيها الاضطراب، حتى قال بعضهم: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام» (المصدر السابق (5/ 552)، وسبب هذا الضلال، والحيرة، والاضطراب القياس الفاسد في العقليات، والتاويل الفاسد في السمعيات، «فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} البقرة: 176» (درء تعارض العقل والنقل (2/ 301)، و «هذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب» (المصدر السابق (5/ 256). و «الناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعا كثيرا، والطوائف الكبار نحو ست فرق» (مجموع الفتاوى (12/ 42)، وينظر هذه الأقوال مبسوطة في منهاج السنة النبوية (2/ 358 – 363) وأبرز هذه الأقوال ما يلي:
أولا: «أنه متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق خلقه في غيره» (الجواب الصحيح (2/ 162). «وهذا قول الجهمية (الجهمية ثلاثة فرق: 1. يقولون: إنه مخلوق 2. يقولون: لا نقول: مخلوق ولا غير مخلوق 3. يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق. درء تعارض العقل والنقل (1/ 260)، قابلهم فرقة قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق) والمعتزلة (المعتزلة يثبتون أنه متكلم حقيقة، لكن مرادهم أنه كلام مخلوق. درء تعارض العقل والنقل (2/ 304)، وهذا القول مخالف للكتاب، والسنة، وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم» (مجموع الفتاوى (12/ 48).
ثانيا: «أنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلا وأبدا» (المصدر السابق (12/ 49)، «وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب» (المصدر السابق). والقائلون بهذا القول «لهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمرا، ونهيا وخبرا، وهذه صفات له، لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة» (الجواب الصحيح (2/ 163)، و «هذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره» (منهاج السنة النبوية (2/ 360)، وقد ناقش الشيخ رحمه الله هذه الأقوال مناقشة مطولة في مواضع كثيرة، بين فيها ضعفها وتناقضها، ومخالفتها للنصوص من الكتاب والسنة وما جاء عن السلف، وما تدل عليه صرائح العقول، فليراجع فإنه منهم).