وقوله: {الرحمن على العرش استوى} في سبعة مواضع:
في سورة الأعراف قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} الأعراف: 54.
وقال في سورة يونس: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} يونس: 3.
وقال في سورة الرعد: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش} الرعد: 2.
وقال في سورة طه: {الرحمن على العرش استوى} طه: 5.
وقال في سورة الفرقان: {ثم استوى على العرش الرحمن} الفرقان: 59.
وقال في سورة آلم السجدة: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} السجدة: 4.
وقال في سورة الحديد: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} الحديد: 4.
في هذه الآيات الكريمات إثبات استواء الله تعالى على عرشه، وقد دل على هذه الصفة «نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين الأولين والآخرين» (التسعينية (2/ 545). فهو «ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل» (مجموع الفتاوى (2/ 188). «والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر علماء الأمة متواترة عند من تتبعها، قد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا، وكبارا» (التسعينية (2/ 565)، «بل من أكثر النظر في آثار الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالاضطرار أنه ألقى إلى الأمة أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء، وعلا كل شيء، فوق العرش، وفوق السماوات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير» (المصدر السابق (2/ 568). فأدلة ثبوت صفتي الاستواء على العرش والعلو كثيرة جدا، فهي «مما لا يحصيه إلا الله مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية» (مجموع الفتاوى (5/ 15).
وصفة «الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر» (المصدر السابق (5/ 523)، وينظر: (5/ 227). (3/ 49)، وهي من الصفات الفعلية. وهذا «قول أئمة أهل الحديث والسنة» (المصدر السابق (5/ 397 – 398). والمنقول عن السلف في معنى الاستواء لا يخرج عن أربعة معان (انظر: درء تعارض العقل والنقل (2/ 21 – 22)، مجموع الفتاوى (16/ 399 – 403). قد ذكرها ابن القيم – رحمه الله – في نونيته عند كلامه على الاستواء فقال:
«ولهم عبارات عليه أربع ... قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... . . . . . . . . . . . . . .»
وهذه المعاني كلها منقولة عن السلف، وهم «وإن اختلفت عباراتهم فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله على عرشه» (مجموع الفتاوى (5/ 521)، فإنهم قد «فسروا الاستواء بما يتضمن الارتفاع فوق العرش» (مجموع الفتاوى (16/ 359).
واستواء الله تعالى على عرشه هو علوه عليه، لكن «الاستواء علو خاص، فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستويا عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليا على غيره: إنه مستو عليه، واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره فإنه عال عليه، والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السماوات والأرض الاستواء لا مطلق العلو». «فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله - سبحانه وتعالى - بمشيئته وقدرته» (مجموع الفتاوى (5/ 522 – 523). «فالاستواء من الألفاظ المختصة بالعرش لا تضاف إلى غيره؛ لا خصوصا، ولا عموما» (المصدر السابق (17/ 376). ولذلك «اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال: استوى على هذه الأشياء» (المصدر السابق (5/ 145)، أي: على البحار والأرض وغيرها. فلفظ الاستواء «نوعان: مطلق ومقيد. فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف، مثل قوله: {ولما بلغ أشده واستوى} القصص: 14 وهذا معناه كمل وتم، يقال: استوى النبات واستوى الطعام. وأما المقيد فثلاثة أضراب: أحدها: مقيد بإلى كقوله: {ثم استوى إلى السماء} البقرة: 29 ...
وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف ... والثاني: مقيد بـ (على) كقوله: {واستوت على الجودي} هود: 44 ... وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال باجماع أهل اللغة. الثالث: المقرون بواو مع التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها». «وأول من عرف عنه في هذه الأمة أنه نفى أن يكون الله في سماواته على عرشه هو جهم بن صفوان، وقبله الجعد بن درهم، ولكن الجهم هو الذي دعا» (اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 139).
وقد ضل في هذه الصفة طوائف، فأنكروا الاستواء، وكان أعظمهم ضلالا الجهم بن صفوان، فقد «روى ابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد مقالة الجهم أنه كان يقرأ طه والمصحف في حجره، فلما أتى على هذه الآية: {الرحمن على العرش استوى} طه: 5، قال: أما والله لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت" (اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 139 - 140).
وسبب ذلك الضلال «أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين، أو استواء يستلزم حدوثا ونقصا. ثم يقولون: فيتعين تاويله: إما بالاستيلاء، أو بالظهور والتجلي، أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة» (التسعينية (2/ 567 – 568)، وينظر: مجموع الفتاوى (16/ 395). «وليس في ظاهر كلام الله عز وجل ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك، بل توهم هذا من سوء الفهم، لا من دلالة اللفظ» (الجواب الصحيح (4/ 427). فالله «تعالى يحمل العرش وحملته بقدرته، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا» (امجموع الفتاوى (5/ 199).
وتاويل الاستواء بالاستيلاء مردود؛ فهو باطل من حيث اللغة واللسان، ومن حيث ما نقل عن السلف، فإن «أهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى، أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سماواته، فهو جهمي ضال» (المصدر السابق (2/ 545). درء تعارض العقل والنقل (7/ 328).
وحجتهم في هذا التاويل ما نسب للأخطل النصراني:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق
واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} طه: 5 قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان. من طريق عبد الله الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه. قال ابن القيم: حديث منكر، ونقلته مجهولون ضعفاء؛ فالواسطي وعبد الوهاب ضعيفان، وإبراهيم مجهول لا يعرف (اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 80).وقال ابن الأعرابي النحوي لمن فسره بالاستيلاء: ويحك إن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة، والله لا يغالبه أحد. وهذا «أمر بين واضح لكل ذي عين بصيرة وقلب سليم» (راجع في ذلك: مجموع الفتاوى (5/ 144 – 149)، فقد ذكر اثني عشر وجها لإبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء (17/ 374 – 379).
وقد ضل في هذه الصفة أيضا نفاة الصفات الاختيارية الفعلية عن الله تعالى، «ولهذا كان قول ابن كلاب والأشعري والقلانسي، ومن وافقهم من أتباع الأئمة وغيرهم، من أصحاب أحمد وغيرهم: أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش، ومعنى ذلك: أنه يحدث في العرش قربا، فيصير مستويا عليه من غير أن يقوم به -نفسه- فعل اختياري» (مجموع الفتاوى (5/ 437)، وينظر: (16/ 393 – 395).
والقائلون بمنع قيام الصفات الاختيارية حجتهم داحضة وشبهتهم واهية (انظر درء تعارض العقل والنقل (2/ 115، وما بعدها)، مجموع الفتاوى (6/ 145 – 184)؛ فإن «السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا» (درء تعارض العقل والنقل (2/ 99). «والنصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال. وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة» (المصدر السابق (2/ 150).