المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده – جل ذكره – لا أحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛
فغير خاف على أهل العلم، وطلابه، والمشتغلين به ما للعقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من المكانة، والأهمية، والمنزلة بين الكتب المؤلفة في بيان عقيدة السلف. هذا وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سبب تاليف هذه العقيدة في المناظرة التي أقيمت له في شانها: «أنه قدم علي من أرض واسط ("تاريخ واسط" ص (38) بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له: رضي الدين الواسطي من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجا، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم. وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة؛ فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال، وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة، وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما» ("مجموع الفتاوى" (3/ 164).
ولا عجب؛ فإن هذه العقيدة المباركة الذائعة الصيت، والحائزة السبق، عظيمة النفع في توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة على قلة ألفاظها، وسهولة عبارتها. والذي رشحها لهذا أسباب عديدة؛ منها:
1 - أن ما تضمنته هذه العقيدة المباركة معتمد على ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وذلك في ألفاظها ومعانيها، وقد أبان شيخ الإسلام عن هذه المزية في المناظرة التي جرت في هذه العقيدة، فقال: «أنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة» ("مجموع الفتاوى" (3/ 165)، وقال أيضا: «وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية، أو حديثا، أو إجماعا سلفيا» ("المصدر السابق" (3/ 189).
2 - أن ما تضمنته هذه الرسالة المباركة هو نتيجة، وثمرة تتبع شيخ الإسلام – رحمه الله – لأقوال السلف، واستقرائها في باب أسماء الله وصفاته، واليوم الآخر، والإيمان، والقدر، والصحابة، وغير ذلك من مسائل الأصول والاعتقاد، قال – رحمه الله – في كلامه عن هذه العقيدة: «ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم» ("مجموع الفتاوى" (3/ 169).
3 - أن المؤلف – رحمه الله – بذل الوسع والطاقة في تحرير طريقة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة تحريرا بالغا دقيقا، حتى قال: «قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالف ما ذكرته، فأنا راجع عن ذلك» (المصدر السابق.). ولقد عدل – رحمه الله – عن استعمال بعض الألفاظ المشتهرة؛ كالتاويل والتشبيه ونحوهما؛ لكونها ليست في الكتاب والسنة، وإن كان قد يعنى بها معنى صحيح (انظر: المصدر السابق (3/ 165 - 166).
4 - أنه على صغر حجم هذه العقيدة المباركة، إلا أنها اشتملت على غالب مسائل الاعتقاد، وأصول الإيمان، إضافة إلى بيان المسلك العملي الخلقي لأهل السنة والجماعة.
ولقد حظيت هذه العقيدة بالقبول عند أهل العلم قديما وحديثا، فأثنى عليها أهل العلم، وذكروها بالجميل، فقال الذهبي – رحمه الله – في كلام له على هذه الرسالة: «وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد» ("العقود الدرية" (ص: 212)، وقال ابن رجب – رحمه الله –: «وقع الاتفاق على أن هذه عقيدة سنية سلفية» ("الذيل على طبقات الحنابلة" (2/ 396)، وقال عنها الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله-: «جمعت على اختصارها، ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده في أصول الإيمان، وعقائده الصحيحة» ("التنبيهات اللطيفة" للسعدي (ص: 6).
ولهذا اعتنى أهل العلم وطلابه بهذه العقيدة حفظا، وتدريسا، تعلما، وتعليما. وقد شرحت بشروح كثيرة متنوعة، بسطا واختصارا، وفي كل خير، لكن لما كانت هذه العقيدة بمثابة الخلاصة والنبذة لما بسطه شيخ الإسلام رحمه الله، وفصله في مؤلفاته، وكتبه، ورسائله؛ بدا لي أن خير من يوضح ما اشتملت عليه هذه العقيدة، ويبينه هو مؤلفها رحمه الله، فاستعنت بالله تعالى في تتبع كلامه، وجمعه، ثم انتقاء ما يوضح مقصود الرسالة، ويبسط موجزها، ثم تنسيق ذلك، والتاليف بين هذا الدر المنثور لينتظم العقد، ويتحقق القصد. ولإتمام الفائدة وتوثيق المادة، عزوت جميع ما نقلته من كلامه – رحمه الله – سواء كان النقل نصا، وهو الغالب، أو كان بالمعنى، وهو قليل نزر. وما لم أجد فيه كلاما للشيخ – رحمه الله – رجعت فيه إلى تلميذه ابن القيم رحمه الله، وهذا قليل أيضا. ولم أخرج عن هذا الصراط إلا في عدة مواضع، نقلت فيها كلاما للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.
فأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بالأصل، وأن يجعله عملا مقبولا، تعظم به الحسنات، وترفع به الدرجات؛ إنه بر جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، وسلم تسليما كثيرا.
كتبه
خالد بن عبد الله بن محمد المصلح
9/ 4 / 1421 هـ
القصيم عنيزة
ص. ب 1060