قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب في اليقين والتوكل:
عن أم المؤمنين أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية حذيفة المخزومية ـ رضي الله عنها ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا خرج من بيته، قال: «بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» وهذا لفظ أبي داود.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فهذا الحديث حديث أم سلمة هند زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تضمن ذكر سبب من أسباب تحقيق التوكل على الله ـ عز وجل ـ وذاك من طريق الإقبال عليه بالسؤال والطلب والدعاء والإلحاح في تحصيل المطالب وإدراك ما يؤمل والسلامة مما يخاف ويكره.
تقول ـ رضي الله تعالى عنها ـ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج أي من بيته إذا خرج من بيته سواء كان ذلك الخروج إلى الصلاة أو إلى غيرها من الأعمال الدينية أو الدنيوية كان إذا خرج من بيته قال: «بسمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ»[سنن الترمذي (3427)، وقال: حسن صحيح] أي أفتتح ذكري ودعائي بسم الله ـ عز وجل ـ الذي قال عنه تعالى ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن: 78] فمن بركته أنه تتفتح به الأمور جل في علاه، فمن بركة أسمائه ـ سبحانه وبحمده ـ أنها تفتح بها الأمور طلبًا للعون والتوفيق والتسديد وحصول المطلوب.
شمول التوكل لكل ما يسعى إليه الإنسان:
توكلت على الله؛ أي: أتوكل على الله عز وجل، وأعتمد عليه في خروجي هذا في تحصيل كل مطلوب. والتوكل هنا شامل لكل ما يسعى إليه الإنسان من مصالح دينه ودنياه فإنه لو لم ييسر الله ـ تعالى ـ للعبد ما يطلبه ما تيسر مهما كان سواء كان مطلبًا دينيًا أو دنيويًا والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا هذا في المطالب الشرعية الدينية والدنيوية فكل شيء بيده جل في علاه وإليه ولا يمضي إلا بأمره، فلا تطلب شيئًا إلا من قبله لتدرك ما تؤمل.
فقولك عند الخروج بسم الله أي خروجي بسم الله مصطحبًا اسم الله ـ عز وجل ـ في هذا الخروج طالبًا منه العون والتوفيق مفتتحًا به مستجلبًا كل خير مستدفعًا كل شر.
التوكل ثم السؤال:
بسم الله توكلت على الله ثم جاء السؤال والطلب فقال: «اللَّهمَّ إني أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أجهلَ أو يُجهلَ عليَّ»[سنن أبي داود (5094)] أربع مسائل كل مسألة من شقين.
التعوذ من الضلال:
المسألة الأولى: «اللَّهمَّ إني أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضلَّ» يعني يقع الضلال وهو الخروج عن الصراط المستقيم من قبل نفسي فأترك الهدى من قبل نفسي بعلم أو بجهل فإن كل من خرج عن الصراط المستقيم قد ضل سواء كان عالمًا أو جاهلًا.
والشق الثاني من هذه المسألة السلامة من الضلال أو أضل أي أن يضلني أحد بأن يهديني إلى غير الهدى أو يقودني إلى غير التقى أو يزين لي الردى.
التعوذ من الزلل:
والثاني أن أزل أو أزل الزلل هو الخطأ الحاصل من الإنسان سواء كان ذلك بفعله أو بتزيين غيره فإن الزلل هو الفعل الخطأ، والفرق بينهما فيما يظهر والله ـ تعالى أعلم ـ أن الضلال يقع بعلم أو بغير علم والزلل قال بعض أهل العلم أنه ما يقع من المخالفة خطأ فهو استعاذة بالله من أن يقع منه خروج عن الصراط المستقيم بخطأ وهذا من كمال الطلب أن يطلب الإنسان من الله ـ عز وجل ـ السلامة من الانحراف ما كان من قبل نفسه وفعله وما كان من جراء خطأه وعدم قصده.
أو أزل أي أن يزلني أحد فيوقعني بالخطأ من غير قصد.
التعوذ من الظلم:
أو أظلم أو أظلم ما تقدم من الضلال والزلل يشمل كل شيء، لكن ذكر الظلم هنا على وجه الخصوص لعظيم حاجة الإنسان إلى السلامة منه لاسيما في خروجه لأن خروجه موضع مخالطة الناس، وموضع التعامل معهم وما أكثر ما يبغي الناس بعضهم على بعض كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[ص: 24] والبغي هو الظلم فاحتاج إلى أن يسأل الله السلامة من أن يظلم فقال: أو أظلم سواء كان ذلك في النفس أو في المال أو في العرض أو في غير ذلك أو أظلم أن يقع علي ظلم من غيري.
التعوذ من الجهل:
وأما رابع المسائل فهو السلامة من الجهل أو أجهل أو يجهل علي والجهل يطلق على شيئين؛ الشيء الأول عدم العلم وهذا هو الغالب في الاستعمال من لم يعلم شيئًا فقد جهله.
والمعنى الثاني من معاني الجهل عدم العمل بالعلم يعرف ويعلم لكنه يخالف ذلك، وهذا المعنى قليل حضوره في أذهان الناس في معنى الجهل، فالجهل هو عدم العلم وهو أيضًا عدم العمل بالعلم لقول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾[النساء: 17] يعني يعملون السوء وهم يعلمون وليس المقصود بالجهالة أنهم لا يعلمون، لو كانوا لا يعلمون ما أوخذ إذ إن التكاليف تابعة للعلم، لكن الجهالة هنا هي عدم العمل بالعلم.
ومثل ما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي ذر لما عير رجل بأمه قال: يا ابن السوداء قال: "إنك امرؤ فيك جاهلية"صحيح البخاري (30), وصحيح مسلم (1661) يعني فيك خصلة من خصال الجاهلية بترك العمل بالهدى وما جاء به دين الحق، وهذه الدعوة الأخيرة الرابعة وهي الاستعاذة بالله من أن يجهل أو يجهل عليه شاملة لكل المعاني السابقة فإنه يحصل بها السلامة من الضلال، ومن الإزلال والزلل، ومن الظلم ولذلك قال: أو أجهل أو يجهل علي ويمكن أن يقال: إن الجهل هنا المقصود به الاعتداء فذكر الظلم المتعلق بالأموال ونحوها ثم خص الجهل وهو المخاصمات والهيشات التي تكون بين الناس فهذا يسمى جهل.
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَإِذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فلا يَرْفُثْ يَومَئذٍ وَلَا يَسْخَبْ» صحيح البخاري (1904) وصحيح مسلم (1151) يعني ما يخاصم ويهاوش ويدخل في جدال ومناقشة.
فقول: أو يجهل أو أجهل أو يجهل علي يحتمل هذا المعنى أي أن أقع في خصام ومجادلة وهيشات وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الهيشات فقال: "إياكم والهيشات" يعني الهواش في الأسواق وذلك أن الأسواق محل الخصام والمشاجرات والممحكات التي تقع بين الناس.
هذه أربع دعوات يقولها، أربع معاني بشقيها أن تكون من الإنسان أو أن تكون واقعة عليه من غيره أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي من حصلها كان خروجه راشدًا سالمًا من كل مؤاخذة محصلًا كل فضيلة وحسنة ومفتاح ذلك أن تلجأ إلى الله في تحصيل هذه المطالب.
ولذلك افتتح بذكر التوكل « بسمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ اللَّهمَّ إني أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أجهلَ أو يُجهلَ عليَّ» كل ما خرجت من بيتك قل هذا الذكر فإنك ما قلت ذلك الذكر إلا ونلت من الله خيرًا وفضلًا.
الحرص على الدعاء:
وهذا الحديث فيه بيان حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدعاء وعلى تعليم أمته حيث كان يظهر هذا ويحفظه عنه أصحابه، وفيه أيضًا أن النبي على عظيم ما جبله الله من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة محتاج إلى عون الله في السلامة من الضلال ومن الإزلال ومن الظلم ومن الجهل، فلا غني بأحد عن أن يلح على الله في الطلب.
التوكل مفتاح العطايا:
وفي فضيلة التوكل وأن التوكل مفتاح العطايا، فمن توكل على الله فهو حسبه، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3] وفي افتتاح الدعاء بسم الله فإن اسمه مبارك جل في علاه وبركة اسمه يحصل بها للإنسان كل خير، ولذلك تأمل سورة الرحمن بماذا افتتحها الله عز وجل ؟ ﴿الرَّحْمَنُ﴾[الرحمن: 1] بماذا ختم السورة؟ ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن: 78] ما الذي بينهما؟ بينهما ذكر آلاء عظيمة وفضائل كبيرة في الدنيا والآخرة.
ولذلك كان يقول في الآيات وبينها: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾[الرحمن: 13] كل هذه الهبات والعطايا والخيرات هي من بركة اسم الرحمن، ولذلك ختم السورة بالتنبيه إلى أن كل ما تقدم هو من بركة اسمه –سبحانه وبحمده- ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن: 78] لكن قل هو مستحضرًا عظيم البركة باسمه، فإن أسمائه مباركة يحصل بها صلاح القلب واستقامة العمل وإدراك مصالح الدنيا والآخرة.
نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد في القول والعمل، أن يرزقنا ذكره وشكره وحسن عبادته وصلى الله وسلم على نبينا محمد.