قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه رياض الصالحين: بابٌ في الاستقامة.
قَالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: من الآية 112]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)﴾ [فصلت: 30 - 32]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)﴾ [الأحقاف: 13، 14].
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالاستقامة التي أمر الله بها في قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ ورتب على حصولها الأجر العظيم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ وما إلى ذلك من الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ثواب الاستقامة حقيقتها لزوم الصراط المستقيم.
ما الاستقامة؟
فالاستقامة هي أن يلزم الإنسان الصراط المستقيم جهده وطاقته، وهذا مما أمر الله تعالى به سيد الورى، وكان من أشد ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله جل وعلا: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ فهذه الآية ذكر ما ذكر ابن عباس وغيره أشق آية وأشدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله ـ تعالى ـ بالاستقامة، والاستقامة لزوم الصراط المستقيم، ولزوم الصراط المستقيم أن يفعل الإنسان ما أمر الله ـ تعالى ـ به من توحيده فيخلص العمل له، ويعمل بأمره فيما فرضه ويترك ما نهى عنه.
ولا شك أن هذا على وجه الدوام، مما يحتاج إلى دوام مجاهدة ودوام مراقبة ودوام تنبه، ودوام استعداد وكثرة توبة واستغفار، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما جاء في الحديث «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» سنن ابن ماجة (277) يعني لن تستطيعوا أن تبلغوا الغاية في تحقيق الاستقامة من كل وجه، بل لا بد من قصورٍ أو تقصير، فيكون علاج ذلك بالتوبة والاستغفار.
ولذلك ذكر الله عز وجل من تاب مع النبي في سياق أمره بالاستقامة فقال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾، فإن لزوم الاستقامة على وجه الدوام في كل شأنٍ وحال مما يحتاج فيه الإنسان إلى دوام توبةٍ واستغفار لتخفيف ما يكون من قصورٍ أو تقصير، ومحو ما يكون من خطأٍ وزلل.
مواطن الاستقامة:
والاستقامة تكون في النية بإخلاص العمل لله ـ عز وجل ـ وتكون في العمل بأن يكون على وفق ما أمر الله ـ تعالى ـ به في كتابه فعلاً ما أمر، وكذلك تكون بترك ما نهى عنه وزجر، وإذا حقق العبد هذه الخصال الثلاثة, فإنه يفوز بالاستقامة، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لو عجز عن تحقيق الاستقامة فلا ينبغي أن يباعد عنها، أن يبعد عنها بل يقارب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا»[صحيح البخاري (6464)، ومسلم (2818)] ولا يعني هذا أن يقصد الإنسان الدون، بل المطلوب قصد الاستقامة في النية والقول والعمل والحال وفي سائر الشأن، لكن عندما تفوت الإصابة فلا أقل من المقاربة.
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا»، ونحن في كل صلاةٍ نقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، نسأل الله الاستقامة بهذا، كل ما ذكرت ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فتذكر أنك تسأل الله الاستقامة في نيتك، الاستقامة في قولك، الاستقامة في عملك، الاستقامة في حالك، الاستقامة في خاصة نفسك وفي معاملتك لغيرك، كل ذلك مما يتحقق به للإنسان النجاة والفوز.
تنزُّلُ الملائكة على المستقيمين:
وقد رتب الله على الاستقامة تنزل الملائكة تثبيتًا وتسديدًا وإعانةً وتوفيقًا، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا﴾ وليس هذا فقط عند الموت، بل تتنزل عليهم في كل المواطن التي يحتاجون فيها إلى تثبيت وإلى تسديد وإلى إعانة وإلى توفيق، فضل الله واسع، فمن أقبل عليه وجد منه خيرًا عظيمًا وبرًا جزيلاً.
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ تأمل ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ ولاية الله لعبده بتحقيق الاستقامة ولزومها، والولاية تقتضي المحبة والنصرة، جعلنا الله وإياكم من أوليائه وحزبه وسلك بنا صراطه المستقيم، وثبتنا على الحق واهدى وختم لنا بخير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.