قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه رياض الصالحين: بابٌ في الاستقامة.
عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله قُلْ لي في الإسلام قَوْلًا لا أسأَلُ عَنهُ أحدًا غيرك، قال: «قُلْ: آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم» رواه مسلم حديث رقم (38).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
سؤال عن جماع الخير:
هذا الحديث حديث سفيان بن عبد الله الثقفي ـ رضي الله تعالى عنه ـ ذكر فيه سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مسألةٍ وصفها بوصفٍ بين فيه ما تجمعه من الخير وما في هذه المسألة من الكفاية فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سؤاله أنه يسأله عن مسألةٍ لا يسأل عنها أحدًا غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني لا يطيق أحدٌ أن يجيب على هذا السؤال بإجابةٍ شافيةٍ جامعة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قُلْ لي في الإسلام قَوْلًا لا أسأَلُ عَنهُ أحدًا غيرك) أي أخبرني في شأن الإسلام وما يجمع خصاله وما يحقق ما يجب على الإنسان فيه قولاً لا أتوجه فيه إلى السؤال، إلى سؤال غيرك، بمعنى أنه لا يحسن الجواب عليه إلا أنت، فهو الممدود بالوحي من السماء، الممنوح الفضل من الله بإعطائه جوامع الكلم، فقد جمع الله له كمال العلم وكمال النصح وفصاحة المنطق بما أعطاه من جوامع الكلم.
فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجيبًا على هذا السؤال: «قُلْ: آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم» فأجابه جوابًا مختصرًا يبين كيف يحقق الإنسان الإسلام الذي لا يقبل الله سواه، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19]، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[آل عمران:85].
فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قُلْ: آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم» أي بما يجب الإيمان به من وجوده وربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، آمنت بالله ويشمل بقية أصول الإيمان التي لا يتم الإيمان إلا بها من الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والقول هنا لا يقتصر على قول اللسان الذي يتخلف عنه يقين القلب وإقراره، بل الإيمان هنا قولاً باللسان وقول القلب أيضًا يشمل قول اللسان وقول القلب، قول اللسان بتوحيد الله وقول القلب باعتقاد ذلك يقينًا جازمًا بالإخلاص له سبحانه وبحمده.
الاستقامة بعد الإيمان:
«قُلْ: آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم» أي: وأتبع صلاح القلب بالاستقامة، والاستقامة هي دوام الطاعة، وهي الاستمرار على الإصابة في القصد وفي القول وفي العمل وفي الحال بأن لا يخرج الإنسان عن الصراط المستقيم، وهذا يحتاج إلى دوام مراقبة واستمرار في الملاحظة وكثرة توبة واستغفار كما أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذًا وأبا ذر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» هذه الاستقامة «وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا»[سنن الترمذي (1987)، وقال: حسن صحيح] وهذا ما يكملها من تمام التوبة والاستغفار عن القصور والتقصير.
هذا الحديث على وجازة لفظه جمع علمًا غزيرًا ونفعًا كبيرًا، فيه فقه سفيان رضي الله تعالى عنه حيث سأله كلمةً جامعة عن الإسلام يكتفي بها عن سؤال غيره صلى الله عليه وسلم.
وفيه استجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا السائل بهذه الإجابة المختصرة.
يسر الإسلام وسماحته:
وفيه يسر الإسلام وسماحته وأن بيانه لا يحتاج إلى كبير لفظ، ولا إلى كثير قول، بل قال له في بيان الإسلام الذي يكتفي بمعرفته والعمل به في كلمتين «آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم» والإيمان بالله والاستقامة يترجمان حقيقة الإسلام.
وفيه من الفوائد: أن الإسلام لا يعتني بالظاهر دون الباطن ولا بالباطن دون الظاهر، بل يجمعهما، فالإيمان محله القلب والاستقامة محلها القلب، واللسان والجوارح فيما يكون منها من الأعمال، فالإسلام له ظاهرٌ وباطن، ولا يتحقق الإسلام الذي تحصل به النجاة ويرضاه رب العالمين إلا بصلاح الباطن وصلاح الظاهر.
صلاح الباطن بالإيمان وتحقيق معانيه، وصلاح الظاهر بالاستقامة على طاعة الرحمن في القول والعمل، وبهذا يكون ما تضمنه الحديث جليًا في تحقيق الاستقامة، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الاستقامة ظاهرًا وباطنًا وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يسلك بنا سبيل المتقين وأن يهدينا وأن ييسر الهدى لنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.