قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه رياض الصالحين: في بابٍ في الاستقامة.
وعنْ أبي هُريْرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَارِبُوا وسدِّدُوا، واعْلَمُوا أَنَّه لَنْ ينْجُو أحدٌ منْكُمْ بعملهِ قَالوا: وَلا أنْت يَا رسُولَ اللَّه؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إلاَّ أنْ يتَغَمَّدني اللَّه برَحْمةٍ منْه وَفضْلٍ»[ رواه مسلم (2574)]. والمقاربة القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير، والسداد الاستقامة والإصابة، ويتغمدني يلبسني ويسترني.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
هذا الحديث حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ تضمن ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في قلبه وعمله، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَارِبُوا وسدِّدُوا» المقصود بالمقاربة الاجتهاد في القرب من الحق وإصابته، وأما السداد في قوله: «وسدِّدُوا» أي اجتهدوا في أن تصيبوا الحق والهدى، فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ذكر في:
الوصول إلى الحق في القول والعمل والنية والقصد منزلتين:
منزلة سامية عليا، وهي التي ينبغي أن يجهد كل أحد في الوصول إليها، ومنزلة دون ذلك، المنزلة العالية هي الإصابة أن تصيب الحق في قولك وفي نيتك وفي عملك وفي حالك وفي سرك وفي إعلانك، وفيما بينك وبين ربك، وفيما بينك وبين الناس، هذا هو المطلوب الأول وهو أن تصيب الهدف وهو تحقيق طاعة الله في كل هذه المواضع في النية والقصد، في القول، في العمل، في الشأن كله.
لكن لما كان الإنسان قد يجد ويجتهد في إصابة الهدى والحق لكن لا يبلغه إما لقصور في نيته، وإما لقصورٍ في عمله، وإما لقصورٍ في علمه، فإنه ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي المقاربة، وهي أن يقرب من الحق طاقته وليس المقصود بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَارِبُوا» أن يكون الإنسان بعيدًا لا يقصد الحق، بل المقصود أن يقصد الحق فإذا لم يصبه لا يبعد عنه، هذا المراد بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَارِبُوا».
لكن من حيث القصد والطلب أنت اطلب الحق واسع إلى إصابته والوصول إليه، لكن إن عجزت لأي سبب من الأسباب إما لقصورٍ أو تقصير فلا تبعد عن الهدف، لا تبعد عن الغاية، فإن بعدك عنها هو ضلالٌ وغواية.
المراتب ثلاثة:
سداد، مقاربة، غواية، فإذا خرجت عن المقاربة والسداد لم يبقى إلا الضلال والغواية، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَارِبُوا وسدِّدُوا» أي ابذلوا الجهد في إصابة الحق في كل شأنكم، فإن عجزتم عنه فلا تبعدوا عنه، فإن البعد عنه مهلكة سواءً كان البعد عنه بزيادة وغلو أو كان البعد عنه بإضاعة وتفريط، فكل ذلك خروجٌ عن السداد وخروج عن الصراط المستقيم.
إذا بذل الإنسان وسعه في كل شأن وفي كل حال وفي كل وقت أن يصيب الهدف وأن يصل إلى مرضاة الله وأن يبلغ الصراط المستقيم وأن يثبت عليه فينبغي له ألا يغتر بنفسه، بل ينبغي أن يعلم أن كل ذلك الجهد ليس كافيًا في إيفاء حق الله، فحق الله أعظم، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[الأنعام:91] سبحانه وبحمده.
ولذلك قال: واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخل الجنة بعمله، هذه مناسبة ذكر هذا الخبر بعد الأمر بالمقاربة والسداد لا تكفي في إدراك الفوز والنجاة لولا رحمة الله، ولذلك قال: «واعْلَمُوا أَنَّه لَنْ ينْجُو أحدٌ منْكُمْ بعملهِ» فالعمل مهما كان متقنًا صوابًا صالحًا فإنه لا يكفي في الوصول إلى رحمة الله، وبالتالي لا تغتر بعملك مهما كان طيبًا ومهما كان صالحًا فانظر إليه بعين الاستقلال والاستضعاف أن يصل إلى ما تؤمل من رحمة الله، فلولا رحمة الله ما أدركت فضله.
«قَالوا: وَلا أنْت يَا رسُولَ اللَّه؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا» يعني حتى النبي الذي هو أبلغ الناس وأعلى الناس منزلةً في العبودية، «قَالوا: وَلا أنْت يَا رسُولَ اللَّه؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إلاَّ أنْ يتَغَمَّدني اللَّه برَحْمةٍ منْه وَفضْلٍ» يتغمدني يعني يسترني ويلبسني رحمةً منه أبلغ بها رضاه وفضل وهو الزيادة التي يتفضل بها جل وعلا عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان أن العمل مهما كان جيدًا صالحًا كثيرًا مرضيًا لله عز وجل، فإنه لا يبلغ به الإنسان لو استقل عن رحمة الله لا يبلغ به ما يؤمل من فضل الله، فلا يدخل الجنة إلا برحمته.
هذا لا يعني أن العمل لا قيمة له، بل الله عز وجل قال: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:43]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل:32]، فالعمل له أثر في دخول الجنة لكن لا بد أن يقترن به من رحمة الله ما يكون سببًا في دخول الجنة.
فالدخول إلى الجنة هو برحمته وتبوأ ما فيها من المنازل هو بفضله، والعمل طريق تحصيل ذلك، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض الأعمال إن جزاءها الجنة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «منْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ»[صحيح البخاري (574)، ومسلم (635)]، البردين الظهر والعصر ولو لم يكن هذا العمل مؤثرًا في تحصيل المطلوب ما ذكره صلى الله عليه وسلم.
العمل لا يكفي للنجاة، لكن ينجو بالرحمة:
لكن التنبيه الذي تضمنه الحديث هو ألا يعتمد الإنسان بقلبه على عمله بل يرجو رحمة ربه فالذي وفقك للعمل، الذي دلك على العمل هو الله والذي وفقك إليه هو الله، والذي يتقبله منك هو الله والذي يجزيك عليه الأجر والثواب هو الله، فالجميع كله هو برحمته سبحانه وبحمده، ورحمته يدرك بها الإنسان كل مطلوب، فما في الجنة من نعيم هو جميعه برحمة الله، ولذلك قال الله عز وجل في خطاب الجنة: «أنْتِ رَحْمَتي أرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي»[صحيح البخاري (4850)، ومسلم (2846)].
فكل نعيم يدركه الإنسان في الجنة سواء كان في المأكل أو المشرب أو المرأى أو كان في النظر إلى الله أو غير ذلك إنما هو برحمة الله، فنسأل الله أن يبلغنا رحمته وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه وألا يجعلنا ممن يغتر بعمله، فالعمل قليل في حقه.
أنا الفقير إلى رب السماوات.
أنا المسكين في مجموع حالاتي.
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي.
والخير إن يأتي من قبله يأتي.
أسأل الله أن يبلغني وإياكم فضله وأن يرزقنا وإياكم من واسع رحمته وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى وأن يجعلنا من عباده المتقين وحزبه المفلحين وأوليائه الصالحين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.