قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين:
باب التفكر في عظيم مخلوقات الله ـ تَعَالَى ـ وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس، وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة:
قَالَ الله ـ تَعَالَى ـ: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ:46].
وَقالَ ـ تَعَالَى ـ: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ (191)﴾ [آل عمران: 190- 191].
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
التفكر يورث المحبة ويدعو للعمل:
فهذا الباب الذي ترجم له المؤلف ـ رحمه الله ـ بالتفكر في عظيم مخلوقات الله ـ عز وجل ـ وسرعة انقضاء الدنيا وفناءها وما يثمره ذلك من الاستقامة هو من المهمات التي ينبغي أن يعتني الإنسان بها، فالتفكر في خلق الله ـ عز وجل ـ يورث محبته وتعظيمه، فإنه من تفكر في آيات الله ظهر له من عظيم صنعه وجليل قدره ونافذ قدرته وبالغ حكته وعظيم رأفته ورحمته ما لا يملك معه إلا أن يحبه سبحانه وأن يعظمه جل في علاه فلا يخرج عن أمره ولا يتجاوز شرعه جل في علاه.
ولهذا ندب الله ـ تعالى ـ في آياتٍ كثيرة إلى التفكر والنظر في مخلوقاته، فالله تعالى قد نوع للعباد الآيات التي تدل عليه، فمنها آياتٌ متلوة مقروءة مسموعة وهو كلامه جل في علاه، ومنها آيات منظورة مشاهدة مبصرة وهي ما بثه سبحانه وبحمده في الآفاق وفي النفس من آياته الدالة على عظمته، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21]، وقال ـ سبحانه ـ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾ [الغاشية:17-20]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)﴾ [الطارق:5-7]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾ [عبس:24-32].
الآيات في هذا كثيرة التي تدعو الإنسان إلى التفكر في كل ما يشاهده من آيات الله حتى الأعمى ينظر في خلقه وما تدركه بقية حواسه مما يدل على عظمة الله عز وجل لكن القلوب إذا غفلت عميت فلم تبصر كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46]، وإذا انفتح عين القلب ورأى ما يشاهده من آيات الله كان وقافًا عند هذه الآيات معتبرًا بخلاف ذاك الغافل قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف:105].
هذا فيما يتعلق بخلق الله عز وجل وما بثه في الكون من الآيات والأنفس وفي السماء والأرض.
التفكر في حقيقة الدنيا أيضا:
أما الدنيا، فالدنيا من أعجب ما يكون إنها دار غرور تغر الناس بطول الأمد وطول البقاء وكثرة النعيم وسعة الحال، لكن إذا تيقن الإنسان حقيقتها وأبصر مآلات أهلها عرف أنها طيفٌ زائل، فالأمم التي سبقت والأقوام الذين أدركناهم ممن مضوا فيهم عبرة وعظة فيهم الغني، فيهم الفقير، فيهم الشريف، فيهم الوضيع، فيهم صاحب الجاه، فيهم من لا جاه له، فيهم صاحب الولد والمال، وفيهم من لا مال له ولا ولد، كلهم مضوا وتركوا كل ذلك وراء ظهورهم، لم يبقى معهم إلا أعمالهم كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ»[صحيح البخاري (6514)، ومسلم (2960)] هذا الذي لا يفارق الإنسان في قبره ولا يوم بعثه ونشوره كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾[الإسراء:13].
الموت حقيقة واقعة:
ما أسرع تقضي الأيام، وما أسرع توالي الليالي، وما أسرع بلوغ الأجل لو أبصر الإنسان، ولهذا العاقل البصير لا ينفك عن الاستعداد والتهيؤ في كل الأحوال وفي كل الظروف، في حال الصحة وفي حال المرض، وفي حال الغنى وفي حال الفقر، وفي حال السعة وفي حال الضيق، كن على استعداد للرحيل أي لحظة فلا تدري متى يأتي الأجل فإنه سريع النزول، وإذا نزل لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون يرتهن الإنسان بعمله، وهذا وذاك التفكر في آيات الله والتفكر في الدنيا وسرعة انقضاءها وتحولها وتغير أحوالها مما يجعل الإنسان حريصًا على الاستقامة فيستقيم على أمر الله في قلبه بالإخلاص له والتوحيد وفي قوله بالقول السديد وفي عمله بالتسديد والمقاربة بقدر الإمكان.
أسأل الله أن يعينني وإياكم على طاعته وأن يستعملني وإياكم في ما يحب ويرضى وأن يختم لنا بخير وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.