الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، حمدًا يُرضيه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن مُحمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سُنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد...
ففي هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- نتحدث عن صيام أهل الأعذار، فإن الله تعالى عندما شَرع الصيام، وفرضه على أهل الإسلام بيَّن فيما بيَّن ما يكون من حال أهل الأعذار، قال -جلَّ في عُلاه-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ البقرة:183-184 ، ثم قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ البقرة:184 .
فبيَّن الله تعالى في أول مشروعية الصيام ما يتعلَّق بحال أهل الأعذار، إذ إن الصيام من العبادات التي فيها من المشقة والعناء ما قد لا يتمكن معه من الفعل بعض مَن يعجز عنه، أو يشُق عليه مشقَّةً خارجةً عن المُعتاد، فبيَّن الله تعالى حُكم أولئك، ولا عَجَب فإن هذه الشريعة المُطهَّرة مبناها على اليُسر والسماحة، كما قال النبي -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم- فيما جاء في المُسند وغيره بإسنادٍ لا بأس به: «بُعِثت بالحنيفية السَمحة»[أخرجه أحمد في مسنده(22291)، وضعفه الألباني في اصحيحة(2924)]، بالحنيفية السَمحة، الحنيفية التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والسمحة اليُسر، ورفع الحرج في أحكام الشريعة وتكاليفها.
ولذلك أكَّد الله تعالى هذا المعنى في مواضع عديدة، فهو أصلٌ من أصول التشريع، ليس في هذا الدين حرجٌ، ولا كُلفةٌ بما لا يُطيق الناس، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة:286 ، قال جل في عُلاه: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ المائدة:6 ، وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ الأحزاب:38 ، وقال سبحانه: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ النور:61 ، فنفى الحرج عن هؤلاء كُلهم، وقال -جل وعلا-: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة:185، وهذا في سياق آيات الصيام، عندما ذكر فرض صوم رمضان في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة:185 ، فهذا التكليف، وهذا التشريع ليس غرضه أن يتحمَّل الناس من المشاق ما لا يُطيقون، ولا من العناء ما يُكهلهم، ويُتعبهم، بل الغاية والغرض تحقيق العبودية لله تعالى بما لا حَرَج فيه ولا مشقَّة، وهذا الدين دين وَسَط، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ البقرة:143، فليس فيه آصارٌ ولا أغلال، ولا فيه انحلالٌ وبُعدٌ عن التكليف والقيام بشرع رب العالمين.
أيها الإخوة! الصيام فرضه الله تعالى على المؤمنين، ونادى في ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة:183 ، ثم إن الله -عزَّ وجل- بيَّن أحكامه في آياتٍ كريمات، ولا خِلاف بين أهل العلم أن الصوم واجبٌ على كُل مُسلمٍ عاقلٍ، بالغٍ، خالٍ من عُذر، هذه هي شروط وجوب الصيام.
- الإسلام فلا يقبل الله عملًا بغيره، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ آل عمران:19 ، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ آل عمران:85 ، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ البينة:5 فيما بعد ذلك.
- ثم العقل، وذلك أنه لا تكليف إلا بعقل، «رُفِع القلم عن ثلاثة»، ومنهم «المجنون حتى يُفيق»[أخرجه الترمذي في سننه(1423)، وحسنه]، وخطاب الشارع لمن له عقل، ومَن لا عقل له لا يُتوجه إليه خطاب.
الثالث: البلوغ، فإنه يجب الصيام بالبلوغ، وإن كان ولي الأمر مأمورًا بأن يُمرِّن ويُعوِّد ولده على الصيام من الذكور والإناث إلا أن الوُجوب يثبُت بالبلوغ.
- ثم رابع الشروط في وجوب الصيام: الخلو من الأعذار، وهذا هو محل قراءتنا، وسيدور عليه حديثُنا في هذا المجلس، وهو شرط الخلو من العُذر لوجوب الصيام، فإن الله -عزَّ وجل- فرض الصوم على عباده، وهو فرضٌ لازمٌ لكل مؤمن يشهد الشهر، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ البقرة:185 ، واتفق فقهاء الإسلام، وعُلماء الأمَّة على وجوب الصيام على مَن توفرت فيه الشروط، ثم بيَّن الله -جل وعلا- في آيات الكتاب الحكيم، وجاء ذلك أيضًا في سنة سيد المُرسلين مَن يُعذَر بترك الصيام.
والأعذار: هي الأحوال التي يندفع بها اللوم عن الإنسان إذا لم يأت بالواجب، أو إذا لم يأت بالمطلوب، فالعُذر هو ما يدفع به الإنسان الملامة عن نفسه عندما يتوجه إليه لومٌ؛ إما بترك واجب، أو بفعل محظور، هذا معنى العُذر في الأصل، وهو ما يندفع به اللوم.
وأهل الأعذار بالنسبة للصيام ينقسمون إلى قسمين:
- القسم الأول: مَن عذره دائمٌ غير مُنقطع.
- والقسم الثاني: مَن عُذره عارضٌ مُنقطع.
أما القسم الأول: وهُم أصحاب الأعذار الدائمة التي لا تنقطع، فهم صِنفان من الناس:
- الأول: الكبير، الهَرِم من ذكرٍ أو أُنثى، وهو مَن لا يُطيق الصيام، فالكبير والهَرِم الذي بلغ حدًّا لا يتمكن معه من الصيام لا خِلاف بين العُلماء في أنه يجوز له الفِطر، وهذا بالاتفاق، ليس ثمَّة خِلافٌ بين أهل العلم أن مَن عجِز عن الصيام لكِبره فإنه يجوز له الفِطر، ذكرًا كان أو أُنثى، هذا هو الصِنف الأول ممن عُذره دائمٌ مُستمر.
- أما الصِنف الثاني ممن عُذره دائمٌ مُستمر، هُم المرضى الذين مرضهم دائمٌ غير مُنقطع، وهو ما يُعبر عنه العُلماء بالمرض الذي لا يُرجى الشفاء منه، الذي لا يُرجى بُرؤه والشفاء منه، هؤلاء أيضًا من الصِنف الأول من أهل الأعذار، وهُم مَن عُذره دائمٌ مُنقطع، وهذا أيضًا لا خِلاف بين أهل العِلم في أنه يجوز له الفِطر.
إذًا هذا الصِنف بنوعيه: الكبير الذي لا يقوى على الصيام، والمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، هؤلاء معذورون في ترك الصيام بالاتفاق، ولا خِلاف بين أهل العلم في أنه لا يلزمهم الصوم، لأن الله تعالى إنما أمر الناس بما يستطيعون، وهؤلاء عاجزون، قال الله تعالى في أصل التشريع: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن:16 ، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة:286 ، وأما بخصوص هذه الحال، حال الكِبَر الذي يعجز فيه الإنسان عن الصيام، أو المرض الذي لا يُرجى بُرؤه، فثمَّة دليلٌ خاص، يختص هذين الصِنفين، أما الكبير فدليله قول الله -عزَّ وجل-: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ البقرة:184 ، وعلى الذين يطيقونه، أي يقدرون على الصيام ويتركونه: فديةٌ طعام مسكين، ولقائلٍ أن يقول: أين ذِكر العجز للكِبَر، أو عدم القُدرة للهَرَم في هذه الآية، أين موضع الدلالة في الآية على أن الكبير يجوز له الفِطر؟
الجواب: أن الله تعالى قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ البقرة:184 ، قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- هذه الآية ليست بمنسوخة، وذلك أن الله أول ما فَرَض الصيام فرضه على وجه التخيير مَن شاء صام وهذا أفضل، ومَن شاء ممن يقوى على الصيام أفطر وافتدى عن فِطره بإطعام مسكين، هذا في أول التشريع، اقرأ الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ البقرة:183-184 يعني يستطيعون الصيام، لكنهم لا يأتون به، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ البقرة:184 ، يعني إذا أفطروا، ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ البقرة:184 ثم قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ يعني زاد على إطعام المسكين، ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ البقرة:184 ، فحثَّهُم الله وندبهم على الصيام، وذكر أنه أفضل من الإطعام، فدلَّ هذا على أنه الصيام كان اختيارًا.
ثم جاء الإلزام بالصوم على كُل قادر، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ البقرة:185 ، ما في عُذر ثم عاد مُنبهًا إلى أن النسخ ليس في حق كل أحد بل في حق أهل الأعذار بقيت الرُخصة بالفِطر لعُذرهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة:185 ، فدلَّت الآية على أن الصوم كان اختيارًا رُفِع هذا الحُكم في حق الأقوياء القادرين، أما مَن يعجز عن الصوم من الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فإنهما يُفطران، ويُطعمان عن كل يومٍ مسكينًا، هكذا قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-، فدلَّ على بقاء حُكم الآية في حق الذي لا يستطيع الصيام من كبيرٍ، من ذكرٍ أو أُنثى يعجز عن الصيام لكِبره، هذا ما يتعلَّق بالرُخصة للكبير، فهي ثابتة بالإجماع، ودلالتها في القرآن في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ البقرة:184 ، فيما بيَّنه عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-، وأن الآية ليست منسوخة في حق الكبير، من الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام.
طيب إذا أفطرا هل يلزمهما مع الفِطر شيءٌ؟
الجواب: للعلماء ذلك قولان:
- منهم مَن قال: إنه إذا أفطر لم يلزمه شيء، وهذا مذهب الإمام مالك -رحمه الله- بناءً على ان الآية التي فيها ذِكر الفِدى في حال ترك الصيام قد نُسخت.
- وذهب جمهور العُلماء من الحنفية، والشافعية والحنابلة: إلى أنه يجب الإطعام؛ لأن الله -جل وعلا- قد جعل عِوَض الصيام في حال العجز، جعل عِوَض الصيام الإطعام، فقال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ البقرة:184 ، فدلَّت الآية على أن مَن ترك الصوم، فإنه يفدي بإطعام، وقد بيَّن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنه- أن ذلك لم يُنسخ في حق الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، قال: فيُطعمان مكان كل يومٍ مسكينًا.
وبهذا يتبين أن الراجح من قولي العُلماء أن مَن عجِز عن الصيام لكِبره فإنه يُفطِر، وأنه يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا، والإطعام الذي شرعه الله -عزَّ وجل- في هذا هو أن يُطعِم مسكينًا عن كل يومٍ من الأيام، وله في ذلك الخِيار أن يُطعِم بتمليك الفقير طعامًا، أو بأن يصنع طعامًا ويدعوه للأكل منه كما كان يفعل أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فإن أنس بن مالك لمَّا كَبُر أطعم -رضي الله تعالى عنه- أفطر وأطعم كما في البُخاري، كان يُطعم خُبزًا ولحمًا ومرقًا، فدلَّ ذلك على أن مَن عجِز عن الصيام لكبره فإنه يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا.
والإطعام إما أن يكون تمليكًا للفقير بأن يُملِّكه طعامًا يكفيه ليوم، وإما أن يدعوه ويُمكنه من الأكل من الطعام، هذا ما يتعلق بالفدية التي تكون لترك الصيام في حال العجز عنه لكبرٍ، وأما مِقدار الإطعام فيما إذا ملَّكه فقد تنوعت كلمات العُلماء في ذلك وتقديرهم:
منهم مَن قال يُطعِم مُد، وهو حفنة من الطعام، ومنهم مَن قال يُطعِم نصف مُدٍّ وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ونصف المُد هو حفنتان ملئ اليدين من الطعام من قوت البلد، ومنهم مَن قال يُطعِم صاعًا كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، والصحيح في هذا أنه ليس ثمَّة تقدير، لأن الله أطلق، لكن يُستأنس بأقل ما وَرد به الشرع من الإطعام، وهو نصف صاع، فإن ما ورد به الشرع من الإطعام هو نصف صاعٍ في فدية الأذى في ارتكاب محظور حلق الرأس، حيث قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لكعب ابن عُجرة: «أطعِم ستة مساكين لكل مسكينٍ نصف صاع»[صحيح البخاري(1814)، ومسلم(1201/80)]، هذا ما يتعلق بالكبير، وله أن يُطعم كل يومٍ بيوم، وله أن يجمع الإطعام في آخر الشهر، أما تقديم الإطعام في أول الشهر عن بقيته فهذا محل خِلافٍ بين أهل العلم، منهم مَن يقول يُجزئ، ومنهم مَن يقول: لا يُجزئ لأنه لم يأت سبب الإطعام، والأحوط أن يكون الإطعام في كل يومٍ بيومه، فإن عجِز، أو صعُب عليه هذا، فله أن يجمع أيامًا ويُطعِم عنها، أو يُطعِم في آخر الشهر عن كل المُدة السابقة، ولكن إطعامه في رمضان أعظم أجرًا من تأخيره إلى ما بعد رمضان، ولكن من حيث الاجزاء، يُجزئ أن يُطعِم في ما بعد، في اليوم أو ما بعده سواءً في رمضان، أو بعد رمضان، والمُبادرة أولى وأكمل.
هذا ما يتصل بصاحب العُذر الأول وهو الكبير.
طيب هُناك مَن يسأل عن بعض الكِبار الذين وصلوا حد الخَرَف، ماذا يصنعون بهم؟ أو الذين امتد غيابهم بشيءٍ من الغياب الكُلي الذي لا يُرجى ارتفاعه، أو يبعُد ارتفاعهن فما حُكم هؤلاء؟ مَن كان لا عقل معه هل يُطعَم عنه؟
الجواب: لا إطعام عنه، لأنه لا صِيام عليه، إذ تقدَّم أن من شرط الصيام العقل، وهذا الذي بلغ حد الخَرَف سقط عنه التكليف، فلا يجب في حقه الإطعام، إنما الكلام في الكبير الذي معه عقه، ويُدرك لكنه يعجز عن الصيام لضعف بدنه، أو لمشقة الصيام عليه مشقَّة خارجة عن المُعتاد.
الصِنف الثاني من الذين عُذرهم دائم: هو المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، وعندما نقول لا يُرجى بُرؤه، فنحن نتكلم عمَّا في أيدي الناس من الطب، وأسباب الشفاء، وإلا فالله لا يُعجزه شيء سُبحانه وبحمده هو على كل شيءٍ قدير، فبحثنا وحديثنا في المرض الذي لا يُرجى بُرؤه عن الأمراض التي جرت عادة الناس أنه لا يُشفى منها أصحابها، المريض مرض لا يُرجى برؤه، ولا يقوى على الصيام بسبب مرضه لا خِلاف بين أهل العلم في أنه معذورٌ بفطره، لقول الله -جل وعلا-: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184، وفي قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:185، فالمريض مرض مُمتد كالأمراض المُزمنة التي يعجز معها أصحابُها مع الصيام، فإنهم يُفطرون بالاتفاق، لا خِلاف بين العُلماء في إفطارهم، ودليل جواز الإفطار الآية، فإن الله تعالى نصَّ على المرض فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184 ، وهذا يشمل المريض الذي يُرجى بُرؤه، والمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، وكذلك قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:185 ، كيف يصنع هذا في فِطره، يُفطِر كل ما احتاجه من الفِطر، فإن قويَّ على الصيام في بعض الأيام ولم يقوى في بعض كبعض مرضى السُكر، فإنه يأتي بما يقوى، ويترك ما لا يقوى عليه، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن:16 ، لكن فيما لا يقوى عليه من الصيام لا في الحاضر ولا في المُستقبل فإنه يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا كالتفصيل الذي ذكرناه قبل قليل في حق الكبير الذي لا يقوى ع الصيام، يُطعِم عن كل يومٍ مسكينًا كما قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ البقرة:184 ، على نحو ما تقدَّم من تفصيل.
إذًا هذا القسم الأول من أقسام أهل الأعذار في الصيام، وهم الذين عُذرهم دائم غير مُنقطع، وهُم صِنفان من الناس: الأول الكبير الذي لا يقوى على الصيام، والثاني المريض الذي لا يُرجى بُرؤه كلاهما يجوز له الفِطر بالإجماع، وأما وجوب الكفَّارة والفدية فإن جمهور العُلماء على أنه يجب فِدية ومقدارها على الراجح نصف صاع على أقل ما ذكر العُلماء فيما يجب في الشريعة، ولو كان أقل من ذلك مما تحصُل به الكفاية، فالذي يظهر أنه لا بأس به.
ننتقل الآن إلى القسم الثاني من أقسام أهل الأعذار، وهُم الذين هم أعذار عارضة، أعذار طارئة، وليست أعذار دائمة مُستمرة مُمتدة كالصِنف الأول، وهُم ستة أصناف، أهل الأعذار العارضة ستة أصناف:
- المريض مرضًا عارضًا.
- الثاني: المُسافر.
- الثالث: الحامل.
- الرابع: المُرضع.
- الخامس: الحائض.
- السادس: النُّفساء.
هؤلاء ستة أصناف هم من أهل الأعذار الذين يُفطرون في رمضان إما وجوبًا، وإما استحبابًا، وإما إباحةً، هؤلاء ستة أصناف، ونستعرضهم صِنفًا، صنفًا، وما الذي يجب.
أولًا: الذي يجب في هؤلاء جميعًا هو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184 ، وفي قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:185، فالواجب في هذا الصِنف من الناس من أهل الأعذار هو أن يصوموا يومًا آخر مكان اليوم الذي أفطروه، لكن نحتاج أن نقف مع كل صِنفٍ من هذه الأصناف لنعرف ما الذي يُبيح الفِطر من أحوالهم، وما الذي لا يُبيح، وما الذي يترتب على فِطرهم.
أما الصِنف الأول من أصناف أهل الأعذار فهو المريض المرض الذي يُرجى بُرؤه، وبدأنا به قبل غيره لأن الله قدَّمه في الذكر، فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ البقرة:184 ، وتقديم المريض لأن الداعي في الفِطر بالمرض أكبر من الداعي في الفِطر في السفر، ولذلك قدَّمه ذكرًا جل في عُلاه، وقد تقدَّم القسم الأول من المرضى، وهم الذين مرضهم لا يُرجى بُرؤه، وبينَّا ما الذي يتعلق به من الأحكام، أما المريض الذي يُرجى بُرؤه، وهو الذي يؤمَل الشفاء منه، فهذا يجوز له الفِطر إذا آذاه الصوم، إذا كان الصوم يؤذيه أو يُضعفه، فلا خِلاف بين اهل العِلم في أنه يجوز له الفِطر، ولكن اعلم بارك الله تعالى فيك أن المرض من حيث تأثيره على الصيام له أحوال، ويختلف حُكم الفِطر باختلاف هذه الأحوال:
- الحال الأولى: أن يكون الصوم سببًا في هلاك المريض، فلا خِلاف بين العُلماء في أنه لا يجوز له الصوم، يحرُم عليه الصوم، لقول الله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ البقرة:195 ، وهو آثمٌ بصومه، ومُلقٍ بيده إلى التهلكة إن صام، ولذلك يجب في هذا الفِطر بالاتفاق، وهو آثمٌ إن صام، وأما ما يتعلَّق بماذا يترتَّب عليه إذا أفطر، يترتب عليه القضاء كما تقدَّم، لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184 .
- أما الحال الثانية من أحوال المرض فهي ما إذا كان المرض يزيد بالصوم، المرض يزيد بالصوم، لكن لا يصل إلى حد الهلاك، فهذا:
من العُلماء مَن قال: يجب أن يُفطِر.
ومنهم مَن قال: يُستحب الفِطر.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه يجب أن يُفطِر لا سيَّما إذا كان زيادة المرض تترتب عليها آثار دائمة، أو تلف عضو، أو نحو ذلك فيه شيءٍ زائد على مُجرد المشقَّة، يزيد المرض زيادة ليس فقط أثرها أنه مشقَّة، لا قد يترتَّب على ذلك تضرر دائم، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز فيه الصوم، بل يجب فيه الفِطر؛ لقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ النساء:29 ، وقال تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ البقرة:195 ، هذا ويدل له أيضًا قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في إقراره سَلمان عندما قال لأبي ذر: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا؛ فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقَّه»[صحيح البخاري(ح1867)]، فإذا كان المرض يزيد زيادةً تُفضي إلى نوعٍ من المُعاناة والمشقة، والضرر الذي يدوم، أو يزيد به عناء الإنسان، فإنه يجب الفِطر.
- أما الحالة الثالثة من أحوال المرض في الصوم، إذا كان صوم المريض يؤخر بُرءه أي شفاءه، فهُنا يُستحب له الفِطر؛ لأن طلب الشفاء والعافية قد ندب إليها الشارع بقوله: «ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواء»[أخرجه الحاكم في المستدرك(7427)، وقال:هذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي]، وهذا حثٌ على طلب الشفاء والبحث عنه، فإذا كان يؤخر البُرء، ويُبطئ الشفاء، فإنه ينبغي الفِطر في هذه الحال، إذا كان الصوم يؤخر البُرء فإنه ينبغي أن يُفطِر الصائم، ويُستحب له ذلك دفعًا للمشقة وأخذًا بالرُخصة، وقد جاء عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه ابن عُمر: «إن الله يُحب أن تؤتى رُخصه كما يُحِب أن تؤتى عزائمه»[أخرجه ابن حبان في صحيحه(3568)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(1885)]، وفي الرواية الأُخرى «كما يكره أن تُنتهك معاصيه»[أخرجه أحمد في مسنده(5866)]، أو أن تُرتكب معاصيه، وهذا يؤكد أن ينبغي أن يقبل الإنسان رُخصة الله -عزَّ وجل- في حال تكلُّفه بالصوم لأجل المرض.
- الحالة الرابعة من الأحوال، أحوال المرض، أن يكون صوم المريض فيه مشقَّة، لكنه لا يترتب عليه زيادة في المرض، ولا تأخر في البُرء، لكن فيه مشقَّة زائدة عن المُعتاد، هُنا يُستحب له الفِطر أيضًا، لأن الله يُحِب أن تؤتى رُخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه، ولا خِلاف بين العُلماء في جواز الفِطر في هذه الأحوال كُلها، كل هذه الحوال لا خِلاف بين أهل العِلم في جواز الفِطر فيها، بل وفي الحال الأولى يجب الفِطر، وكذلك في الحال الثانية.
- الحال الخامسة من أحوال المرض: أن يكون صوم المريض لا أثر له على مرضه، بأن يكون المرض لا علاقة له بالصيام لا يتأثر بالصوم، فهذا لا يجوز له الفِطر على الراجح من قولي العُلماء، وهو قول الجماهير، لماذا؟ لأن الله تعالى عندما قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ البقرة:184 ، فذكر المرض الذي له تأثير على الصوم، وإلا لَما كان رُخصةً، ولهذا جماهير العُلماء، وحكى بعضهم الاتفاق أن المرض إذا كان لا علاقة له بالصوم، لا يتأثر بالصوم في المُطلق، لا يزيد، ولا يتأخر البُرء، وليس فيه مشقَّة زائدة عن المُعتاد فإنه يجب على المريض أن يصوم لأن مرضه لا تأثير لصومه عليه، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، وهو أن المرض إذا كان لا يتأثر بالصوم فإنه ليس عُذرًا في الفِطر.
هذا النوع الأول من أنواع أهل الأعذار وهو المريض مرضًا يُرجى بُرؤه.
النوع الثاني من أنواع أهل الأعذار فيما يتعلَّق بالصيام: المُسافر، والمُسافر رخَّص الله له بالفِطر، قال الله له بالفِطر، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184 ، وقال: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:185 ، السؤال: ما نوع السفر الذي يُبيح الرُخصة للفطر من حيث حِلِّه وإباحته؟ السفر الواجب، السفر المُستحب، السفر المُباح كله محلٌ للرُخصة، خرج بذلك نوعان من السفر: السفر المُحرَّم والسفر المكروه، السفر المُحرَّم الذي يُسافر ليزني، أو ليشرب الخمر، نعوذ بالله هذا سفره مُحرَّم ليس له أن يترخَّص بهذه الرُخصة؛ لأن الرُخصة في السفر إنما هي لإعانته على إما واجب، أو مُستحب، أو مُباح، أما العون على المعصية فلا يُعان عليها، ولذلك جمهور العُلماء على أن المُسافر في معصية ليس له أن يترخَّص برُخَص السفر، وبعضهم ألحق المكروه به، لكن الظاهر أن المكروه لا يدخل في ذلك بل هو مما يحِل فيه الترخُّص بالرُخصة، هذا ما يتصل بنوع السفر المُبيح.
أما ما يتعلق بما هو السفر من حيث مسافته، ومُدته، فالجواب على هذا بإجمال، لأن الدخول في هذا يُشعبنا في مسائل خارجة عن غرضنا في هذا المجلس أن كل سفرٍ يُبيح القصر يُبيح الفِطر، هذه قاعدة، كل سفر يُبيح القصر فهو يُبيح الفِطر، والسفر الذي لا يُبيح القَصر لا يُبيح الفِطر، وعليه فإنه من حيث المسافة ومن حيث المُدَّة يُرجع في ذلك إلى معرفة السفر الذي يُبيح القصر، والأصل في هذا أن كل سفرٍ عدَّه الناس سفرًا، وكان في العُرف سفرًا فإنه يُبيح القصر وبالتالي هو يُبيح الفِطر، هذا ما يتعلق بالسفر.
ولكن ثمَّة مسألة، وهي لماذا شُرِع الفِطر في السفر، وأذِن الله بالفِطر للمسافر دفعًا للمشقة؟ السفر مظِنة مشقه، يعني هو موضع يحتمل فيه حصول المشقَّة، وقد قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «السفر قطعةٌ من العذاب، فمن قضى نهمته أو حاجته فليُعجِّل إلى أهله، فإن السفر قطعةٌ من العذاب»[صحيح البخاري(1804)، ومسلم(1927)]، وهذا يُبيِّن أن العِلَّة في إباحة الفِطر في السفر هو ما يقترن فيه من المشاق عادةً، فما حُكم الفِطر في السفر؟
من العلماء مَن قال: يجب الفِطر في السفر، وهذا مذهب الظاهرية، واستدلوا لذلك بحديثين، حديث جابر في أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- خرج بأصحابه في رمضان عام الفتح، وصام حتى قلع كُراع الغميم، ثم إنه -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم- بلغه مشقة الناس، فدعا بقدحٍ من ماء فشربه بعد العصر والناس ينظرون في رمضان في سفره، فبلغه أن قومًا أتموا صيامهم، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أولئك العُصاة، أولئك العُصاة»[صحيح مسلم(1114/90)]، فقالوا: إن هذا يدل على أن الفِطر واجبٌ في السفر، وإلا ما وصفه بالمعصية، واستدلوا أيضًا هذا حديث ابن عباس، استدلوا أيضًا بحديث جابر في الصحيحين أن النبي مرَّ برجلٍ قد اجتمع عليه الناس وظُلِل، قال: «ما له»، قالوا: صائم، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ليس من البر الصوم في السفر، ليس من البر الصوم في السفر))[صحيح البخاري(1946)]، فبيَّن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه ليس من الطاعة والقُربة إلى الله -عزَّ وجل- أن يصوم الإنسان في سفره، استدلوا بهذين على وجوب الفِطر، والصواب أن هذين لا يدُلَّان على الوجوب، بل يدُلَّان على تأكد الفِطر عند وجود المشقَّة لأن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((أولئك العُصاة))، لأنه إنما أفطر لأجل دفع المشقَّة، فلما عَدَلوا عن أخذ ما كان قد أظهره من رُخصة كانوا مُخالفين له -صلَّى الله عليه وسلَّم- فوصفهم بالمعصية، وليس أن الصوم في السفر مُحرَّم والفِطر واجب، بل هذا تأكيدٌ للفِطر في حال الحاجة إليه، وهو معنى قوله: ((ليس من البر الصوم في السفر))، لأنه ورَد في حال رجلٍ كان على هذه الحال.
وقد ورد عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- الصوم في السفر كما جاء في الصحيح من حديث أبي الدرداء، قال: خرجنا مع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في رمضان في حرٍّ شديد، حتى إن أحدنا لَيَضع يده على رأسه من شدة الحر، هذا أبو الدرداء يقول، وأبو الدرداء يصف ما شاهده مع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه، يقول: ليس فينا صائم، كل هؤلاء الذين كانوا مع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ليس فيهم صائم إلا رسول الله، وعبد الله بن رواحة، فدلَّ هذا على جواز الصوم في السفر لأن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- صام.[صحيح البخاري(1945)، ومسلم(1122/108)]
ثم أيضًا حديث ابن عباس في خروج النبي من المدينة حتى بلغ كراع الغميم صام، لكنه أفطر لما بلغه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وأنهم ينظرون ما يفعل[صحيح مسلم(1113/88)]، فدلَّ ذلك على أن الصوم ليس واجبًا، بل هو مُستحبٌ مؤكدٌ في حال وجود المشقَّة، ولكن يجوز أن يصوم الإنسان.
وقد اختلف العُلماء -رحمهم الله- فيما إذا لم يكن في الصوم مشقَّة، يعني إذا كان الصوم خالٍ من المشقَّة هل الأفضل الفِطر، أم الأفضل الصيام؟ عرفنا الآن قول مَن يقول بوجوب الصوم، وهذا قول ضعيف، وهو خِلاف ما عليه جمهور العُلماء، وعامتهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز الصوم والفِطر في السفر، وقد حكى بعضهم الاتفاق على ذلك، يجوز الصوم والفِطر في السفر، ومجموع الأحاديث تدل على هذا، إنما اختلف العُلماء -رحمهم الله- في أيهِما أفضل الصوم أم الفِطر في السفر؟ وهُنا من أهل العِلم مَن قال: إن الفِطر أفضل مُطلقًا في كل الأحوال شقَّ السفر او لم يشُق، واستدلوا بقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ليس من البر الصوم في السفر))، وقوله لمن لم يُفطِر: ((أولئك العُصاة))، وهذا مذهب الحنابلة، مذهب الحنابلة أن الأفضل الفِطر مُطلقًا في حال المشقَّة وفي حال عدم المشقَّة.
وذهب جمهور العُلماء من الحنفيَّة والمالكيَّة، والشافعيَّة إلى أن الأفضل الصوم إن لم يكن مشقَّة للمُسافر، إذا كان ما في مشقَّة فالأفضل الصوم، وإن كان فيه مشقَّة فالأفضل الفِطر، وهذا ما اختاره شيخُنا مُحمد العُثيمين -رحمه الله-، وهو الراجح من القولين الذي تجتمع به الأدلَّة، فالأدلَّة جاءت على أنحاء منها ما يؤكد الفِطر، ومنها ما يأذن بالصوم، ومنها استواء الفِطر والصوم كما في حديث أنس، قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال -رضي الله تعالى عنه-:((خرجنا مع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في سفر فمنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر))[صحيح مسلم(1119/100)]، فلم يعب الصائم على المُفطِر ولم يعِب المُفطِر على الصائم، فدلَّ ذلك على إباحة الأمرين، وأنه لا فضيلة لأحد الأمرين على غيره، إنما يرجع في ذلك إلى اختيار الإنسان، وما يُناسبه، هذا ما يتصل بمسألة أيهما أفضل، وذكرنا أن الراجح في هذا هو أنه إذا كان في السفر مشقَّة فيتأكد الفِطر، والأفضل الفِطر، أما إذا لم يكن مشقَّة فالأفضل الصوم؛
لأنه يُوافق فضيلة الوقت هذا أول شيء، الصوم في رمضان أفضل من غيره.
ثانيًا: أنه أسرع في إبراء الذمَّة.
ثالثًا: أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- صام في سفره فدلَّ ذلك على مشروعية الصوم في السفر في حال عدم المشقَّة، وكُل هذا يُرجِّح القول بأن الأفضل فيما يتعلَّق بالصيام في السفر النظر إلى حال الإنسان؛ فإن شقَّ عليه الصوم فإن الفِطر له أفضل، فإن لم يشُقَّ عليه فالصوم أفضل إلا أن يحتف به أمر كأن يكون يُفطِر لأجل أن يُشجِع غيره على الفِطر ممن يحتاج إليه، أو يُبين الإباحة، أو ليُبين الرُخصة وعدم التأكد في الصيام بالنسبة للمُسافر، كل هذا لا بأس به، هذا من الأسباب كما فعل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فإن الظاهر من حاله أنه لم يشُق عليه الصيام -صلَّى الله عليه وسلَّم- عندما صام في سفره، في خروجه في عام الفتح، لكنه أفطر لأجل الناس لما بلغه أنهم ينظرون إلى فعله -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم-، هذا ثاني مَن يُعذر، أو هذا ثاني أهل الأعذار فيما يتعلَّق بالصوم، وهو المُسافر، الأول المريض مرضًا ليس مُمتدا يُرجى بُرؤه، والثاني المُسافر.
أما الثالث، فهو الحامل، والرابع المُرضِع، وحُكمهما واحد أجمع العُلماء على أن الحامل والمُرَضِع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفِطر بالإجماع، لا خِلاف بين العُلماء في ذلك، وأن عليهما القضاء لأنهما بمنزلة المريض، يعني في حُكم المريض الذي يخاف على نفسه، والله تعالى قد قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184 ، وهذه حالٌ تُشبه حال المريض فيما إذا خافت الحامل أو المُرضِع على نفسها من الصوم تأثُّرًا، أو مرضًا، أو ضعفًا فإنه يجوز لها الفِطر، وهذا محل اتفاق لا خِلاف بين العُلماء فيه، فلذلك قسَّم العُلماء -رحمهم الله- فيما يتعلق بالحامل والمُرضِع الأحوال إلى الباعث على الفِطر:
- الحال الأولى: أن تخاف على أنفسهما، فهُنا يحل لهما الفِطِر بالاتفاق، ولا يجب عليهما إلا القضاء.
- الحال الثانية: أن تخافا على ولديهما، أن تخاف الحامل، أو تخاف المُرضِع على ولدِها، الحامل تخاف أن يتأثر الولد بالصوم، ما تخاف على نفسها، لكن تخاف على حملها، وكذا المُرضِع تخاف أن يقل الحليب على ولدها، وإلا هي لا تخاف على نفسها، إذا أفطرت الحامل والمُرضِع للخوف على ولدِهما فيجوز الفِطر، هذا محل اتفاق، لا خِلاف بين العُلماء في جواز الفِطر، لكن اختلفوا فيما يجب بالفِطر، ما الذي يترتب على فِطر الحامل والمُرضِع إذا كان الفِطر لأجل الولد، هل يجب القضاء فقط، أم يجب شيء مع القضاء، أو لا يجب شيء؟ للعلماء في ذلك خمسة أقوال، ما نُطيل بذكر هذه الأقوال، نذكر الراجح، الراجح في هذه المسألة هو أن الحامل والمُرضِع إذا افطرتا خوفًا على ولديهما فلا يجب عليهما إلا القضاء فقط، وليس عليهما إطعام، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو قولٌ في مذهب الإمام أحمد، وقد اختاره شيخُنا عبد العزيز بن باز، وشيخُنا مُحمد العثيمين وهو الراجح، وقد قيل غير ذلك من الأقوال، قيل إنه يجب القضاء مع الإطعام، وقيل يجب القضاء في حق الحامل، ويجب القضاء مع الإطعام في حق المُرضِع، وقيل لا يجب القضاء ولا الإطعام، وقيل لا يجب إلا الإطعام فقط، فقيل أقوال كثيرة تصل إلى خمسة أقوال، لكن الراجح هو هذا القول وهو أن عليهما القضاء فقط، ولا إطعام عليهما وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واختيار مَن ذكرت من أهل العلم، أما مَن قال بوجوب القضاء والفدية جميعًا، فهذا مذهب الشافعي وأحمد -رحمهم الله-، والراجح ما ذكرته من أنه لا يجب إلا القضاء فقط، وإن أطعمتا تطوعًا، فهذا إحسان، ولا يجب به شيء.
أما النوع الخامس والسادس من أهل الأعذار فيما يتعلق بأحكام الصيام، فهما الحائض والنُفساء، المرأة إذا حاضت أو نَفِسَت حرُم عليها الصوم، ووجب عليها الفِطر، ولا يصِح منها الصوم ولو تطوعت بالصوم لأثمت، لو تطوعت بالصيام أثِمت لأنها أتت بما لم يشرعه الله تعالى، والدليل على عدم صحة صوم الحائض والنُفساء الإجماع، لا خِلاف بين العُلماء في ذلك، وقد دلَّ عليه قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما رواه البُخاري ومُسلم من حديث أبي سعيد: «أليس إذا حاضت لم تُصل ولم تصُم»، في بيان نُقصان دين المرأة، قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أغلب لذي اللب الحازم من أحداكُن»، فقالت امرأةٌ ما نُقصان ديننا وعقلنا؟ قال: «أليس شهادة المرأة بشهادة رجلين»، وهذا يدل على أن النقص هُنا ليس نقص الإدراك والفهم، إما نقص الضبط، والحفظ، والأداء، أما نقص الدين فهو، وأما نُقصان دينها، قال: «أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصُم»[صحيح البخاري(304)، ومسلم(79/132)]، وهذا نقص خلقي كوني لا تُعاب عليه المرأة، لأنها لو صامت أو صلَّت أثمت، فهي مُتعبَّدة بترك الصوم والصلاة، يعني هي تتقرب إلى الله بترك الصوم والصلاة، فهو عبادة، ولهذا مَن يسوق مثل هذه المقولة للمرأة على وجه التنقص لهُن والتعييب، والتقليل من حالهن، أنتم ناقصات عقل ودين، هذا ليس بسديد، ولا برشيد، ولم يقُل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذلك على وجه التنقص للنساء، بل قال ذلك بيانًا لحالهِن التي تستوجب التعويض بزيادة الخير، وزيادة العمل الصالح، وليس على وجه التنقُّصِ لهن، المقصود أن الحائض والنُفساء لا تصوم ولا يصح منها صوم بالاتفاق، وقد جاء وجوب قضاء الصوم على الحائض والنُفساء في السُنَّة أيضًا في قول عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت لما سألتها امرأةٌ مُعاذة سألتها قالت لها: ((ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟))، يعني لماذا الحائض تقضي الصوم دون الصلاة، فقالت لها:كُنَّا، كان يُصيبُنا ذلك يعني الحيض زمن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فنؤمر، نؤمر الآمر هو رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ((فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة))[صحيح مسلم(335/69)]، فدلَّ ذلك على أن المرأة الحائض والنُفساء تقضي ما أفطرت في حيضها، وهذا محل إجماع لا خِلاف بين العُلماء فيه، كما أجمعوا على أن الحائض لا تصوم، أجمعوا على أن الحائض والنُفساء تقضي ما كان من فِطرها في زمن حيضها ونِفاسها.
وبهذا يتم ما يتعلق بأحكام أهل الأعذار من جهة الصيام، ونُجمِل ذلك قبل أن نستقبل أسئلتكم بأن نقول:
فرض الله تعالى الصوم على كل مؤمنٍ ومؤمنة بشروط: الإسلام، البلوغ، العقل، الخلو من الأعذار، هذه شروط وجوب الصيام.
طبعًا بعض العُلماء يقول في الشروط: القُدرة والإقامة، لكن الخُلو من الأعذار يجمع هذين الشرطين، إذًا هذه هي شروط الصيام، والمقصود بالخُلو من الأعذار ألا يكون له عذرٌ إما يمنعه من الصوم أو يُحِل له الفِطر، والأعذار تنقسم في الجُملة إلى قسمين:
أعذار دائمة، وأعذار عارضة، الأعذار الدائمة يندرج تحتها صِنفان من الناس، مَن هُم؟ الكبير الهَرِم الذي لا يقوى على الصيام، والثاني المريض مرض لا يُرجى بُرؤه، هذان صِنفان تحت أصحاب الأعذار الدائمة، أصحاب الأعذار العارضة التي تعرِض وتزول كم هُم؟ ستة أصناف: المريض، والمسافر، والحامل، والمُرضِع، والحائض، والنُفساء، وقد بينَّا ما يتعلَّق بكل هؤلاء من أحكام وما يتصل بهم من تفصيل.
أسأل الله أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم ألهمنا رُشدنا، وقِنا شر أنفُسنا، ووفقنا إلى ما تُحب وترضى من القول والعمل، وسددنا في السر والعلن، ونشكر الرئاسة، رئاسة شئون الحَرَم المكي، والمسجد النبوي على تنظيم مثل هذه الدروس المُباركة التي تُشرف عليها إدارة التوجيه والإرشاد في الرئاسة، وهذه ضمن سلسلة مُحاضرات تتعلق بأحكام الصيام، فجزاهم الله خيرًا وسددهم على ما يبذلون، وحقهم الدُعاء والشكر على التسهيل والتيسير في بذل العلم ونشره.