المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طبتم وطابت أوقاتكم جميعًا بكل خير، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.
في هذه الحلقة لبرنامج "الدين والحياة"، والذي نستمر معكم فيه على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى، والذي نشرف فيه وإياكم بضيف حلقات هذا البرنامج وهو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله، وأهلًا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم، حياك الله، وأهلًا وسهلًا.
المقدم:- حياك الله فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام في برنامج "الدين والحياة"، نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ويسعد بها في دنياه وآخرته بمشيئة الله تعالى، من هذه الموضوعات التي سنناقشها ونطرق بابها موضوع "الملل"، وهو آفة العصر، سنتحدث عن حقيقته وآثاره، وأيضًا سنتحدث عن سبل علاجه.
فضيلة الشيخ اسمح لي أن نقسِّم الحلقة إلى أجزاء نتناول فيها هذا الموضوع، نتكلم عن حقيقة المَلَل، ونتحدث في جزءٍ آخر عن آثاره، وأيضًا في الجزء الأخير نتحدث عن سبل علاج هذه الظاهرة أو هذا الأمر.
لكن ابتداءً فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن سياقات ذكر الملل في الدين الإسلامي أين وردت؟ وكيف جاءت في الكتاب والسنة؟ هل وردت على سبيل التحذير؟ هل وردت بالحلول أم غيرها؟
الشيخ:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ:- تحيةً طيبةً لك أخي وائل وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يجعله لقاءً نافعًا مباركًا.
فيما يتصل بموضوع الملل، موضوع الملل موضوع جاء ذكره في الكتاب والسنة، أما في القرآن الكريم فقد جاء النهي عنه في قوله تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾البقرة: 282 وحتى يتضح ارتباط السآمة بالملل نحتاج إلى أن نعرف ابتداءً حقيقة الملل؛ ما هو الملل؟ الملل الذي نتحدث عنه هو حالة تصيب الإنسان ينفر فيها عن الأشياء، وتستثقل نفسه الأمور، وتضجر، وتسأم، فالملل حال تكون فيها نفس الإنسان نافرة من الشيء، تستثقله، تضجر منه، تسأم، ويعبر عنه بعبارات مختلفة متنوعة؛ فيعبر عنه بالملل و(الطفش) والسآمة (وما لي خلق)، وما أشبه ذلك من العبارات التي وإن اختلفت ألفاظها إلا أنها تعبر عن حالة نفسية من النفور والضيق والتثاقل وكراهية الشيء والسآمة منه والضجر، هذا ما يعنيه الملل، وهو حالة نفسية تصيب الإنسان جِبِلَّة وطبيعة، ومنه ما هو طبيعي يعالج بالأسباب التي تزيله ويُتعايش معه ويتعامل، ومنه ما هو مرضي ينتقل إلى كونه تمكَّنَ من الإنسان وأصبح يحتاج إلى علاج وإلى حسن إدارة حتى يخرج الإنسان من آثاره.
مثل ما تفضلت قبل قليل فيما يتعلق بذكر الملل في الكتاب والسنة، نعم جاء ذكر الملل في الكتاب والسنة إثباتًا ونفيًا، وقال الله تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾البقرة: 282 هذا في آية الدين؛ الله تعالى بعد أن ذكر الديون وما شرعه من توثيقها وكتابتها لئلا تضيع وتقع الخصومات والمنازعات بين الناس قال: ﴿وَلا تَسْأَمُوا﴾البقرة: 282 أي: لا تملوا ﴿أَنْ تَكْتُبوهُ﴾ أي: الدين الذي يقع بينكم في المعاملات، ﴿صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا﴾ أي: سواء كان دينًا في شيء صغير من المال أو في شيء كبير، ﴿إِلَى أَجَلِهِ﴾ أي: مقيِّدِين الأجل الذي يثبت به الحق.
وفي صور ما ذكر الله تعالى من الملل في قوله تعالى: ﴿لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾فصلت: 49 ؛ فقوله تعالى: ﴿لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ﴾ نفى الله تعالى في هذه الآية سآمة الإنسان وملله من دعاء الخير ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾فصلت: 49 ﴿لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ فلا يمل الإنسان من سؤال الله تعالى الخير، ولكنه إذا نزل به ما يكره أصابه ما ذكره الله تعالى من شدة اليأس والقنوط.
وأيضًا جاء ذكر بعض الأعمال التي فسرت بأنها ناتجة عن الملل في القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾البقرة: 61 في قول بني إسرائيل للنبي موسى -عليه السلام- لما خرجوا من مصر قالوا لموسى: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ وقد مَنَّ الله تعالى عليهم بالمنِّ والسلوى دون كدٍّ ولا تعب ولا عناء، فلما طال عليهم العهد في أكل هذا الطعام مَلُّوه، وتذكروا ما كانوا فيه من عيش وإن كان رديئًا، من عيش في مصر قبل خروجهم مع موسى وإن كان رديئًا من البصل والثوم وما أشبه ذلك من البقول التي لها روائح كريهة فقالوا: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾البقرة: 61 فأشار إلى أن هذا فيما يظهر منشؤه الملل، ومآله أنهم تركوا الأفضل وأخذوا المفضول من الطعام.
ومنه أيضًا ما قصَّه الله تعالى في سورة سبأ في خبر ما مَنَّ به على أهل سبأ من النعم؛ حيث قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾سبأ: 18 ؛ هذه الآية ذكر الله تعالى فيها ما تفضل به على أهل سبأ من تقارب المسافات بينهم وبين مقصدهم في الشام، والقرى التي بارك الله تعالى فيها هي الشام، وكانوا يرحلون من سبأ من اليمن إلى الشام في رحلة تزوُّد وتجارة ونحو ذلك، فيسَّر الله عليهم الأمر بأن جعل بين هذين المكانين ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي؛ مدنًا بينةً عامرةً يقف فيها المسافرون فيقضون حوائجهم وينقضون ما أصابهم من وعثاء السفر وتعبه، لكن هؤلاء لم يشكروا هذه النعمة، بل ملوها: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾سبأ: 19 يقول الحسن البصري في تفسير الآية: «ملوا النعمة» وهي تقارب المسافات ويُسْر الارتحال والسفر ما بين اليمن والشام.
هذه بعض المواضع التي جاء فيها ذكر الملل والسآمة في القرآن الكريم؛ إما صراحة وإما ضمنًا فيما ذكره الله تعالى من قصص الأمم السابقة.
وأما السنة النبوية؛ فإن الملل جاء ذكره في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا» والحديث في الصحيحين عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من هذه؟» فقالوا: فلانة. سموها، ثم قالت رضي الله تعالى عنها: قالت عائشة: تذكر من صلاتها أي: أنها تذكر أنها تصلي كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَهْ» أي: لِتَكُفَّ عن هذا فـ«مه» كلمة تفيد طلب الكف؛ اسم فعل يفيد طلب الكف عن الشيء؛ أي: لتكف عن هذا الذي تشتغل به من العبادة الكثيرة المثقلة لها.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا»[صحيح البخاري:ح43] وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه.
وفي الحديث الآخر؛ حديث صلاة الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وكونهم اجتمعوا ليصلي بهم أكثر من ليلة؛ فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا».[صحيح البخاري:ح5861]
ومما لاحظ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - جانب الملل ما جاء في حديث ابن مسعود حيث قال له بعض أصحابه: لولا حدثتنا كل يوم، وكان يحدثهم مرةً في الأسبوع، فقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَخوَّلنا بالموعظة» يتخولنا أي: يتعاهدنا بالموعظة، ويطلب الوقت المناسب للتذكير في الأيام، ثم ذكر علة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُديم التذكير لأصحابه، بل كان يتحيَّن ذلك ويتخولهم فقال: «كراهة في السآمة علينا»[صحيح البخاري:ح68] وفي رواية: «مخافة السآمة علينا»[صحيح البخاري:ح70] يعني أن النبي خاف أن يملوا من كثرة وعظه لهم إذا أكثر، فكان يقتصر على الوعظ القليل حتى يعقل عنه الناس ويأخذوا عنه بنشاط وهمة وإقبال.
فهذه النصوص كلها أشارت إلى الملل وآثاره ومعالجته وما ينبغي أن يجتنب منه.
والشريعة المطهرة في بنائها، في فرائضها وواجباتها، راعت هذه الطبيعة البشرية وهي الملل سواء كان ذلك في الفروض أو في النوافل؛ حيث نوَّعت العبادات وصنفت القربات على نحوٍ يأخذ فيه الإنسان من كل صنفٍ من هذه الأصناف العبادية بما يفتح الله تعالى له دون أن يصيبه سأم أو ملل أو يتطرق إلى قلبه استثقال وكراهية وضجر من هذه العبادات والطاعات، هذا ما يتعلق بالجزئية الأولى التي تتصل بحقيقة الملل وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة في شأن هذه الخصلة.
المقدم:- جميل، فضيلة الشيخ نخلص من خلال هذه المقدمة ومن خلال هذا الجزء إلى أن الملل والسآمة قد تكون طبيعةً جِبِلِّيةً في خلق الإنسان؛ لذلك جاءت الشريعة مرات بمعالجة هذا الأمر، ومرات بالتحذير منه، وهذا فيه ردٌّ على من يقول: إن كل الملل والسأم لا يأتي فقط إلا عندما يكون الإنسان بعيدًا عن ذكر الله وعن طاعة الله - عز وجل -.
الشيخ:- إذا كان الإنسان يتطرق للعبادات وللذكر وللطاعة فبالتأكيد أنه يكون في كل الأمور، والجامع لكل صور الملل أنه يأتي الإنسان حال الإكثار من الشيء، وهذا يجعلنا نشير إلى أهم أسباب الملل؛ وهو الإكثار من الشيء فعلًا أو قولًا، وكلما أكثر الإنسان من شيء كان ذلك من أسباب وقوعه في الملل أو تطرُّق الملل إلى قلبه، وثمة أسباب أخرى لكن هذا السبب يشير إلى أن الإكثار من الشيء يوجب الملل؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ أَدْوَمُهَا وإن قَلَّ»[صحيح البخاري:ح6464]، يعني وإن كان قليلًا؛ لأن المداومة استمرار ومواصلة، بخلاف الكثرة المنقطعة فإن تأثيرها يزول بالانقطاع؛ ولذلك قال: «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
فالمقصود أن الملل أمر طبيعي يعتري كل البشر، ويعتري الجميع الصالح وغيره، ويتطرق للعبادات وللعادات، ويتطرق لجميع أحوال الإنسان، بل حتى يسأم الإنسان من حياته إذا طال عمره كما قال الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش***ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم
فطول العهد وطول العمر أحيانًا قد يكون من أسباب السآمة والملل، فطبيعة البشر أنهم يملون مما يطول؛ ولهذا كان من نعيم الجنة ما هو متنوع بأشكاله وصوره حتى إنهم لا يدركون هل هذا الذي يتنعمون به هو الأول أو غيره؛ كما قال تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾البقرة: 25 يعني يُؤتون بالنعيم متشابهًا، فيشتبه عليهم هل هو هو الأول أو غيره؟ وهذا من فضل الله على أهل الجنة أن نوَّع لهم في النعيم، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها؛ «لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».[صحيح البخاري:ح3244]
المقدم:- فضيلة الشيخ نكمل ما بدأنا الحديث به؛ وهو عن الملل والسآمة، وذكرنا حقيقة الملل، وذكرنا أيضًا السياقات التي ذكر فيها الملل في الكتاب والسنة، نريد أن نتحدث في هذا الجزء عن الآثار؛ ما هي الآثار المترتبة على الملل؟ هل هناك آثار سلبية تكون على الفرد وعلى المجتمع من هذا الملل؟
الشيخ:- قبل أن نتحدث عن هذا لو نشير فقط إلى شيء من الأسباب؛ حيث أشرت قبل قليل إلى أن من أهم أسباب وقوع الملل وتَطرُّق الملل للنفوس؛ الإكثار من الشيء قولًا أو فعلًا سواء كان الشيء عملًا أو كان الشيء طعامًا أو كان الشيء شرابًا أو لباسًا أو مركوبًا أو ما إلى ذلك من الأمور التي يلابسها الإنسان في معاشه، فالإكثار من أي شيء هو سبب من أسباب الملل؛ ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - نبَّه إلى العناية بهذا الأمر والبعد عن تحميل النفس ما يثقلها وما تكرهه؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يمل حتى تملوا» وجاء ذكر هذا في مناسبة؛ وهي طلب الاستكثار؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على عائشة وعندها المرأة التي ذكرت من شأن صلاتها وكثرتها ما ذكرت، قال: «مه، عليكم بما تطيقون» أي: بما تسعه طاقتكم وتتحملونه دون أن يكون في ذلك مشقة أو عناء، «فوالله لا يمل الله حتى تملوا»[سبق] وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه.
وهذا إشارة إلى أن كثرة الشيء تكون سببًا للملل، وهذا ما ذكره أيضًا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا».[سبق]
ولما صلى بالناس - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا منه أن يصلي بهم في الليلة الثانية قال: «يا أيها الناس، عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ ما دووم عليه»[سبق] يعني ما استمر عليه صاحبه «وإن قَلَّ».
فهذه الأحاديث كلها تشير إلى ألا يكثر الإنسان، حتى العبادة لا يكثر منها، «كلوا واشربوا وتصدقوا»، الصدقة عبادة، «من غير سَرَف ولا مَخِيلة»[علقه البخاري في صحيحه مجذوما بصحته، ترجمة حديث:5783] الوقفة عنده قوله: «من غير سَرَف» يعني من غير تجاوز للحد المعتاد أو المطلوب في هذه الأمور؛ فإن الزيادة في ذلك لها آفات؛ من آفاتها الانقطاع، من آفاتها الملل، من آفاتها السآمة التي تحمل الإنسان على الترك.
أيضًا من أسباب وقوع الملل في نفوس الناس وتطرق الملل إليهم، تكرار الشيء؛ فإن الشيء إذا تكرر سئمه الإنسان؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا﴾البقرة: 282 في آية كتابة الدين ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾البقرة: 282 فلما كانت الديون تدور عليها معاملات الناس كثير من الناس يسأم ويملّ ويقول: لا داعي أن تكتب، ويبني الأمور على الثقة، لاشك أن الثقة أصل نجاح كل المعاملات، ولا تتم المعاملات إلا على قاعدة الثقة في التعامل بين الناس، لكن التوثيق والكتابة ليست منافيةً للثقة وليست منافيةً للأمانة، بل هي وسيلة من وسائل إبعاد الأوهام والشكوك والظنون والمنازعات التي تنشأ عن النسيان والغفلة؛ قال الله تعالى: ﴿وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾البقرة: 282 فتكرار الشيء قد يكون هذا من أسباب السآمة؛ فتمل وتتهاون سواء في أمر دين أو في أمر دنيا، فلا تتنبه إليه ولا تنشط له لكونه يتكرر.
من أسباب الملل أيضًا عدم معرفة قدر فقدان النعمة، وهذه مشكلة كبيرة يقع فيها كثير من الناس؛ يملُّ لأنه ما قدَّر النعمة التي بين يديه، جاءته يسيرة، جاءته من غير عناء ولا تعب؛ فبالتالي لا يشعر بقيمتها فيملها، لا لأنها مملة، لكن لأنه لا يعرف قدرها؛ ولهذا معرفة قدر النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليك سواء كان ذلك في صحتك، سواء كان ذلك في مالك، في جاهك، في أمن بلدك، في سعة رزقك؛ في أي جانب من جوانب النعمة.
معرفة قدر النعمة يحمل النفس على شكرها وعلى المحافظة عليها، وعلى عدم الملل منها، لذلك يملُّكثير من الناس هذه النعم فيتركونها، لا لأنها ليست ذات قيمة، لكن لأنهم لا يعرفون قيمتها فيجحدون النعم ويملونها، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قصة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾البقرة: 61 استبدلوا المن والسلوى وهو من خير الطعام وأشهاه وألذه بما هو رديء من الثوم والبصل والعدس وما أشبه ذلك من البقول.
وأيضًا أولئك الذين يسر الله لهم سهولة التنقلات في الأسفار في قصة قوم سبأ ملوا هذا التقارب، وقالوا: نريد سفرًا نكون فيه على حال من التباعد في مناطق النزول، ما حملهم أن قالوا: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾سبأ: 19 فكان من دعائهم أنهم سألوا الله - عز وجل - أن يباعد بين أسفارهم، ويجعل بينهم وبينها من المسافات ما تحصل لهم بهم مشقة: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾سبأ: 19 .
فعدم معرفة قدر النعمة يجعل الإنسان يمل منها؛ ولذلك تجد من يمل من صحته، يمل من عافيته، تجد من يمل من فراغه؛ في حين أن الفراغ من أعظم النعم التي ينعم الله تعالى بها على الإنسان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»[صحيح البخاري:ح6412] لكن هو لكون هذا الوقت وهذا الزمن وهذا الفراغ لا قيمة له عنده، ما له معرفة بقيمته وأن له منزلة كبرى؛ إذ الوقت هو الحياة؛ تجده يمل ويصاب بالطفش والزهق ويبدأ يبدد الوقت يمنةً ويسرةً.
هذه بعض الأسباب التي ينشأ عنها الملل إجمالًا: الإكثار من الشيء والإسراف فيه، تكرر الشيء ومعاودته، عدم معرفة قدر ما أنعم الله تعالى به على الإنسان.
أما ما يتعلق بالجزئية الثانية التي أشرت إليها، وهي ما يتعلق بآثار الملل؛ لاشك أن الملل آفة، وعندما تتمكن من نفس الإنسان فإنها ستحمله - إن لم يعالجها ويقوِّمها - على فوات خير كثير، فبالملل ينقطع الأجر وتنقطع الخيرات والفضائل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يمل حتى تملوا»[سبق]، «اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ»[هذا الحديث عند البخاري، وهذا اللفظ عند الطبراني في الأوسط:ح5281] فإذا ملَّ الإنسان من الطاعة سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة ترتب على ذلك الإثم فيما إذا كان ما تركه من العبادات واجبًا، وفوات الفضل والأجر والخير فيما إذا كان ما تركه من العبادات مستحبًّا ومن النوافل والتطوعات.
من آثار الملل أيضًا انقطاع مصالح الإنسان في الدنيا؛ لأن الذي يمل لا يصل إلى ما يرجو ويؤمِّل، بل تجده لا يصل إلى فضل ولا يحقق مجدًا؛ ولهذا قال الشاعر يحكي حال شخص أنه في سعيه إلى ما يريد من الفضائل والمكرمات والمنازل العاليات سار سير الذي يدب، وهو السير الخفيف الواني الضعيف:
دببتَ للمجد والساعون قد بلغوا
جهد النفوس وشدوا دونه الأزرا
ثم قال:
وكابدوا المجد...
- أي عانوا في تحصيله -.
... حتى مل أكثرهم...
- هذا حال الناس -.
... وعانق المجد...
- أي: أدرك الفضل –.
... من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله***لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ولهذا من آثار الملل فوات الفضائل، دينية ودنيوية، ولا يسود القوم ملول، ولا يبلغ الفضل صاحب سأم يستجيب لسآمة، ما في إنسان ما يمل، لكن نختلف في معالجتنا للملل وطريقة تعاملنا معه ومحاولة التخلص من آثاره وسلبياته.
مما ينتج عن الملل الكسل والتهاون في الفضائل؛ يمل فيكسل، والكسل مصدر كل شر؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله - عز وجل - من العجز والكسل، العجز ترك الفضائل لعدم القدرة عليها، والكسل ترك الفضائل للتهاون في طلبها، هذا الفرق بينهما، وكلاهما استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ العجز هو أن تترك فضيلة لا تقدر عليها، وهنا لا يلام الإنسان، لكن أن يستعيذ الإنسان بالله من العجز؛ لأنه تفوته في النهاية الفضيلة بسبب عدم قدرته عليها، وأما الكسل فإنه تركٌ لما يقدر عليه من الفضائل؛ ولهذا كان من أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل - وفي رواية - من الجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر».[صحيح البخاري:ح2823]
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في أذكار الصباح والمساء: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال».[صحيح البخاري:ح6369]
فالمقصود أن من آثار الملل: الكسل والتهاون بالفضائل وعدم الاشتغال بما ينفع.
من آثار الملل الإصابة بالأمراض النفسية؛ لأن الملول سيقعد عن العمل، ولا ينتج ولا يثمر، والإنسان إذا قعد عن العمل، لم يشغل نفسه بخير، فبالتأكيد ستشغله بباطل؛ الباطل هنا ليس بالضرورة أن يكون اشتغالًا بمحرم، الباطل يشمل كل ما لا فائدة فيه، بل يشمل كل ما فيه مضرَّة، سواء كان ذلك بالوساوس والأفكار والهواجس، أو كان ذلك بأمور أخرى بأن يسخِّر نفسه بما لا فائدة فيه.
من آفات الملل ومن آثاره الرديئة أنه من صور كفران النعم وعدم شكرها، وكفر النعم موجب لزوالها؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾إبراهيم: 7 ، فالملول لا يشكر نعمةً، بل هو في الحقيقة غافل عن النعمة؛ فالذي يمل من الفراغ ولا يستثمره في نافع؛ هذا غافل عن نعمة الفراغ؛ ولهذا هو مغبون؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».[سبق]
وكذلك الذي لا يقدر نعمة الأمن التي تفضَّل الله تعالى بها عليه في نفسه وأهله وماله وبلده تجده قد يفرِّط في أسباب الأمن، ولا يأخذ بالوسائل التي تحقق الأمن؛ لأنه لا يقدُر هذه النعمة قدرها، ولا يعرف عظيم إنعام الله تعالى عليه بها، وبالتالي يمل من أخذ الأسباب الموصلة إليها.
ومن هذا ما نشاهده في حال كثير من الناس مثلًا في تفريطهم بأخذ أسباب السلامة، سواء كان ذلك في البيوت، أو كان ذلك في المراكب، أو كان ذلك في الاجتماعات، أو كان ذلك في الأعمال أو التعاملات، ما يأخذ الإنسان بأسباب السلامة؛ لأنه يمل من أخذ التدابير التي يسلم بها؛ على سبيل المثال تجده يركب السيارة ولا يربط حزام الأمان على سبيل المثال، لأنه يحصل تكرار هذا، ويقول: أنا ركبت وركبت ولم يحصل لي شيء، لكن هو لو أدرك أن هذا الفعل أولًا لا ينقصه ولا يضره بإدامته، وأنه سبب من أسباب سلامته وحصول النجاة له فيما إذا طرأ طارئ أو حصل مكروه - كان ذلك من دواعي أخذ هذه الأسباب التي تفضي إلى الطمأنينة والراحة.
فالمقصود أن الإنسان إذا استجاب للملل فاتته خيرات كثيرة في دينه ودنياه، وتورط في إشكالات كثيرة؛ ومنها أيضًا إضاعة الحقوق؛ فإن الملل سبب لإضاعة الحق، وهذا سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الخلق؛ في حقوق الوالدين أو في حقوق الأرحام أو في حقوق الجيران أو في حقوق عموم الناس من أهل الإسلام وغيرهم، أو الحقوق الناشئة عن التعاملات والوفاء بالعهود والعقود.
كل هذه الآثار تنتج عن الملل وعدم معالجته والاستجابة له في ترك ما لابد للإنسان منه على نحوٍ من الالتزام الذي يحصل له به صلاح دينه ودنياه.
المقدم:- جميل، فضيلة الشيخ كنا نتحدث عن الملل، وتحدثنا في البداية عن حقيقته، وتحدثنا أيضًا عن سياقات ذكر الملل في الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك تحدثنا عن بعض الأسباب المؤدية للملل، وتحدثنا أيضًا عن بعض الآثار لهذه الآفة؛ الآثار السيئة والسلبية على حياة الإنسان.
نريد أن نتحدث فضيلة الشيخ في الجزء المتبقي عن بعض سبل علاج هذه الآفة؟
الشيخ:- ما يتعلق بعلاج الملل؛ من أسباب علاج الملل ألا يكثر الإنسان من الالتزامات أو الأعمال التي تشق عليه وترهق نفسه؛ فإن ذلك توجيه نبوي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اكْلَفوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا»[سبق]فلا يحمل الإنسان نفسه أكثر مما يطيق سواء كان في عمل طاعة وعبادة أو كان في عمل دنيا، يعني بعض الناس مثلًا في أعمال استثمار الوقت في الإجازات الصيفية مثلًا قد يملأ وقته، أو الوالد والوالدة يضعون جداول لأبنائهم تكون مليئة بصورة لا تترك لهم مساحة لتلبية حوائجهم النفسية، بل تثقلهم، وبالتالي ينقطعون فلا يحققون المقصود من استثمار الوقت أو الاستفادة أو بناء النفس أو اكتساب مهارات أو التعلم وما إلى ذلك؛ فمن المهم في علاج الملل في الأعمال العبادية وفي الأعمال العادية والدنيوية ألا يحمل الإنسان نفسه أكثر مما يطيق.
وهذا ليس مدعاةً إلى التهاون في القيام بالواجبات، ولا مدعاة إلى الإغراق في إعطاء النفس ملذاتها، النفس إن أعطيت هواها لم تنكفَّ ولم تنزجر؛ كما قال الشاعر:
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فلابد من سياسة للنفس بحيث تأخذ قدرًا من الاستجمام والراحة، لكن لا تفوت ما لابد لها منه وما فيه صلاحها في دينها ودنياها.
إذًا الأمر الأول: الأخذ بالتوجيه النبوي في أمور الدين وأمور الدنيا: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا».[سبق]
الأمر الثاني: إدراك أهمية ما تقوم به من عمل؛ فكلما اتضح لك أهمية العمل الذي تقوم به تضايقت وانحسرت مساحة الملل؛ فكان الإنسان نشيطًا مقدامًا باذلًا في تحقيق غرضه، لكن الذي يعمل العمل وهو لا يعرف قيمته؛ يصلي ولا يعرف أثر الصلاة وقيمة الصلاة، يشتغل بكسب الحلال ولا يعرف أثر هذا الكسب في إكسابه مهارة ومعرفة وحصول الكفاية له ولمن يعوله وفي بناء مستقبله، بالتالي لا يعرف قيمة ما يشتغل به، ومن مهمات إتقان الأعمال والإتيان بها على وجه الكمال الممكن: أن يعرف الإنسان قيمة ما يشتغل به؛ ولهذا ذكَّر الله تعالى بالنعم وبيَّن أهميتها وعدَّدها على وجه البيان في مواضع عديدة من كتابه؛ ليعرف الناس قيمة هذه النعم فيشكروا الله تعالى عليها ويستثمروها فيما يفيد.
النقطة الثالثة مما يعالج به الملل: إعطاء النفس حظَّها من الراحة والسعة والترويح الذي يُنتج عملًا، ويكون سببًا لمزيد عطاء ومزيد اشتغال بنافع، ومنه ما جرى في قصة حنظلة أنه لقي أبا بكر رضي الله تعالى عنه فسأله عن حاله فقال: نافق حنظلة. فقال له: وماذا كان؟ ما سبب هذه المقولة: أن تصف نفسك يا حنظلة - وهو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم - بالنفاق؟ فقال له: نكون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس الذكر فنسمع منه ما نسمع، ثم إذا خرجنا من عنده عافسنا النساء والأولاد، وحصل منا ما يحصل من مقتضيات الحياة الطبيعية من أن تكون حالنا في معاشنا أقل مما نكون عليه عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمع أبو بكر هذه المقالة، فذهب هو وحنظلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «وما ذاك؟» فقال حنظلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأي عين، يعني كأننا نبصر الجنة والنار من شدة يقيننا وتصديقنا بخبرك، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، يعني ذهب عنَّا ما نجده من أثر حديثك الذي نجده عندما تحدثنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي» يعني لو أنكم استمرت حالكم على الحال التي تكونون عندي «وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم»، لسلامتكم من كل الذنوب، وإجلالًا وإكرامًا لكم «ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»[صحيح مسلم:ح2750/12] كررها - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات «يا حنظلة ساعة وساعة» ثم انحل عند حنظلة ما بيَّنه له النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن النفوس تحتاج إلى ترويح.
طبعًا مسألة «ساعة وساعة» بعض الناس يظن أنها ساعة طاعة وساعة معصية، وهذا ليس بصحيح، وبه نعلم أنه من أخطر أسباب وطرق علاج الملل: الوقوع في المعصية؛ بعض الناس يعالج الملل بالتورط في المعاصي، وقد يزيِّن له الشيطان هذا ويقول لك: النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا حنظلة ساعة وساعة» وحنظلة لم يذكر معصيةً، ما قال: نكون عندك في الذكر على حال من الطاعة والإحسان، ثم إذا خرجنا عصينا وفعلنا من المحرمات ما فعلنا، لا، قال: فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات. يعني خلطنا الحياة العادية الطبيعية فيحصل منا من الغفلة ما يحصل، وليس أنه يقع في محرم أو ذنب، فلا دليل في قوله: «ساعة وساعة» على من يضع هذا في غير موضعه يقول: إنه ساعة للطاعة وساعة للمعصية، ساعة لربك وساعة لقلبك، بل قلبك لله بكل أحواله حتى في حال اشتغالك بالدنيا؛ ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾الأنعام: 162- 163 .
من أسباب وطرق علاج الملل: التنويع، وألا يلزم الإنسان عملًا بعينه أو حالًا بعينه، بل ينوِّع فيما فيه تنويع سواء كان ذلك في العبادات أو كان ذلك في أعمال المعاش والدنيا؛ فمثلًا في الصلاة مرةً يقرأ الفاتحة وسورةً من قصار السور، ما يديم شيئًا واحدًا، ينوِّع، وفي أذكار السجود والركوع ينوِّع، وكذلك في الأعمال المعاشية ينوِّع، والتنويع من أسباب إزالة السآمة والملل؛ لأن الإكثار من الشيء يوجب الملل منه؛ ولهذا قال:
وَمَلَّنِيَ الفِراشُ وَكانَ جَنْبِي *** يَمَلُّ لِقاءَهُ في كُلِّ عامِ
يعني الراحة الآن، بعض الناس يطيل النوم ويبقى في الفراش مددًا طويلة، يمله الفراش، ولا يكتفي من ذلك راحة؛ لأن الراحة تحصل بقدر معين من النوم والبقاء في مخدعك وفي فراشك، فإذا طال وتجاوز كان ذلك من دواعي الضرر عليك في صحتك وفي معاشك وفي معادك.
المقدم:- شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم. شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على ما أجدت وأفضت به في هذه الحلقة.
الشيخ:- الله يحفظك ويبارك فيك، والشكر موصول للجميع، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ أوقاتنا وأعمارنا بما فيه الخير، وأن يحفظ ولاتنا وبلادنا من كل سوء وشر، وأن يدفع عنا وعن المسلمين ما نكره، وأن يعم بالخير البشرية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.