المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طبتم وطابت أوقاتكم بكل خير، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى، والتي نشرف فيها وإياكم بضيف حلقاتنا وهو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ أهلًا وسهلًا، وحياك الله معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ خالد: حياكم الله، وأهلًا وسهلًا بكم.
المقدم: حياك الله.
فضيلة الشيخ -بمشيئة الله تعالى- سيكون حديثنا في هذه الحلقة حول موضوع الأشهر الحرم وبعض خصائصها، وأيضًا عن بعض أحكامها، سنتحدث بإسهاب -بمشيئة الله تعالى- في ثنايا هذه الحلقة حول هذا الموضوع.
لكن ابتداءً فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن سنة التمايز التي فضَّل الله تبارك وتعالى بها بعض الأشياء عن بعضها، ومن هذا التفضيل ومن هذا التمايز ما فضَّل الله تبارك وتعالى به بعض الأشهر على بعضها ألا وهي الأشهر الحرم.
نبتدئ فضيلة الشيخ بالحديث عن هذا الموضوع.
الشيخ خالد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيةً طيبةً لك أخي وائل، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
الله تعالى ذكر في كتابه أنه -سبحانه وبحمده- خالق كل شيء: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾الرعد:16 جل في علاه، وهو -سبحانه وتعالى- في خلقه له الحكمة البالغة فيما يخلق وفيما يخص به خلقه سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول -جل في علاه-: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾القصص:68 فأثبت الله تعالى لنفسه الخلق، وأنه سبحانه خالق الأشياء، وأثبت أن هذا الخلق ليس على درجة واحدة أو على منزلة واحدة، بل هو مختلف من حيث اصطفاء الله عز وجل، ومن حيث ما يمنُّ به على هذا الخلق من الخصائص والفضائل والهبات.
فالله تعالى يختار من خلقه ما يشاء، وفي اختياره لما يختاره من خلقه له الحكمة البالغة؛ فالله أعلم بمواطن الاختيار، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم بمحالِّ الفضل والاصطفاء، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾القصص:68 أي: ليست الخيرة فيما يختاره -جل وعلا- للخلق، فالخلق عندهم من الجهل، وعندهم من عدم العلم، وعدم الحكمة ما لا يؤهِّلهم للاختيار، بل الاختيار له جل وعلا؛ ولهذا لما ذكر الاختيار في قوله: ﴿وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾القصص:68 فلا يسوغ لأحدٍ أن يتعقب ما اختاره الله واصطفاه فإن ذلك من الاعتراض عليه، وهو -سبحانه وتعالى- منزَّه عن كل عيب أو نقص أو قصور فيما يقضيه ويختاره سبحانه وتعالى.
خلق الله ذواتٍ وأشخاصًا، وخلق سبحانه أحوالًا وأعمالًا، وخلق -جل وعلا- زمانًا ومكانًا، وخلق كل شيء سبحانه وبحمده.
وهو من هذا الخلق يصطفي؛ فمثلًا قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾الحج:75 ، والاصطفاء هو الاختيار، وقال -جل وعلا- في اصطفاء من يصطفيهم لبعض ما يمنحهم؛ قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾فاطر:32 أي: اخترنا من عبادنا، وقال -جل وعلا-: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾الإسراء:70 ، فكل هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن يشير إلى أن الله يختار من خلقه ما يشاء وِفقَ حكمته وكمال علمه، فيخصه بما يخصه به من الخصائص والهبات، حتى في الجنس الواحد يفاضل الله تعالى بين المخلوقات وفق علمٍ وحكمةٍ، يفاضل بينهم في الأوصاف وفي الأحكام.
فبعد أن ذكر الله تعالى المواريث وحال الذكور والإناث وما إلى ذلك؛ قال: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾النساء:32 ، فالله خص الرجال بخصائص كما خص النساء بخصائص، وهذا التخصيص وفق علمه وحكمته سبحانه وبحمده.
فيما يتعلق بحديثنا عن الأشهر الحرم؛ الأشهر الحرم جزء من الزمان، وهو طريقٌ لحساب الزمان ومعرفته، وقد تولى الله تعالى قسمة الزمان بنفسه إلى أشهر، ذكر عدتها في كتابه حيث قال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ﴾التوبة:36 أي: في حكمه القدري والكوني، والشرعي الديني ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾التوبة:36 أي: في قضائه وحكمه ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾التوبة:36 . ثم لما ذكر هذا العدد للأشهر التي أجرى الله تعالى عليها نظام الزمان ودورانه وسيره؛ قال: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 هذا التخصيص لهذه الأربعة هو اصطفاءٌ من الله عز وجل حيث اصطفى من الأشهر التي ذكر عدتها أربعة، ميَّزها بقوله: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 يعني لها حرمة، ومنزلة، ومكانة، ومنعة عنده سبحانه وبحمده.
ثم ذكر أن هذا الخبر عن الأشهر وعما كان منها محرمًا هو دين الله القيِّم الذي تقوم به مصالح الناس في دنياهم وآخرتهم، وفي معاشهم ومعادهم ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾التوبة:36 ، فالله تعالى أخبر عن اصطفاء هذا الزمان وهي هذه الأربعة أشهر من سائر الزمان بالتحريم، والتحريم يقتضي مزيد عناية وحرمة ومنزلة ومكانة ليست لسائر الزمان.
ثم قال بعد أن ذكر الزمان في قسمته إلى اثني عشر شهرًا والأربعة الحرم منها، قال: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾التوبة:36 ؛ فنهى الله تعالى عن ظلم النفس فيها، ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: لا تعتدوا بظلم أنفسكم في هذه الأشهر، وهذا يشمل الأشهر جميعًا؛ فالظلم منهي عنه في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل حال، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وقد قال الله -عز وجل- في الحديث الإلهي: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»[صحيح البخاري:ح2577/55] وأول ما يدخل فيما نهي عنه من الظلم ظلم الإنسان لنفسه، وهو المعنى الجامع لكل صور الظلم، فكل صور الظلم سواء الخاصة أو المتعدية في حق الله أو في حق الخلق ترجع إلى أنها في الحقيقة هي من ظلم الإنسان لنفسه؛ لأنه إن أحسن فلنفسه، وإن أساء فعليها، سواء كانت الإساءة بالتقصير في حقوق الله وواجباته من توحيده وعبادته وحده لا شريك له، أو من جهة التقصير في الفرائض التي فرضها، أو من جهة التقصير في اجتناب ما نهى عنه وزجر، فإنه إنما يظلم نفسه، أو كان الظلم ظلمًا لغيره من الخلق، فإنه في الحقيقة يظلم نفسه؛ لأنه عندما يعتدي على دماء الناس أو أعراضهم أو أموالهم إنما يعتدي على نفسه؛ لأن جنايته عائدة إليه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ»[سنن الترمذي:ح2159، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] وهذه إشارة إلى أن كل التجاوزات والتعديات ترجع في حقيقة الأمر إلى الإنسان نفسه، فجناية الإنسان على غيره بأكل ماله أو بانتهاك عرضه أو بالجناية عليه في نفسه أو ما دون النفس؛ كل ذلك يرجع إلى أنه ظلم للإنسان؛ يظلم الإنسان نفسه.
فقوله: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾التوبة:36 ؛ هو نهي عن كل أوجه الظلم المتعلقة بحق الله أو بحق الخلق، وهذا في الزمان كله، لكن لما كانت الأشهر الأربعة لها منزلة، ومكانة، ومزية على سائر الزمان بأنها حُرُم؛ كان الظلم فيها أعظم من غيرها، وهذا لا يعني أن الظلم في غيرها مأذون فيه أو أنه لا مؤاخذة فيه، بل الظلم كما تقدم قبل قليل ممنوع ومحرَّم في كل الأحوال، لكن يعظم إثمه وتغلظ عقوبته إذا كان في هذه الأشهر الحرم؛ لأنه يجمع أمرين: يجمع المخالفة لما أمر الله تعالى به سواء كان ذلك في ترك ما أوجب أو في انتهاك ما حرم، وهذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه امتهان لما عظمه فيكون الذنب ذنبين وليس ذنبًا واحدًا؛ ذنب المخالفة والمعصية وظلم النفس في ذاته، وذنب إحلال ما حرمه الله تعالى، وعدم حفظ حق الله تعالى فيما عظَّمه وجعل له منزلةً ومكانةً.
ولذلك قوله: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾التوبة:36 ، الراجح من قولي العلماء أنه يعود إلى الأشهر كلها، فنحن منهيون الزمانَ كلَّه عن ظلم أنفسنا، ويتأكد هذا في الأشهر الحرم، فلا يجوز للإنسان أن ينتهك حرمة الزمان الذي جعل الله تعالى له منزلةً ومكانةً ميَّزه بها عن سائر الزمان.
بعد هذا الاستعراض للاصطفاء الذي يخص الله تعالى به ما يشاء من خلقه، وما يقتضيه ذلك الاصطفاء من تعظيم ما عظَّمه الله -عز وجل- في بيان أن تجاوز ذلك يوجب العقوبة، نقف عند الأشهر الحرم ما هي؟
هذا البيان جاء به الخبر عن سيد الأنام -صلوات الله وسلامه عليه-؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ» فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أن الزمان وقت حديثه ذلك قد عاد على نحو ما كان عليه عند خلق الله -عز وجل- للسموات والأرض، وهو يشير بذلك إلى ما أحدثه المشركون من عبث بسير الزمان ونظامه من حيث الأشهر الحرم.
المقدم: هذه التي ذكرها الله تبارك وتعالى فضيلة الشيخ بالنسيء؟
الشيخ خالد: نعم، في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾التوبة:37 ؛ وذلك أنهم كما قصَّ الله تعالى كانوا يقدِّمون ويؤخرون في الزمان وفق ما يشتهون، فيقدِّمون شيئًا من الزمان في وقت ويؤخِّرونه في وقت، فيقدِّمون شهرَ صفر على شهر محرم؛ لينتهكوا ما حرَّم الله عز وجل؛ ولذلك قال: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾التوبة:37 يعني ليوافقوا العدد الذي حرمه الله -عز وجل- من الأشهر، فكان مما بقي في العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم الأشهر الحرم، لكنهم يحتالون على هذا التعظيم؛ لنيل ما يريدون من ظلمٍ لأنفسهم بالاعتداء، أنهم يطول عليهم مدة الأشهر الحرم فيقدمون ويؤخرون، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الأشهر الحرم أربعة؛ ثلاثة منها متوالية وواحد منها فرد مستقل؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا» كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 ، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ» يعني ثلاثة أشهر متواليات «ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ» هذه الأشهر الثلاثة متوالية أي: متتابعة، وهي أشهر حرَّمها الله -عز وجل- وجعل لها منزلةً؛ كانت العرب تكفُّ في هذه الأشهر عن القتال، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾البقرة:217 أي: يسألونك عن القتال في الأشهر الحرم، فجاء الجواب: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾البقرة:217 ؛ لأن القتال في الأشهر الحرم عظيم عند الله -عز وجل- إذ يتضمن انتهاك ما حرمه الله.
العرب لما كانت الأشهر الثلاثة تمنعهم من القتال وما جرى عليه حالهم من الاعتداء على الأموال وما أشبه ذلك، كانوا يقدِّمون صَفَر؛ لأجل أن يفصلوا بين هذه الأشهر الثلاثة، فيقدِّمون صفر عن وقته فيجعلون صفر قبل محرم، فتكون الأشهر عندهم: ذو القعدة وذو الحجة محرمة، ثم يقدمون صفر فيكون حلالًا، فيقع منهم ما يقع من انتهاك ما حرم الله عز وجل، ثم يأتي محرم الذي أخَّروه فيمتنعون فيه عما مُنعوا من القتال والاعتداء؛ وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾التوبة:37 ؛ النسيء: التأخير للأشهر الحرم، ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا﴾التوبة:37 يعني في عام يحلونه، يحلون ما حرم الله، وفي عام يحرمونه ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾التوبة:37 . فعاب الله عليهم هذا، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كانوا يفعلونه من خلط بين الأشهر بالتقديم والتأخير ليحلوا ما حرم الله قد زال في ذلك الزمان الذي تكلم فيه بهذا الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ» يعني يعقب بعضها بعضًا، «ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ» وأما الشهر الرابع الذي انفصل عن بقية الأشهر فهو رجب، فهو شهر فرد، قال: «وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ»[صحيح البخاري:ح4662] أي: شهر رجب الذي انفصل عن بقية الأشهر الحرم، وجعل الله تعالى له من الحرمة ما يصان، وسماه برجب مُضَر؛ لأن مضر وهي بطنٌ من بطون العرب ترجع إليها قبائل عدة، مضر كانت في تعظيمها للأشهر الحرم أكثر من غيرها من قبائل العرب، وقوله: «بين جمادى وشعبان»؛ لبيان موضع هذا الشهر حتى لا يختلط بغيره، وأنه لا يَقبَل التقديم ولا التأخير، بل هو في موضعه المعهود المعروف وهو سابع الأشهر الهجرية الهلالية، سابع الأشهر الهلالية.
هذه هي الأشهر الحرم الأربعة ونحن ننبه إلى أننا في أولها؛ في شهر ذي القعدة؛ فإنه أول الأشهر الحرم المتوالية.
وما ميزة هذه الأشهر على سائر الزمان؟
مِيزتُها ما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الله في قوله: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 ، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم» أي: أنها محرمات ولها حرمة ومنزلة ومكانة.
المقدم: في هذه الحلقة مستمعينا الكرام نتحدث عن الأشهر الحرم، بعض الخصائص، وأيضًا الميزات والأحكام أيضًا الخاصة بهذه الأشهر.
فضيلة الشيخ وردتنا العديد من التساؤلات حول هذه الأشهر، وحول هذا الموضوع، بودي أن نتحدث أولًا حول النقاط التي سنتحدث عنها، ومن ثم سنستعرض هذه المسائل التي وردت بمشيئة الله تعالى.
فضيلة الشيخ نتحدث عن بعض الخصائص الخاصة بهذه الأشهر، ويبدو أننا تحدثنا عن جزء كبير منها في معرض حديثنا عن بعض هذه الخصائص التي فضَّلها الله -عز وجل- لهذه الأشهر على غيرها، إذا كان هناك أيضًا من هذه الخصائص، أو ننتقل إلى الحديث عن الأحكام الخاصة بهذه الأشهر.
الشيخ خالد: أخي الكريم؛ فيما يتعلق بهذه الأشهر وهي الأشهر الحرم التي جعل الله تعالى لها حرمةً ومنزلةً بين سائر الزمان، خصَّها الله تعالى بذلك لحكمة، ومِن الحِكم التي ذكرت في تخصيص هذه الأشهر بهذه المزية وهي التحريم والتعظيم والحرمة والمكانة بين سائر الزمان: تيسير وصول الناس للبيت الحرام فيما يتعلق بفريضة الحج؛ فإن الثلاث من هذه الأشهر متوالية وهي شهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، وشهر المحرم، وهذه الأشهر الثلاثة في ثناياها حج البيت الحرام الذي جعله الله تعالى فرضًا على الناس في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾آل عمران:97 فإنه يكون في شهر ذي الحجة يعني في أوسط الأشهر الثلاث المتوالية من الأشهر الحرم، فلأجل تأمين الناس ولأجل تيسير وصولهم إلى هذه البقعة، ورجوعهم إلى بلدانهم؛ جعل الله تعالى هذا الزمان وهو شهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، وشهر المحرم حرامًا؛ ليتمكن الناس من الوصول للبيت الحرام وفعل هذه العبادة، وهذا النسك العظيم في أمن، وطمأنينة، وراحة من جهة أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وسيرهم إلى البيت الحرام.
هذا من الحِكم، وثمة حكم أخرى يمكن أن تُستنبط ويُهتدى إليها، والله -جل في علاه- لا يحكم بشيء إلا وله فيه الحكمة البالغة، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾الإنسان:30 ، فكل ما يشاؤه الله، وكل ما يقضيه الله ويحكم به قدرًا وكونًا، أو شرعًا ودينًا؛ فله فيه الحكمة البالغة جل وعلا، ففي الأحكام القدرية قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾الإنسان:30 ، وفي الأحكام الدينية الشرعية؛ قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾هود:1 .
وما ذكرت هو إشارة إلى بعض ما تضمنه هذا التشريع في تعظيم هذه الأشهر الحرم وتخصيصها بهذه الميزة؛ إشارة إلى شيء من الحكمة في ذلك.
أما ما يتعلق بالأحكام ويمكن أن ينضم إليها خصائص، فالأحكام والخصائص متقاربة في المعنى، فيمكن أن نتحدث عنها في نقاط:
- النقطة الأولى: من الأحكام المتعلقة بهذه الأشهر وجوب تعظيمها، وذلك باعتقاد حرمتها وأنها مميزة عن سائر الزمان بتحريم الله تعالى لها، وذلك كما أخبر -جل وعلا- في كتابه: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 ، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾التوبة:36 ، وقد جاء ذلك في السنة مصرحًا به في حديث أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ» يعني رجع على نفس الترتيب الزماني للأشهر التي أجرى الله تعالى عليها دوران الزمان «السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ»[سبق] وقد بيَّنها صلى الله عليه وسلم.
فأول ما تختص به هذه الأشهر الحرم معرفة تميزها بالتحريم عن سائر أشهر الزمان، هذه النقطة الأولى التي هي تختص هذه الأشهر، وهو حكمٌ من أحكامها: إثبات التحريم لهذه الأشهر، إثبات الحرمة لهذه الأشهر.
ما مقتضى هذه الحرمة التي أضافها الله تعالى لهذه الأشهر وأثبتها؟
مقتضى ذلك ينقلنا إلى الحكم الثاني أو الخاصية الثانية التي اختص الله تعالى بها هذه الأشهر؛ وهو تعظيمها، وحفظ حرمتها، فإذا اعتقدنا حرمتها كان ذلك أول ما يجب علينا تجاه هذه الأشهر.
والثاني مما يترتب على هذا الاعتقاد ثمرته؛ وهو تعظيم ما عظَّمه الله عز وجل، وتعظيم ما حرَّمه -جل وعلا- فإن ذلك هو مقتضى التقوى، وهو مفتاح الخير.
مقتضى التقوى؛ لقول الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾الحج:32 ، ومفتاح الخيرات لقول الله -عز وجل-: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾الحج:30 ، أضاف الحرمات إليه يعني ما جعل الله له حرمة، وما جعل له منعة، ومنزلة في الزمان، والمكان، والشخص، والحال، والعمل، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾الحج:30 أي: يدرك به خيرًا عظيمًا، فالتنكير هنا للتعظيم؛ ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ أي: يدرك بذلك خيرًا كثيرًا سواء كان ذلك في دينه، في دنياه، في آخرته، فهو من صلاح الدين؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾الحج:32 ، ويدرك به خير الدنيا والآخرة.
فثاني ما تختص به هذه الأشهر بعد إثبات حرمتها؛ حقها في التعظيم، وجوب تعظيمها، ووجوب حفظ حق الله تعالى فيها.
ولقائل أن يقول: ما شأن هذه الأشهر بشعائر الله؟
الجواب: أن شعائر الله تشمل كل ما جعله الله تعالى من علامات دينه، ومن أعلام شريعته سواء كان ذلك في الزمان أو في المكان أو في الشخص أو في الحال أو في العمل، وقد انتظم ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾المائدة:2 ؛ فإن الله تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة وجوب صيانة شعائره جل في علاه، فقال: ﴿لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ أي: لا تمتهنوها وترفعوا عنها ما جعله الله تعالى لها من الحرمة والمنزلة، وهذا يشمل كل شعائر الله، كل ما عظمه الله، كل ما جعله الله تعالى علامة لدينه، ومن أعلام شريعته، شخصًا، وحالًا، وعملًا، وزمانًا ومكانًا؛ يجب صيانته عن الإحلال لنهي الله تعالى في قوله: ﴿لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾المائدة:2 .
ثم ذكر جملةً مما جعل الله تعالى له منزلة من شعائره فقال: ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، فالشهر الحرام للعلماء فيه قولان:
من أهل العلم من قال: إن المراد بالشهر الحرام شهر رجب، ومنهم من قال: الشهر الحرام هنا يشمل كل الأشهر الحرم؛ فالألف واللام للعموم تشمل كل الأشهر التي جعلها الله تعالى محلًّا للحرمة والمكانة، ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فنهى الله تعالى عن إحلال الشهر الحرام، وإحلال الشهر الحرام بعدم حفظ حق الله تعالى فيه، بإزالة حرمته، بعدم اعتقاد حرمته أو عدم حفظ حرمته ومكانته.
ثم ذكر بعد الشهر الحرام وهو الزمان، ذكر ذاتًا وهو الهدي، فقال: ﴿وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ﴾ الهدي هو ما يساق للبيت الحرام من الحل من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فإنه يعظَّم الهدي بعدم التعرض له، وبذكر الله تعالى عند رؤيته، وهذا من تعظيم شعائر الله -عز وجل- فيما يتعلق بالهدي.
وكذلك قال: ﴿وَلا الْقَلائِدَ﴾ والقلائد حالٌ في الهدي، وهو: نوع من الهدي حيث يوضع على ما يساق للبيت الحرام ويؤتى به من الحِلِّ للحرم من بهيمة الأنعام يوضع عليه قلائد، كانت العرب تضعها تميِّز بها الهدي عن غيره لاسيما أنه في الزمن السابق كانوا يأتون بالإبل والبقر والغنم، وقد تكون مرافقة لهم وليست مما يهدى إلى البيت الحرام، فيميزون ما يهدى للبيت الحرام مما يتقرب إلى الله تعالى بذبحه أو نحره في الحرم بوضع قلائد عليه.
المقدم: تميزه.
الشيخ خالد: تميزه عن سائر بهيمة الأنعام التي قد لا تكون هديًا، فهذا تعظيمٌ لحال. ثم قال: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ أي: لا تحلوا حق القاصدين للبيت الحرام فقوله: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ يعني من يقصد البيت الحرام في الأشهر الحرم وفي غيرها ممن يأتي إليه قاصدًا طلب الأجر من الله -عز وجل- أو قاصدًا التجارة فيه؛ لأن قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾ المقصود به التجارة، ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أي: تقربًا إلى الله بقصده للحج والعمرة.
فهذه الآية تضمنت ذكر شعائر الله أو بعض شعائر الله ومنها الشهر الحرام، فالشهر الحرام مما يعظم فيدرك به الإنسان خيرًا؛ وهو علامة من علامات صحة الإيمان، وثبوت التقوى في قلب المؤمن.
المقدم: اسمح لي فضيلة الشيخ أن نأخذ بعض التساؤلات للإخوة المستمعين الكرام.
هذا أبو أحمد يسأل يقول: هل تفضل هذه الأشهر الحرم بأعمال معينة؟ هل تفضل العمرة فيها عن غيرها من الأشهر طوال العام أم لا؟
الشيخ خالد: هذه الأشهر الحرم تقدم قبل قليل أن من حقها إثبات حرمتها، وأن من حقها تعظيمها كما دلت عليه الآيات كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾الحج:32 .
كذلك من حقها أن يُعلم أن المعصية فيها أعظم من غيرها، وأن الطاعة في الجملة لها من المنزلة عند الله -عز وجل- ليست كغيرها، لكن هذا ليس ندبًا إلى أعمال معينة؛ بمعنى أنه لم يأت في الشرع الندب إلى عمل معين يختص الأشهر الحرم ولا يكون في غيرها، وإنما جاء ذكر بعض الأعمال التي قد تكون في بعض الأشهر الحرم؛ فمثلًا صيام محرَّم من أفضل الصيام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟، قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصُمْ الْمُحَرَّمَ فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ فِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ»[سنن الترمذي:ح471، وحسنه] لكن هذا ليس لأنه شهر حرم؛ إذ إنه خاص بمحرم فلم يثبت هذا في ذي القعدة.
العمرة مثلًا في ذي القعدة جاء فيها فضل، لكن ليس في كل الأشهر الحرم، فلا يقال: إن العمرة في محرم أفضل من غيرها، إنما جاء هذا في شهر ذي القعدة؛ إذ إن العلماء اختلفوا: أيهما أفضل: عمرة في ذي القعدة أو عمرة في رمضان؟
فمنهم من قال: إن الأفضل العمرة في رمضان؛ لورود الفضل الخاص الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ» يعني في رمضان «تَعْدِلُ حَجَّةً»[صحيح مسلم:ح1256/221] وأما شهر ذي القعدة فلم يرد فيه فضل خاص في الاعتمار فيه، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر فيه، حيث إن جميع عُمَرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أربع عُمرات اعتمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- جميعها كانت في شهر ذي القعدة؛ ولهذا القول الثاني أن العمرة في ذي القعدة أفضل منها في رمضان؛ لأجل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد اعتمر جميع عمره في ذي القعدة، فجميع عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ذي القعدة.
والراجح أن عمرة رمضان أفضل من ذي القعدة من حيث ما ورد به النص، ولكن العمرة في ذي القعدة لها فضيلة من جهة موافقة الزمان الذي اعتمر فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فخلاصة الجواب: أن هذه الأشهر الحرم حِفْظ حق الله فيها بتعظيمها، وصيانتها، ومعرفة مكانتها، ومنع النفس فيها عن المعاصي والسيئات مما يُثبت الأجر ويجري على الإنسان الخير في الدنيا والآخرة، لكن ليس هناك ندبٌ إلى عمل بعينه يكون في الأشهر الحرم دون سائر الزمان، رمضان مثلًا: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[صحيح البخاري:ح37] فجاء الندب إلى القيام، ما جاء مثل هذا في الأشهر الحرم، لكن عموم العمل الصالح له منزلة في الشهر الحرام أعظم منه في سائر الزمان.
المقدم: فضيلة الشيخ اسمح لي أن نختم بتساؤل الأخت فاطمة أرسلت الأسبوع الماضي، وأرسلت هذا الأسبوع أيضًا تسأل عن تقديم الواجب على التطوع، وتسأل تحديدًا عن الصيام عن تقديم التطوع على الواجب في القضاء؟
الشيخ خالد: هذا مما اختلف فيه العلماء على قولين؛ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يصلح أن يشتغل الإنسان بصوم تطوع وعليه صيام واجب، بل الواجب عليه أن يبادر إلى قضاء الواجبات من الصوم ثم بعد ذلك يصوم ما يسَّر الله له من النوافل والتطوعات.
وهذا في الحقيقة من حيث المعنى له وجه وهو أنه ينبغي للإنسان أن يُبرئ ذمته من الواجب أولًا، ثم يشتغل بما يسر الله تعالى له من الطاعات.
القول الثاني: أن تقديم التطوع على الصوم الواجب فيما كان فيه الوقت متَّسِعًا يسع الواجب ويسع التطوع؛ لا حرج فيه، أي: يجوز، واستدلوا بقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان يكونُ عليَّ الصَّومُ مِن رَمَضانَ، فما أستطيعُ أن أقضِيَه إلَّا في شعبانَ؛ الشُّغُلُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»[صحيح البخاري:ح1950] فكانت -رضي الله تعالى عنها- لاشتغالها بالنبي صلى الله عليه وسلم ما تَقْوَى على قضاء رمضان إلا في شعبان، قالوا: ويبعد أن تكون عائشة -رضي الله تعالى عنها- لا تصوم تطوعًا، بل تقتصر فقط على صيام الفرض.
وفي الجملة الراجح من القولين أنه يجوز تقديم التطوع على الواجب من الصوم إذا كان متسعًا، لكن إذا ضاق الوقت، جمهور العلماء يرون وجوب قضاء رمضان قبل مجيء رمضان الآخر، فلو كان على الإنسان مثلًا خمسة أيام من شهر رمضان الماضي فله أن يصوم تطوعًا حتى يبقى من الزمان قبل رمضان القادم خمسة أيام، فإذا بقي من الزمان خمسة أيام بالقدر الذي عليه من أيام الواجب فإنه لا يشتغل في ذلك بصيام نفل ويترك الواجب، بل يبادر إلى الواجب؛ لأنه ضاق الوقت وتعيَّن فعل الواجب قبل انقضاء زمنه.
المقدم: شكر الله لك، وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على إثرائك لهذه الحلقة.
الشيخ خالد: بارك الله فيكم، وأسأل الله تعالى لي ولكم تعظيم شعائره، وأن يحفظنا من بين أيدينا وخلفنا وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ به أن نُغتال من تحتنا، ونسأله -جل في علاه- أن يوفق ولاة أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يسدده في الأقوال والأعمال، وأن يحفظ جنودنا المقاتلين عن حدودنا، والحافظين لأمننا من رجال الأمن، وأن يدفع عنا كل سوء وشر، وعن سائر بلاد المسلمين، وأن يعم الخير البشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إذًا مستمعينا الكرام كان ضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.