إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئَاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ كَما أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70-71 .
عِبادَ اللهِ, إِنَّ اللهَ تَعالَىَ رَفَعَ شَأْنَ الكَلِمَ الطَّيِّبِ وَالقَوْلَ الحَسَنَ فَجَعَلَهُ في مَنْزِلَةٍ رَفيِعَةٍ، قالَ تَعالىَ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾فاطر:10 وَلا يَصْعَدُ إِلَىَ اللهِ تَعالَىَ إِلَّا مَا يُحِبُّ وَيَرْضَىَ، فَالكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالقَوْلُ الحَسَنُ يَشْمَلُ التَّسْبيِحَ وَالتَّحْميِدَ وَالتَّهْليِلَ وَالتَّكْبيِرِ كَما يَشْمَلُ الأَمْرَ بِالمعْروُفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ، وَيَشْمَلُ تَعْليِمَ العِلْمِ وَتَعَلُّمَهُ كَذِلَكَ يَشْمَلُ كُلَّ كَلامٍ حَسَنٍ طَيِّبٍ يَكوُنُ بَيْنَ النَّاسِ يَرْفَعُهُ اللهُ تَعالَىَ وَيَعْرِضْ عَلَيْهِ جَلَّ فيِ عُلاهُ، وُيثْنيِ عَلَىَ صَاحِبِهِ بَيْنَ الملَأِ الأَعْلَىَ، «فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ منهمْ»أخرجه: البخاري(7405), ومسلم(2675).
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ الكَلِمَ الطَّيِّبَ وَالقَوْلَ الحَسَنَ واَلُّلطْفَ في الكَلامِ؛ تَوْفِيِقٌ مِنَ اللهِ تَعالَىَ لِأَهْلِ الإِيمِانِ وَالَعَمَلِ الصَّالحِ، قالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾الحج:24 ، فالاهْتِداءُ إِلَىَ الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ مْفْتاحُ الاهْتِداءِ إِلَىَ الطَّيِّبِ مِنَ العَمَلِ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70-71 .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, جَعَلَ اللهُ تَعالَىَ أَجْرَ الكَلِمِ الطَّيِّبِ عَظيِمًا رَفيِعًا، وَأَجْرَ القَوْلِ الحَسَنِ كَبِيِرًا، وَثَوابَهُ عِنْدَهُ جَزيِلاً، قَالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ23 وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾الحج:23-24 ، قالَ العُلَماءُ: ذِكْرُ هَذيْنِ العَمَلَيْنِ بَعْدَ الجَزاءِ دَليِلٌ عَلَىَ أَنَّهُمْ نالوُا ذَلِكَ الفَضْلَ بِذَلِكَ العَمَلِ، نالوُا ما ذَكَرَ اللهُ تَعالَىَ مِنَ الجَنَّاتِ وَسائِرِ الفَضائِلِ وَالمراتِبِ الَّتيِ ذَكَرَ بِسَبَبِ ما كانوُا عَلَيْهِ مِنَ الاهْتِداءِ إِلَىَ القَوْلِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, جَاءَ في مُسْنَدِ الإِمامِ أَحْمَدَ مِنْ حديِثِ أَبِيِ مُوَسَىَ الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الْكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ»أحمد(22905), بِإِسْنادٍحسَنٍ فابْتَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذِكْرِ مَنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الفَضْلُ بِإِلانَةِ الكَلامِ، بِلِيِنِ الكَلامِ وَهُوَ لُطْفُهُ وَحُسْنُهُ وَطِيِبُهُ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, بِالكَلمِ الطَّيِّبِ تَرْتَفِعُ المنازِلُ في الجنَّاتِ، فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَأَلَهُ رَبُّهُ عَنِ الدَّرَجاتِ قالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»بهذا اللفظ أخرجه أحمد ح(22109) بإسناد فيه مقال, ويشهد له حديث أبي موسى السابق .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ الكَلِمَ الطَّيِّبَ ممَّا يُباعِدُ عَنِ النَّارِ، قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»البخاري(6540),ومسلم(1016)، فَمِمَّا تَتَوَقَّىَ بِهِ النَّارَ عَبْدَ اللهِ أَنْ تكوُنَ عَلَىَ هذِهِ الحالِ في قَوْلِكَ فَتَسْتَعْمِلُ القَوْلَ الطَّيِّبَ وَالقَوْلَ الحَسَنَ. إِنَّ الكَلِمَةَ الطَّيَّبَةَ الَّتيِ تَطيِبُ بِها القُلوُبُ، وَتَجْتَمِعُ بِها الأَفْئِدَةُ، وَيَنْدَفِعُ بِها الشَّرُّ، وَيَدْخُلُ بِهِ السُّروُرُ عَلَىَ مَنْ تُحَدِّثُهُ، كُلُّ ذَلِكَ ممَّا يُجْرِيِ اللهُ تَعالَىَ بِهِ عَلَيْكَ الأَجْرَ الحَسَنَ، وَالثَّوابَ الجَزيِلَ.
قَالَ اللهُ تَعالَىَ في أَمْرِ عبادِهِ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾الإسراء:53 ، فَأَمَرَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ النَّاسُ فيما بَيْنَهُمْ مِنَ الكلامِ وَالمحادَثَةِ وَالمخاطَبَةِ وَالمحاوَرَةِ أَحْسَنَ ما يَعْرِفوُنَهُ مِنَ الكلِمِ الطَّيِّبِ. لِذَلِكَ قالَ تَعالَىَ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾الإسراء:53 وَلَيْسَ فَقَطْ الحَسَنُ، فَالمأْموُرُ بِهِ هُوَ أَجْوَدَ ما تُطيِقُ مِنَ طَيِّبَ الكَلامِ، فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ وَالْزَموُا القَوْلَ الطَّيِّبَ؛ فَإِنَّهُ القَوْلُ السَّديِدُ الَّذي أَمَرَكُمْ بِهِ جَلَّ في عُلاهُ، اللَّهُمَّ صَوِّبْ كَلامَنا، وَأَصْلِحْ أَعْمالَنا، واغْفِرْ لَنا السَّرَّ وَالعَلَنْ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، أَقوُلُ هذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيِمَ لِي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِروُهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيمُ.
* * *
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيِرًا طَيِّبًا مُباركًا فيِهِ، حَمْدًا يُرْضيِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهِ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ وَخُذوُا بِوَصِيَّتِهِ جَلَّ في عُلاهُ، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾الإسراء:53 ، وَلِعَظيِمِ أَثَرِ القَوْلِ الحَسَنِ -القَوْلِ الطَّيِّبِ - أَخَذَ اللهُ تعالَىَ الميثاقَ عَلَىَ بَنيِ إِسْرائِيِلَ أَنْ يَقوُلوُا قَوْلاً حَسَنًا، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾البقرة:83 ، ثُمَّ بَعْدَ الأَمْرِ بِالِإحْسانِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَحالاً خَصَّ القَوْلَ بِالذِّكْرِ فَقالَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾البقرة:83 ، فَمِمَّا أَخَذَ اللهُ تَعالَىَ الميثاقَ عَلَىَ بَنيِ إِسْرائِيِلَ أَنْ يَقوُلوُا لِلنَّاسِ حُسنًا أَيْ أَنْ يَتَكَلَّموُا مَعَ النَّاسِ بما هُوَ حَسَنٌ جَميِلٌ، وَقَدْ قالَ تَعالَىَ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾البقرة:83 .
المُؤْمِنُ مَأْموُرٌ بِالقَوْلِ الحَسَنِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾البقرة:83 ، فَالقَوْلُ الحَسَنُ لَيْسَ حِكْرًا عَلَىَ مُوافِقٍ، وَلَا عَلَىَ مَحْبوُبٍ، وَلا عَلَىَ صاحِبٍ بَلْ هُوَ حَقٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾البقرة:83 فَيَنْبَغِيِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الإِنْسانُ هَذا المَسْلَكِ وَهُوَ طِيِبُ القَوْلِ وَجَميِلِ المَنْطِقِ في مُعامَلَتِهِ وَمُخاطَبَتِهِ وَتَعامُلِهِ وَمُحاوَرَتِهِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ.
وَضابِطُ القَوْلِ الحَسَنِ فيِما يَتَعَلَّقُ بِالاسْتِعْمالِ مَعَ النَّاسِ: أَنَّ القَوْلَ الحَسَنَ هُوَ كُلُّ كَلامٍ مُباحٍ تُرْضِيِ بِهِ جَليِسَكَ، تُدْخِلُ بِهِ السُّروُرَ عَلَيْهِ، تَدْفَعُ بِهِ الشَّرَّ عَنْهُ، فَلا تَكُنْ بِهِ بَخيلاً؛ فَلَعَلَّهُ يُعَوِّضُكَ مِنْهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا ثوابَ المحْسِنيِنَ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, قوُلوُا لِلنَّاسِ حُسْنًا: بِالسَّلامِ, وَطِيِبِ الكَلامِ، واحْذَروُا سَيِّئَهُ؛ فَالكَلامُ الطَّيِّبُ العَفْوُ تُحِبُّهُ النُّفوُسُ وَتَنْجَذِبُ إِلَيْهِ قُلوُبُ الأَصْدِقاءِ وَالأَعْداءِ، وَلَهُ ثِمارٌ طَيِّبَةٌ وَآثارٌ جَليِلَةٌ. قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ: "مَنْ لانَتْ كَلِمَتُهُ وَجَبَتْ مَحبَّتُهُ" أخرجه: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي رقم(808) ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِيِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الإِنْسانُ القَوْلَ الحَسَنَ في مُعامَلَتِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً الصَّغيرُ وَالَكبيِرُ، وَالموافِقُ وَالمخالِفُ، وَالمُحِبُّ وَالمبْغِضُ، وَالصَّديقُ وَالعَدُوُّ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ الشَّرَّ وَيَجْلِبُ الخَيْرَ، بَلْ حَتَّىَ مَعَ الحيَوانِ.
نُقِلِ أَنَّهُ: " مَرَّ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِنْزِيرٌ، فَقَالَ: مُرَّ بِسَلَامٍ. فَقِيلَ: يَا رُوحَ اللَّهِ لِهَذَا الْخِنْزِيرِ تَقُولُ؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي الشَّرِّ "أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت ح(306) موقوفا على مالك بن أنس بسند جيد، وَالقَوْلُ الحَسَنُ عادَةً. فَيَنْبَغِيِ لِلإِنْسانِ أِنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ القَوْلَ الحَسَنَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ وَذاكَ إذا اعْتادَهُ الِإنْسانُ اسْتَعْمَلَهَ مَعَ القريِب واَلَِبعيدِ، وَالصَّديِقِ وَالعَدُوِّ، والمحِبِّ والمبْغِضُ، هَذا رَسوُلُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ اليَهوُدُ في المديِنَةِ وَيقوُلوُنَ لَهُ كَلامًا مُلْتَبِسًا يُشْبِهُ السَّلامَ وَهُوَ دُعاءٌ عَلَيْهِ بِالموْتِ، فَيَقوُلوُنَ لَهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «السَّامُ عَلَيْكَ»، يَعْنِيِ الموْتُ عَلَيْكَ وَهَذا كَلامٌ قَريِبٌ مِنَ السَّلامُ عَليْكَ فَيَلْتَبَسَ الأَمْرُ، فَقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْها لماَّ سَمِعَتْْ المقالة هذه يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالَّلعْنَةُ»، عَلَيْكُمُ الموْتُ وَزادَتْ الَّلعْنَةُ. فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفيِقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأَمْرِ كُلِّهِ»، قالَتْ: «أَوَلمْ تَسْمَعْ ما قالوُا؟» أَيْ مِنَ الدُّعاء عَلَيْكَ بالموْتِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْتُ وَعَلَيْكُمُ» البخاري(6024), ومسلم(2165) أَيْ أَنَّهُ أَجابَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ، دوُنَ زِيادَةٍ عَلَىَ إِساءَتِهمْ وَهَذا مِنَ القَوْلِ الحَسَنِ العَدْلِ الَّذيِ يَقْتَصُّ فيِهِ الإِنْسانُ حَقَّهُ، وَكَما قالَ تَعالَىَ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾البقرة:194 . وَيَنْبَغِيِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ القَوْلَ الحَسَنَ مما يُقَرِّبُ القُلوُبَ، وَممَّا يُنْفُذُ بِهِ الحَقُّ إِلَىَ قُلوُبِ المخالِفيَنَ، وَلِذَلِكَ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾العنكبوت:46 .
وَيَتَأَكَّدُ القَوْلُ الحَسَنُ: فيِمَنْ أَمَرَ اللهُ تَعالَىَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ الأَمْرِ العامِّ ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾البقرة:83 ، يَنْبَغِيِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ القَوْلُ الحَسَنُ فيِ أَعْلَىَ صُوَرِهَ مَعَ الوَالِدَيْنِ، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾الإسراء:23 ، نَهَيَ عَنْ أَدْنَىَ ما يَكوُنُ مِنَ القَوْلِ السَّيِّئِ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾الإسراء:23 فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، ثُمَّ قَالَ في طَلَبِ السُّمُوِّ وَالعُلُوِّ: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾الإسراء:23 أَيْ كَثيِرُ الفَضْلِ وَالإِحْسانِ، كَثيِرَ البِرِّ وَالخَيْرِ.
وَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَىَ في ذَوِيِ القُرَبَىَ وهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّوُنَ القَوْلَ الحَسَنَ: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا 26 إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا 27 وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾الإسراء:26-28 يَعْنِيِ تَعْتَذِرُ عَنْ إِعْطائِهِمْ شَيْئاً مِنَ المالِ الَّذِيِ تُعْطيِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ ذَوِيِ القُرْبَىَ، وَالمساكيِنِ، وابْنِ السَّبيلِ. ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾الإسراء:28 لا تردهم بعنف، ولا بسوء لفظ بل اعتذر منهم عن عطاء عجزت عنه بقول ميسور حسن، ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾النساء:8 أعطوهم، ثم قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾النساء:8 .
فَاحْرِصْ عَلَىَ القَوْلِ الحَسَنِ، القَوِلِ الميْسوُرِ، القَولِ الطَّيِّبِ، القَوْلِ الكَريمِ، القوْلِ المعْروُفِ فَإِنَّ ذَلِكَ ممَّا أَمَرَكَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ في كِتابِهِ، تَجْلِبُ بِذَلِكَ مَحَبَّةَ النَّاسِ، وَتَسْتَدْفِعُ بِهِ عَداوَتَهُمْ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾فصلت:34 اسْتَعْمِلْ هذا، عوِّدْ نَفْسَكَ علَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هذا مُطاقًا بِالعادِةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّدْريِبِ لما أَمَرَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾الإسراء:53 مَنِ اعْتادَ عَلَىَ الَّلفْظِ الرَّدِيِءِ فَإِنَّهُ سَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ.
ومن عوّد نَفْسَهُ طِيِبَ القَوْلَ اسْتَفادَ فائِدَتَيْنِ: القَوْلَ الحَسَنَ وَما يَتَرتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ المنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالأَجْرَ العَظيمَ منَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللهَ تَعَبَّدَنا بِالقَوْلِ الحَسَنِ. الَّلهُمَّ أَلهِمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، طَيِّبْ مَقالَنا، وَأَصْلِحْ أَعْمالَنا، وَاغْفِرْ لَنا السِّرَّ وَالعَلَنَ، وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ وَأَوْلِيائِكَ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوُبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ طَاعَتِكَ وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، رَبَّنا أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، رِبَّنا انْصُرْنا عَلَىَ مَنْ بَغَىَ عَلَيْنَا، رَبَّنا آثِرْنا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنا، رَبَّنا اهْدِنا وَيَسِّرِ الهُدَىَ لَنا، اجْعَلْنا لَكَ ذاكرين شاكِريِنَ راغبيِنَ راهِبينَ أَوَّاهينَ مُنيبينَ.
الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، وَثَبِّتْ حُجَّتَنا، وَاغْفِرْ ذَلَّتَنا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، رَبَّنا لا تُزْعْ قُلوُبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُموُرِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فيِمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالميِنَ. الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرَميْنِ وَوَليَّ عَهْدِهِ إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، سَدِّدْهُمْ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ، أَلهِمْهُمْ الرُّشْدَ فيما فيِهِ نَفْعُ العِبادِ وَالبِلادِ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفيِ الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
الَّلهُمَّ انْصُرْ جُنوُدَنا المقاتِلِينَ، وَأَمْنَنا المُرابِطيِنَ، وَسَلِّمِ الحُجَّاجَ وَالمعْتَمِريِنَ، وَاحْفَظْ بِلادَنا وَالمسْلِمينَ مِنْ كُلِّ سوُءٍ وَشَرٍّ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَىَ آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَىَ إِبْراهيِمَ وَعَلَىَ آلِ إِبْراهيِمَ إِنَّكَ حميِدٌ مجيِدٌ.