يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أَنس رضي اللَّه عنه عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فيمَا يرْوِيهِ عنْ ربهِ عزَّ وجَلَّ، قال: «إِذَا تقرب الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذراعاً تقرَّبْتُ منه باعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة» رواه البخاريحديث رقم (7536).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
هذا الحديث الشريف الحديث الإلهي الذي يخبر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يقول الله ـ تعالى ـ: «إِذَا تقرب الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذراعاً تقرَّبْتُ منه باعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة» يبين هذا الحديث عظيم فضل الله ـ عز وجل ـ على عباده، وأن جزائه ـ سبحانه وبحمده ـ فوق ما يدور في الخيال، فإنه ـ جل في علاه ـ عظيم الإحسان، كريم العطاء، فإنه يقابل السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ومن ذلك ما أخبر به من أنه من تقرب إليه ذراعًا تقرب منه باعًا جل في علاه.
والذراع معروف وهو: من مفصل الذي يربط الساعد بالعضد.
(تقرب منه باعًا)، الباع: من عظمة الكتف إلى رؤوس الأصابع، والمقصود أن عطاء الله لعبده على إحسانه وطاعته واجتهاده فيما يحب ويرضى أضعاف ما يؤمل، وأن الله ـ سبحانه وبحمده ـ إذا أقبل عليه العبد صادقًا نال منه ـ جل في علاه ـ ما يؤمله من البر والرحمة، فقرب الله من عبده مما يوجب رعايته وحفظه، وتحقيق مأموله، وشرح صدره، وسعادته في الدنيا والآخرة.
ولذلك لم يذكر في الجزاء إلا أنه يتقرب إليه ـ جل وعلا ـ وأنه يقبل عليه ـ سبحانه وبحمده ـ ومن تقرب الله إليه، وأقبل عليه نال كل ما يؤمله من السعادات، والبهجة، والانشراح.
وقوله: (إذا تقرب إلى عبدي) يشمل أول ما يكون التقرب إلى الله ـ عز وجل ـ بالفرائض والواجبات، فإن التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بذلك أعلى ما يكون، وأحب ما يكون إليه ـ جل في علاه ـ كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول الله ـ عز وجل ـ: «ومَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» فهذا الحديث يشمل التقرب إليه بالفرائض، فإنه أحب ما يتقرب به العبد إلى ربه سواء أن في الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، وسائر الفرائض والواجبات.
التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل:
فمعظمها فيها ما هو فرض، وفيها ما هو نفل، فالتقرب إلى الله بالفرائض أعلى مرتبة، وأعظم أجرًا، وأكبر جزاء من التقرب إليه بالنوافل، ويشمل أيضًا التقرب إليه بالنوافل، ولذلك قال: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» وهذا الجزاء والحب هو تفسير لمعنى قرب الله ـ عز وجل ـ في قوله: «من تقرب إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، ومن تقرَّب إِلَيَّ ذراعاً تقرَّبْتُ منه باعاً، ومن أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة».
تفسير هذا القرب الإلهي هو ما جاء في الحديث الآخر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإذَا أَحْببْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يبْطِشُ بِهَا، وَرجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بِها وإنْ سَأَلَني أَعْطَيْتُهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ».
والخلاصة أيها الإخوة من عامل الله لم يعد إلا بربح، فالتجارة مع الله أربح التجارات ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾[فاطر:29]، فالتجارة مع الله ـ عز وجل ـ لا بوار فيها سواء أن كان ذلك في الفرائض، أو كان في المستحبات فليبادر الإنسان، وليعلم أنه بقدر إقباله على الله يدرك من إقبال الله عليه، وإقبال الله على العبد مفتاح كل الخيرات في الدنيا والآخرة.
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، واستعملنا فيما تحب وترضى، واجعلنا من حزبك وأوليائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.