يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ، لِمْ تصنعُ هذا يا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وما تأخَّرَ؟ قال: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟» متفقٌ عليهصحيح البخاري (4837) وصحيح مسلم (2820). هذا لفظ البخاري، ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شُعْبَةَ.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العبادة:
هذا الحديث الشريف حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في قصة ما شهدته من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجد والاجتهاد في العبادة، حيث أخبرت أنه كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ومعنى تتفطر قدماه: أي تتشقق كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾[الانفطار:1] أي انشقت، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم من الليل أي يطيل القيام، والصلاة في الليل حتى يبلغ به الحال أن تتشقق قدماه من طول القيام والعبادة، فقالت له: «لِمْ تصنعُ هذا يا رسولَ اللَّهِ» يعني القيام والجد في العبادة على هذا النحو الذي وصفت، «وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وما تأخَّرَ؟».
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجيبًا لسؤالها الذي أوردته وهو كيف تصنع هذا؟ يعني لست بحاجة لهذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟»، وهذا الاستفهام استفهام تعجب وإجابة بتقرير الأمر على نحو من الإثبات لحاجته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما كان يعمله، وأن ما كان يفعله من العبادة على هذا النحو الذي يبلغ به أن تتشقق قدماه ليس أمرًا لا حاجة إليه فيه، بل كان محتاجًا إليه وفاء لحق ربه عليه في إنعامه عليه بمغفرة الذنوب، وحط الخطايا.
العبادة امتثالا أو شكرا:
إذ كل عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه ـ جل وعلا ـ إما أن تكون فعلًا لما أمر طلبًا لرضاه، وإما أن تكون شكرًا على ما أعطاه، فالعبادة إما أن تكون عبادة شكر على الهبات والعطايا، وإما أن تكون عبادة امتثال طلبًا لرضاه جل في علاه. ولهذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعبد الله ـ تعالى ـ على هذا النحو من الاجتهاد، والجد، وفي الرواية الأخرى في رواية المغيرة التي أشار إليها المؤلف ـ رحمه الله ـ كان يقيم الليل حتى ترم قدماه أي تنتفخ من طول القيام.
كل هذا من صنيعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عظيم ما بوأه الله من المنزلة ورفع المكانة، وبه يُعلم أن العبادة ليست فقط للأفتكاك من العقوبة بل عبادة السابقين شكر لله ـ عز وجل ـ على ما أنعم عليهم وأفاض ـ سبحانه وبحمده ـ من الإنعام. ولهذا يقول العلماء: خوف الملائكة والنبيين ليس خوف عدم أمن فإن الله أمنهم من العقوبة بما بشرهم به من الأمن من العقوبات، وإدراك المطلوبات لكنه خوف إجلال وتعظيم لله عز وجل.
وهذا ما كان يفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يكن يقيم الليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل أنه غير آمن من العقوبة، فالله ـ تعالى ـ قد أمنه: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا[1] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح:1-2]. كل هذه هبات وعطايا لكنه كان يفعل ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ شكرًا لله على إنعامه.
الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده:
حرص الصحابة على فهم سنته وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن فوائده سؤالهم عما أشكل عليهم من حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنه أيضًا مبادرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للإجابة على أسئلتهم بما يزيل ما أشكل عليهم، ومنه أيضًا أن قيام الليل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن واجبًا إذ أنه قال: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟»، ويمكن أن يقال: بل القيام واجب لكن هذه الصفة من طول القيام لم تكن واجبة بل هي لشكر الله ـ عز وجل ـ ومنه أيضًا أن الإنسان لا حرج عليه في أن يتعبد الله ـ تعالى ـ بشيء قد يلحقه به نوع أذى في بدنه، ونقص في صحته، بما لا يوقعه في مضرة خارجة عن المعتاد.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقوم حتى تتفطر قدماه، وفي رواية: «حتى ترم قدماه»، وهذه منزلة عالية قد يصل إليها الإنسان بإقباله على ربه فيهون عليه ما يلقاه من الأذى، والأثر البدني في إزاء ما يلقاه ويتنعم به من المعنى الروحي، وهذا الذي أشار إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوصال لما كان يواصل في الصوم يوم تلو يوم، فلا يفطر بينهما قال: «إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني»، فكان غذاؤه الروحي القلبي بمنزلة من الرجحان إن غمر فيه ما كان يلقاه من الجوع والعطش صلوات الله وسلامه عليه.
والمقصود أيها الإخوة إذا كانت هذه حال سيد الورى الذي حط الله عنه الذنوب والخطايا، وبلغه أعلى المنازل والدرجات، فما أحوجنا إلى الجد في العبادات، والاجتهاد في صالح الأعمال قدر الطاقة والله ـ تعالى ـ يحب من العبد العمل وإن كان قليلًا إذا أدامه، فلنجتهد في التقرب إلى الله في كل أبواب الخير، ولنصبر ولنحتسب فما أسرع تقضي الأيام، وانقضاء الأعمار، وعند ذلك يصبح ذو الأحزان فرحانًا جازلًا بما فتح الله عليه من الأجور والهبات.
اللهم استعملنا في طاعتك، واصرف عنا معصيتك، واجعلنا من حزبك وأوليائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.