يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي هريرة ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: قال رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ: «المُؤمِن الْقَوِيُّ خيرٌ وَأَحبُّ إِلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كُلٍّ خيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا ينْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ. وإنْ أصابَك شيءٌ فلاَ تقلْ: لَوْ أَنِّي فَعلْتُ كانَ كَذَا وَكذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَّرَ اللَّهُ، ومَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَان». رواه مسلمحديث رقم (2664).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
ما يجب أن يكون عليه المؤمن في نفسه:
هذا الحديث الشريف تضمن جملًا عديدة فيما يتعلق بما يجب أن يكون عليه المؤمن في نفسه، وفيما يجريه الله ـ تعالى ـ عليه من الأقضية والأقدار، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «المُؤمِن الْقَوِيُّ خيرٌ وَأَحبُّ إِلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» المؤمن القوي أي في إيمانه، وقوة الإيمان هي برسوخ اليقين، وعظيم التصديق لما جاء به القرآن والسنة، أضف إلى هذا الاجتهاد في صالح العمل.
فقوة الإيمان لها معياران أو لها دليلان، أو يحصل بأمرين:
الأمر الأول: التصديق الجازم بما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما جاء في القرآن والسنة من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والنبيين، والقدر خيره وشره. أصول الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فقوة الجزم واليقين بهذه الأمور يتحقق به قوة الإيمان، والإيمان قول وعمل، اعتقاد وعمل جوارح، فيضاف إلى هذا أيضًا الاشتغال بصالح الأعمال من الفرائض والواجبات، ثم التزود بما يفتح الله ـ تعالى ـ من صالح الأعمال من التطوعات والمستحبات، وبهذا يقوى الإيمان.
فمن أراد أن يكون إيمانه قويًا فليحرص على هذين الأمرين، وليجتهد فيهما عظيم التصديق لخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألا يتطرق إليه شيء من الضعف أو الريب.
والثاني: أن يشتغل بالعمل الصالح.
هذا معيار قوة الإيمان، المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وهذا يبين أن الإيمان مراتب ودرجات، وليس على درجة واحدة فكلما ازداد الإنسان علمًا نافعًا، وعلًا صالحًا زاد إيمانه، وبقدر نقص العلم والعمل، العلم النافع، والعمل الصالح ينقص الإيمان، لكن كل من اتصف بالإيمان وكان في دائرته من أهل الإيمان فإنه على خير، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ» وذلك أن الله تعالى أثبت الخيرية في الجميع كما قال ـ تعالى ـ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾[فاطر:32] فوصف الله ـ تعالى ـ ورثة القرآن، ورثة العلم النافع، ورثة هدي النبيين ما جاء به سيد المرسلين وصفهم بأنهم مصطفون ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ اختارهم وخصهم بهذه الوراثة وهو دين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر مراتبهم ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾[فاطر:32] هذا من المصطفين وهو من وقع في الخطأ، ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾[فاطر:32] وهو من أتى بالواجبات ولم يزد، ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر:32] وهذا أعلى الدرجات وهو من أتى بالواجبات واجتهد فيما وراء ذلك من الصالحات، «وما تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وما يَزالُ عبدي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه» هذا هو السبق جعلنا الله وإياكم من السابقين، ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ هؤلاء كلهم مصطفون.
في كل مؤمن خير:
وهذا يدل على ما دل عليه الحديث أن كل مؤمن فيه خير، «وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ» لكنه خير متفاوت، ودرجات، ومراتب يتفاوت فيها الناس في العلم واليقين، والعمل الصالح كما أن ذلك يحصل به التفاوت يوم القيامة في درجات ومراتب، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾[الواقعة:27]، ثم قال: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾[الواقعة:10] فليسوا على درجة واحدة بل أهل الإيمان مراتب ودرجات، وكلًا يعطى من الأجر والثواب بقدر ما معه من العمل، قال الله تعالى: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43]، والمؤمن الراشد العاقل لا يكتفي بالمراتب الدنيا بل يجد ويجتهد في العلو والترقي في مراتب الخير، كما أنه يحرص على أن يكون السابق في أمور الدنيا من المال، والجاه، والولد، وما إلى ذلك من ملذات الدنيا بل هو في مراتب الآخرة أحرص لأن مراتب الآخرة خير وأبقى.
اللهم اجعلنا من أهل أعالي المراتب في طاعتك، والقيام بحقك، وارزقنا قوة الإيمان، وثبتنا على الحق واليقين، واهدنا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.