يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أَنَّ رسول اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ قال: «حُجِبتِ النَّارُ بِالشَّهَواتِ، وحُجِبتْ الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ» متفقٌ عليهصحيح البخاري (6487)، وصحيح مسلم (2823).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
بيان طريق الجنة وطريق النار:
فهذا الحديث المختصر الموجز في كلماته هو بيان طريق الجنة وطريق النار، فقد اختصرهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملتين مختصرين: الجنة أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها هي دار النعيم الكامل الذي أعد الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والنار هي دار العذاب التي أعد فيها جل وعلا عذابًا لأهل الكفر والعصيان.
يقول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في بيان ما يحول بين الإنسان والجنة، وما يحول بينه وبين النار، وما الطريق الذي يوصله إلى الجنة، والطريق الذي يوصله إلى النار، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «حُفتْ الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ» وفي الرواية الأخرى: «وحُجِبتْ الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ» المكاره جمع مكروه، والمكروه هو ما لا يتلاءم مع الطبع وتنفر منه النفس، وهذا الوصف يشمل كل ما يثقل النفس ويخرجها عن ألفها، وعادتها، ومحبوبها، سواء أن كان ذلك في الواجبات، أو كان ذلك في المحرمات فإن الله ـ تعالى ـ فرض فرائض على عباده، وحد حدودًا، ونهى عن نواهي.
حاجة الإنسان إلى المجاهدة:
هذه الفرائض تحتاج إلى مجاهدة حتى يأتي بها الإنسان، وتلك المحرمات تحتاج إلى مجاهدة ومعاناة ليجتنبها الإنسان، وهذا معنى المكاره وهو ما يجده الإنسان من المشقة في امتثال الأمر، والمشقة في ترك ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرة:216]، الكره هنا ليس في الشرع فإنه لا يكره شيء من شرع الله ـ عز وجل ـ بل كله محمود ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود:1]، لكن الكره فيما يتعلق بالنفس، وما يثقلها ويخرجها عن مألوفها، فالإنسان في قيامه لصلاة الفجر في الليلة الشاتيه أو ليالي الصيف القصيرة التي ينام فيها متأخر يحتاج إلى معاناة وهو مما تكرهه نفسه، كذلك الصوم في اليوم الصائف، كذلك إخراج المال هو مما تكرهه النفوس لما جبلت عليه من محبة المال والبخل به، وما إلى ذلك من الفرائض والواجبات.
في المقابل أيضًا المنهيات ترك المحرمات يثقل على النفس، فغض البصر، حفظ اللسان عن أعراض الخلق والوقيعة فيهم، حفظ السمع عن أن يسمع الإنسان شيئًا من المحرمات، كل ذلك مما يثقل على النفس فتكرهه لثقله على النفس. لكن عاقبة تلك المكروهات حميدة في الدنيا وفي الآخرة، فإنها في الدنيا تنقلب تلك المتاعب إلى نعيم يتنعم به القلب، ولذلك قيل: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
ما هي الجنة التي في الدنيا؟
الجنة التي في الدنيا هي ما يلقيه الله ـ تعالى ـ في قلب العبد من الطمأنينة، والانشراح، وما يجده من حلاوة الإيمان ولذته التي تفوق كل المتاعب التي سبقت، ولهذا لا ينال شيء من الراحة إلا على جسر من التعب، لا يمكن أن يرتاح الإنسان ويدرك محبوبه إلا على شيء من التعب، وسبحان الله هذه سنة إلهية ليست فقط في الأمور الدينية، ونعيم الآخرة، بل حتى في أمور الدنيا فإنه لا ينال الراحة في الدنيا إلا من تعب، وبذل، واجتهد في تحصيلها حتى يدرك الراحة، أما الذي يؤثر الراحة، يؤثر الدعة، يؤثر ما تشتهيه نفسه، يقدم محبوباته لا يدرك شيئًا لا في دين ولا في دنيا، والسبق هو من استعمل نفسه، وطاقته، وقوته في الوصول إلى مرضاة الله الدائمة الباقية، فالآخرة خير وأبقى، خير في نعيمها وهي أبقى فلا تزول كما دلت على ذلك الأدلة.
الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي:
المقصود أيها الإخوة أن ما يلقاه المؤمن في قيامه بما أمر الله ـ تعالى ـ من المكاره ليس شيئًا لا يؤجر عليه بل عاقبته حميدة وهي الجنة نسأل الله أن نكون من أهلها، فليصبر الإنسان على ما يكره في طاعة الله، ويصبر على ما يكره في اجتناب معاصي الله ـ تعالى ـ وما حرمه، يصبر على ما يكره من أقدار الله فإنه ينزل بالإنسان من الأقضية والأقدار ما يكرهه وهو بين أمرين:
إما أن يصبر فيؤجر.
وإما أن يسخط فيأثم ويناله عذاب الدنيا بما نزل عليه من المصيبة وعذاب الآخرة بما ثبت عليهم من الإثم.
ولذلك جدير بنا أن نحرص على أن نعمل بالصالحات ما استطعنا، فقد حفت الجنة بالمكاره، ونصير على ذلك والعاقبة حميدة. أما النار فإن أمرها يسير أي أن تحصيلها ليس بالعسير، وذلك بأن يتبع الإنسان نفسه هواها فلا يقف عند محرم باجتنابه، ولا يمتثل أمرًا، ولا يصبر على أقضية مكروهة بل يتبع نفسه ما تشتهي، والمآل هو النار، أعاذنا الله وإياكم منها.
فلنجتهد في طاعة الله، ولنصبر على ذلك، وسنجد من اللذة ما يعيننا على مزيد طاعة، ولهذا الله تعالى يقول في حق من يقيمون الليل من أوليائه: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾[السجدة:16] تتجافى يعني جنوبهم ما تأنس ولا تألف الفرش لأنها ذاقت لذة القيام بين يدي الله عز وجل، ذاقت لذة المناجاة والذكر له جل في علاه، فوازنت بين النعيمين واللذتين فوجدت أن لذة مناجاته أعظم من لذة النوم والمضي في الكرى.
عاقبة المعصية:
وهكذا المعصية سبحان الله العظيم يتلذذ بها الإنسان عند مواقعتها ولكن ما يعقبها من وحشة، ما يعقبها من ضيق، ما يعقبها من بلاء ومصيبة هذا عاجل غير ما يعقبها من عذاب إن لم يتب في الآخرة، يجعلها لا قيمة للذة التي أدركها بمعصية الله، فاحذر من لذة تعقبها كسرة وحسرة، وأحرص على ألم يعقبه نعيم وبهجة، جعلنا الله وإياكم من أوليائه، عمر قلوبنا بطاعته، جنبنا كل ما يردينا من القول والعمل في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.