يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أنس ـ رضي اللَّه عنه ـ عن رسولِ اللَّهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ قال: «يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ» متفقٌ عليهصحيح البخاري (6514) وصحيح مسلم (2960).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
منزلة العمل في حياة الإنسان وبعد موته:
هذا الحديث الموجز المختصر بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزلة العمل في حياة الإنسان وبعد موته، فإن الإنسان إذا مات تبعه ثلاثة كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه» أهله يشمل كل من يتصفون بالأهل من ولد، ووالد، وزوج، وقريب، وأما المال فالمقصود به كل ما يتمول مما يتبع الإنسان من رقيق على سبيل المثال في الزمن السابق، وكذلك من جهاز يجهز به الميت، ونحو ذلك فهذا من المال الذي يتبع الإنسان، وأيضًا ما كان بسبب المال كأن يكون الإنسان له مال يطمع فيه فيتبعه الناس لأجل إصابة شيء من ماله بعد موته.
وأما الثالث: العمل، والعمل هو كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل، ظاهر أو باطن، فما يكون من الإنسان من ألأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة تتبع الإنسان، وهي مقيدة إذ أنها تتبعه لصيقة به، لا تفارقه وهي أقرب ما يكون من هؤلاء الثلاثة التصاقًا بالإنسان، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ» يرجع الأهل بعد الفراغ من دفنه، ويرجع المال إذ لا يكون مع الإنسان شيئًا من ماله الذي اكتسبه وجمعه كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[الأنعام:94] فيأتي الإنسان ليس معه شيء حتى الثوب الذي عليه مما يستر به المؤمن ما أسرع أن يبلى ويذهب فلا يبقى مع الإنسان شيء إلا العمل.
ما يبقى للإنسان بعد موته:
قال: «ويبقَى عملُهُ» يرجع اثنان ويبقى الثالث وهو العمل، والعمل يبقى وهو القرين الذي لا يفارق الإنسان كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾[الإسراء:13] طائره يعني عمله، فكل إنسان يلازمه عمله لا ينفك عنه، وهذه الملازمة تترتب عليها المجازاة فإن الإنسان إنما يجازى بما كان يعمل، وبما كان يصنع، وبما يصدر عنه من قول أو فعل ظاهر أو باطن.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يجود من يصاحبه وهو العمل الذي لا يفارقه، فهو يصاحبه في قبره، ثم يصاحبه بعد بعثه ونشوره، ثم يصاحبه في مقره ومنزله في جنة أو نار. أما مصاحبته في القبر فكما في حديث البراء بن عازب: "أن الإنسان إذا قبر جاءه عمله إن كان طيبًا بصورة حسنة، وريح حسنة، وثياب حسنة، وأما إن كان قبيحًا فيأتي على خلاف ذلك، فإن كان العمل سيئًا جاء بصورة قبيحة، وثياب قبيحة، وريح منتنة، فيسأل في الحالة الأولى فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وفي الحالة الثانية يُسأل: من أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ".[مسند أحمد (18614)]
وهكذا كل إنسان ومن الناس من يخلط سيئًا وحسن فيأتيه على نحو عمله، ثم بعد البعث والنشور قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾[الإسراء:13]، وفي المآل قال جل وعلا: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43]، فينبغي للإنسان أن يحرص على صحبة العمل الصالح، والاجتهاد فيه، واحتساب الأجر فيما يلقه في سبيله فإنه الذي ينفعه، وهو الذي يبقى ولا يفارقه، كل شيء يمضي ويفارق إلا العمل الصالح، حتى في الآخرة فإنه قال ـ تعالى ـ: ﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾[المؤمنون:101]، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ[34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ[36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس:34-37].
العمل هو الرفيق:
فلا يرافقك، ولا يكون معك إلا ما كان من صالح عملك، فاحرص على استصحاب العمل الصالح الذي تسر به عند لقاء ربك، ابتداء بالواجبات والفرائض لا تفرط فيها، واجتهد في إتقانها وإصلاحها، ثم استكثر من الصالحات، واحتسب الأجر عند الله في ذلك، فإن ما عملته ستلقاه، لابد أنك ستلقاه فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110].
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، واستعملنا فيما تحب وترضى، واصرف عنا السوء والفحشاء، وارزقنا التوبة الصادقة عن كل خطأ، وخلل، وقصور، وتقصير، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.