المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج/ مصطفى مستنطق، وياسر زيدان.
مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ خالد أهلًا وسهلًا ومرحبًا، وكل عام وأنتم بخير، حياكم الله.
الشيخ: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك، وأسأل الله تعالى أن يقبل منا ومنكم صالح العمل، وتقبل الله منا ومنكم ما كان من الخيرات يا رب العالمين.
المقدم: اللهم آمين. مستمعينا الكرام في برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ويسعد بها -بمشيئة الله تعالى- في دنياه وآخرته بحول الله تعالى.
في هذه الحلقة مستمعينا الكرام نتحدث حول أسباب قبول العمل الصالح.
فضيلة الشيخ بمشيئة الله تعالى سيكون حديثنا في هذه الحلقة حول هذا العنوان، وحول أسباب قبول العمل الصالح، لكن ابتداءً فضيلة الشيخ ونحن بعد الخروج من هذه المواسم، مواسم الخير، مواسم الطاعة، مواسم البركة، مواسم القرب من الله تبارك وتعالى تزكو بها النفوس، وتقترب من الله جل وعلا، وتسمو وترتفع بالدعاء والذكر والطاعة والعبادة والقربى لله تبارك وتعالى، يبحث المسلم في نهاية هذه المواسم مواسم الخير عن قبول العمل الصالح الذي تقرب به إلى الله تبارك وتعالى في مثل هذه الأيام الماضية.
نتحدث ابتداءً فضيلة الشيخ عن أهمية قبول العمل الصالح للمسلم.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيةً طيبةً لك أخي وائل، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات حيثما كانوا. فيما يتعلق بهذه القضية قضية قبول الأعمال لا شك أنها من مهمات القضايا، وقد اعتنى بها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن العاملين إنما يعملون ويجتهدون رجاء تحصيل القبول من رب العالمين؛ ولهذا فإن قبول العمل من مهمات ما يشغل نفوس العاملين، لأجل ألا يكون عملهم لا نفع فيه لا في الدنيا ولا الآخرة.
الله تعالى أخبر عن صفات أهل الإيمان بجملة من الأخبار التي تبين عظيم ما لهم من خصال، وما لهم من أوجه الإحسان، من ذلك ما ذكر من دوام الاشتغال بصالح العمل، فهم في عمل دائم في خصال الإيمان، وفي ترقٍّ في مراتب الإحسان مع إشفاق تامٍّ من عدم قبول العزيز الرحمن جل في علاه.
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾المؤمنون:60، هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى فيها عن حال أوليائه وعباده الصالحين بأنهم ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوا﴾ أي؛ من العمل الصالح، ﴿وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أي: وفي قلوبهم خوف ووَجَلٌ وخشية أن لا يكون هذا العمل الذي عملوه، وهذا السعي الذي جرى منهم قد حاز قبول رب العالمين ونال ما يؤملونه من فضل الله تعالى وعطائه.
جاء في سنن الترمذي من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾المؤمنون:60، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ».[سنن الترمذي:ح3175، وصححه الألباني في الصحيحة:ح162] هكذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما سكن قلوب هؤلاء العاملين بطاعة الله المشتغلين بما يحب ويرضى من صالح العمل من الخوف والوجل أن لا يكون عملهم مقبولًا، فقبول العمل من المهمات التي يشتغل بها نفوس الصالحين.
فالسلف كانوا يجتهدون في إتمام الأعمال، وإكمالها، وإتقانها ثم يهتمون بعد ذلك بقبولها ويخافون من ردها، وهؤلاء هم الذين وصف الله تعالى في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾المؤمنون:60. روي عن علي -رضي الله تعالى عنه- أنه قال في تفسير هذه الآية: «كانوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل، ألم تسمع الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾المائدة:27».[تفسير ابن رجب:2/28]
وعن فضالة بن عبيد قال: «لأنْ أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾المائدة:27».[لطائف المعارف:1/209]
وقال ابن دينار: «الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل»[لطائف المعارف:1/209]، ولهذا هم على حذر وخشية أن لا تكون أعمالهم وقعت موقع القبول.
قال عبد العزيز بن رواد: «أدركتهم» يعني سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، «يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم همٌّ أن يقبل منهم أم لا؟».[لطائف المعارف:1/209]
وكانوا يدعون الله تعالى ويلحون عليه أن يتقبل منهم أعمالهم، بل كانت تهنئة الصحابة لبعضهم بعد مواسم البر في العيد أن يدعو بعضهم لبعض بقبول العمل، فكانت تهنئتهم: تقبل الله منا ومنكم، فهي إضافةً إلى أنها مما يُهنَّأ به المؤمنون بعد صالح الأعمال إلا أنها في الحقيقة تُنبئ عن وَجَل وخوف ألا يكون ذلك قد وقع مَوقعَ القبول من الله عز وجل.
ولذلك تجد أصحاب القلوب الحية وأصحاب البصائر يتساءلون بعد صالح الأعمال وما يسره الله من القبول: «مَن هذا المقبول منا فنُهَنِّئَه» كما قال عبد الله بن مسعود: «ومن هذا المحروم منا فنعزيه».
فالقبول غاية المنى ومنتهى الطلب.
ليتَ شِعري مَن فيه يُقْبَل *** مِنَّا فيُهَنَّا يا خيبةَ المردود
مَن تَولَّى عنه بِغير قَبول *** أرغم الله أنفه بِخِزيٍ شديد
هكذا كانوا يرددون ويقولون، ولنا في إبراهيم -عليه السلام- وهو صاحب المقام الرفيع في تحقيق العبودية لله عز وجل؛ حيث قال الله تعالى عنه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾النحل:120- 121.
هذا العمل الجليل الذي وصف الله تعالى إبراهيم -عليه السلام- لم يكن إلا لعظيم ما في قلبه من الإقبال على ربه، وخشية ألا يكون عمله مقبولًا؛ لذلك قال الله تعالى في شأن إبراهيم وهو من هو في المنزلة العالية والمكانة الرفيعة: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾البقرة:127؛ فحكى الله تعالى وقص خبر رفعِ إبراهيم القواعد من البيت، لما أمره الله تعالى بتشييده وبنائه وتهيئته وبوَّأه له، كان غاية ما في قلبه من الهم هو أن يكون هذا العمل وهو بناء البيت العتيق، وهو من أعظم الأعمال وأشرفها أن يكون هذا قد وقع موقع قبول رب العالمين.
يقول وهيب بن الورد لما قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾البقرة:127: «يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشفِق أن لا يُتقبَّل منك!!».[تفسير ابن أبي حاتم:1/233]
شتان بين قلب مؤمن مُلِئَ بالوجل والخوف وعظيم الفاقة والفقر إلى قبول الله -عز وجل- لصالح عمله، ومن عمل عملًا فرآه حسنًا وجزم بقبوله، واغترَّ بما كان من صالح أعماله، شتان بين هذا وهذا، سؤال القبول يتضمن كمال الافتقار إلى الله تعالى، وتمام الإقرار بالمن والإحسان منه جل في علاه، وبهذا يزول كل اغترار ويتلاشى كل إعجاب، ويقر الإنسان بعظيم فقره إلى فضل ربه، وأن العمل الذي يسره الله تعالى له إنما هو من فضله، ومِنَّته، وكرمه، وإحسانه، وبالتالي يشهد فضل الله عليه، ويطمع في أن يتم الله الفضل عليه بالقبول.
لهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لا، وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»، ثم بين أهمية العمل فقال: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا».[صحيح البخاري:ح5673]
لو أن العبد أيقن مثل هذه المعاني وشهد فضل الله تعالى عليه، واستقام إليه في تحقيق ما يؤمله من قبول ربه كان ذلك مفتاحًا لخير عظيم، وعطاء جزيل، وصلاح في قلبه وعمله، وجزيل إحسان ربه بعظيم الإثابة له في عاجل أمره وآجله، نسأل الله أن يعيننا على استحضار هذا المعنى.
وهذا لا يختص فقط مواسم البر، هو في كل طاعة، في كل عمل دقيق أو جليل، فرض أو نفل، واجب أو تطوع، خاص أو عام، دائمًا احرص على أن يسكن قلبك هذا المعنى، الافتقار إلى الله في القبول، الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
فاحرص على أن يكون عملك قد وقع موقع القبول، ولا تغتر؛ لأن الله يسر لك العمل الصالح، فكم من عامل يُردُّ عليه عمله إما لفساد نيته أو لغير ذلك من الأسباب التي سنتطرق إليها فيما يتعلق بأسباب عدم قبول العمل.
روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما - وهو ممن بلغ مبلغًا عاليًا في العلم وصلاح العمل والحرص على اتباع السنة، والاجتهاد في نشر الخير والعلم بين الناس - أنه تصدق بصدقة، مرَّ سائل فأعطاه دينارًا، فقال أحد أبنائه: «تقبَّل الله منك يا أبتاه»، إما على وجه الخبر قال ذلك وهذا الظاهر، أو على وجه الدعاء، لكن يظهر أن ابن عمر فهم من كلمة ابنه: "تقبل الله منك يا أبتاه" أن ذلك خبر، فقال عبد الله بن عمر منبهًا ولده إلى عظيم ورفيع منزلة القبول، قال: «يا بني لو علمت أن الله تقبَّل مني سجدةً واحدةً أو صدقةَ درهم واحد لم يكن غائب أحب إليَّ من الموت»، لماذا؟ لأنه خُتم له بالقبول، ومن ختم له بالقبول كان في منازل الرضوان، وفي مقامات الإحسان، وفي ظلال رحمة الرحمن جل في علاه.
قال بعد ذلك بعد أن قال هذه الكلمة: «لو علمت أن الله تقبل مني سجدةً واحدةً أو صدقةَ درهم واحد لم يكن غائبًا أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟ إنما يتقبل الله من المتقين».[ تاريخ دمشق لابن عساكر:ح31/146]
ولذلك كان أهم مطالب العاملين بطاعة الله تعالى أن تقع أعمالهم موقع القبول، لا يظن الظان أن حصول العمل كافٍ في قبوله، فكم من عامل يردُّ عليه عمله؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»[صحيح البخاري:ح2697]-، فثمة عمل مقبول وعمل مردود، فاحرص على أن يكون عملك مقبولًا.
بهذا كله يتبين منزلة القبول، وقد بيَّن الله تعالى أسباب القبول في كتابه، وبين جملة من أسباب رد العمل وعدم قبوله في كتابه، كل هذا يبين أهمية هذا الموضوع، ويبين شريف منزلته، ووجوب العناية به من العاملين، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم القبول، وأن يجعلنا ممن يوفَّق إلى العمل الصالح، وأن يتم علينا الإحسان والفضل بأن نكون من عباد الله المقبولين.
المقدم: اللهم آمين. فضيلة الشيخ قبل أن ننتقل إلى الفاصل الأول في هذه الحلقة بعد هذه المقدمة الضافية، وبعد أيضًا الحديث في الكتاب والسنة عن القبول، وقبول الأعمال الصالحة نقول: فضيلة الشيخ، إن توفيق الله -عز وجل- للعبد يمتدُّ لما بعد العبادة، ويتعدى العبادة لقبولها، فالعبد إذا وفِّق لعبادة فهو إذا دعا الله -عز وجل- بالقبول فهو يوفَّق أيضًا لهذا العمل وهو دعوة الله تبارك وتعالى أن يتقبل منه هذا العمل الصالح.
الشيخ: بالتأكيد، إن الهم لا يقتصر فقط على العمل بل على قبوله، ولهذا سأل إبراهيم ربه وإسماعيل، سألا ربهما في هذا المقام العظيم القبول، فلو كان القبول قرينَ العمل لما كان همًّا أن يسأل الإنسان الله -عز وجل- قبوله، بل قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾البقرة:127، أي: واذكر زمن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، ثم ذكر أهم ما كان يشغلهما وهما في هذا العمل الجليل العظيم: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾البقرة:127، السميع لما يصدر منا من الأقوال، العليم بما أكنَّته الضمائر وأخفته الصدور من المقاصد، والإرادات، والنيات، وبه يُعلم أن القبول إنما يكون على وفق ما اطلع الله عليه -جل في علاه- من ظاهر العمل، ومن ظاهر القول، وكذلك ما أخفته القلوب وأسرَّته من المقاصد والنيات.
المقدم: فضيلة الشيخ في هذا الجزء من هذه الحلقة نريد أن نتحدث وأن نذكر بعض أسباب قبول العمل الصالح.
الشيخ: أعظم أسباب قبول العمل الصالح بيَّنها قوله -جل وعلا-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾الكهف:110، هذه الآية الكريمة ذكرت أن من رجا لقاء الله تعالى على وجه يكون فيه سعيدًا مسرورًا فإن ذلك يدرك بأمرين:
- أن يكون عمله صالحًا.
- وأن يكون لله خالصًا.
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾الكهف:110.
وقد بيَّن الله -جل في علاه- المعنى العام الذي لابد منه في كل عمل ليكون مقبولًا؛ وهو أن يكون العمل ملازمًا للتقوى، مصاحبًا لهذا الوصف.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾المائدة:27، والتقوى في العمل يترجمها ما جاء في الآية الأخرى من أن يكون العمل خالصًا وأن يكون صالحًا، فأعظم أسباب قبول العمل الإخلاص لله عز وجل؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه.
وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله تعالى: «أنا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكتُهُ وشِرْكَهُ»[صحيح مسلم:ح2985/46]، فالشرك يبطل العمل، يحبطه، مهما كان العمل عظيمًا، مهما كان العمل جليلًا، مهما كان العمل كثيرًا، الشرك يذهب العمل ويبطله؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾الفرقان:23، يقص الله تعالى أعمال من لم يؤمن به، من لم يخلص له، من كان من الكافرين أو المشركين، يقول: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾الفرقان:23.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾المائدة:5، وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾الأحزاب:19، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾الزمر:65. ولهذا ينبغي لكل عامل أن يجتهد في أن يصلح قصده، أن يصلح نيته، أن يجتهد في ابتغاء ما عند الله لا يبتغي سواه، فلا يعمل لغير الله أو لذكر أو لمنصب أو لشرف أو لجاه ومصالح عاجلة، بل لا يعمل إلا لله كما قال الله تعالى في وصف الأبرار: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾الإنسان:9، فلا ينتظرون على عمل صالح مقابلًا من الناس؛ ﴿جَزَاءً﴾ أي: لا مكافأة ﴿وَلا شُكُورًا﴾ أي: ولا شكرًا، بل هم يعملون لأجل رضا الله يبتغون ما عنده، ومن صدق في طلب ما عند الله جاءته كل مطالبه، وحصل كل مراداته.
جاء في الحديث الصحيح عند النسائي من حديث أبي هريرة أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل يبتغي الأجر والذكر، يعني هو يطلب الأجر من الله على ما كان من المدافعة عن الإسلام وأهله، ويريد شيئًا آخر وهو أن يذكر بين الناس بأنه شجاع، أنه قوي، أنه مِقدام، يريد الذكر أيضًا مع الأجر، يعني الرجل يقاتل لأجل هذين المقصدين؛ ما الذي له من هذين الأمرين؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا شَيْءَ لَهُ»، يعني أنه لا يدرك الأجر، وأما الذكر فلو أدركه فإنه سرعان ما يتبدد ويذهب، فقوله: ما له؟ يعني عند الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ». أعاد الرجل السؤال على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى: الرجل يقاتل يبتغي الأجر والذكر ما له؟ قال: «لَا شَيْءَ لَهُ»، فأعاد السؤال مرة ثالثة: الرجل يقاتل يبتغي الأجر والذكر ما له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ لَهُ»، ثم بين ما الذي يجعل العمل مقبولًا فقال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا»، هذا الوصف الأول أن يكون العمل خالصًا، لتحقيق هذا الإخلاص في قوله: «وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»[النسائي في المجتبى:ح3140، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح8] وهذا معنى خالص يعني ليس ثمة للعامل قصد سوى رضا الله، سوى وجه الله، سوى طلب ما عند الله عز وجل، ليس له غرض في تحصيل أي منفعة ومصلحة عاجلة عند الناس إنما غرضه أن يرضى الله تعالى عنه، أن يكون من عباد الله المحققين لما طلب منهم إما على وجه الوجوب أو على وجه الاستحباب، «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»، طلب به وجهه فقصد به -جل في علاه -دون ما سواه سبحانه وبحمده.
ولهذا ينبغي لنا في صلاتنا، في صيامنا، في زكواتنا، في بِرِّنا لوالدينا، في أداء الأمانات، في التبسم في وجوه الناس، في كل عمل دقيق أو جليل أن نبتغي الأجر من الله عز وجل، أن نطلب الثواب منه، أن يكون غرضنا من هذه الأعمال رضا الله جل في علاه، تحصيل مرضاته سبحانه وبحمده، وبذلك سندرك خير الدنيا والآخرة؛ لأنه من طلب ما عند الله أعطاه الله ما أراد وفوق ما أراد جل في علاه، فضله واسع، أما من طلب بالعمل الصالح ما عند الناس فإنه لن يدرك ما عند الله؛ لأن ما عند الله لا يدرك بغير قصده، «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكتُهُ وشِرْكَهُ»[سبق]، لا شيء له.
لهذا من أوصاف التقوى التي يقبل بها العمل في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾المائدة:27 أن يكون العمل لله خالصًا.
الثاني من أوصاف وأسباب قبول العمل أن يكون على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون عمله على نحو سبيل النبي-صلى الله عليه وسلم- فيكون عمله وفق الشريعة، وفق هديه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الله -جل في علاه-:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾الحشر:7، وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾الأحزاب:21، ولهذا لابد في العمل أن يكون على نحو ما كان عليه عمله صلى الله عليه وسلم ليكون مقبولًا: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[صحيح البخاري:ح631]، «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[صحيح مسلم:ح1297/310]، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: «مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[سبق]، يعني من جاء في طاعة وعبادة بخلاف ما كان عليه هديه فإنه لا يقبل، هذا معنى رد، أي أنه مردود وهو غير مقبول.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ - إذَا أَحْدَثَ - حَتَّى يَتَوَضَّأ»[صحيح البخاري:ح6954]، فلذلك من أسباب قبول العمل الإتيان به على الوجه المشروع، أن يكون على نحو ما كان عليه عمله صلى الله عليه وسلم.
من أسباب قبول العمل أيضًا أن يجتهد الإنسان في حسن الظن بالله عز وجل؛ فإنه من أحسن الظن بالله نال ما عنده جل في علاه: «أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»[صحيح البخاري:ح7405] هكذا قال الله -عز وجل- في الحديث الإلهي.
وكل من أحسن الظن بالله أدرك ما عنده من عظيم الأجر وجزيل الإحسان، فلهذا ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله، ويوقن أن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى كما قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾آل عمران:195، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾البقرة:143، أي: أعمالكم الصالحة.
فالله تعالى كريم منَّان يعطي على القليل الكثير، ومن فضله أنه يجزي على الحسنة بعشر أمثالها أو يزيد كما جاء في الصحيح من حديث أبي ذر يقول الله -عز وجل-: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وأَزِيدُ» أي: وأزيد على عشر في المضاعفة إلى سبعمائة ضعف. «ومَنْ جَاءَ بالسيئة فجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها أو أغفِرُ»[صحيح مسلم:ح2687/22]، وفضل الله واسع.
ومن أقبل على الله صادقًا لم يجد منه إلا القبول والإقبال، «وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».[صحيح البخاري:ح7405]
المقصود أن إحسان الظن بالله - جل في علاه - مما يوجب قبول العمل؛ لأن الله تعالى كريم منان، وقد وعد عباده -جل وعلا- بالقبول وهو لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾الشورى:25، فمن رُزِق التوبة الصادقة لم يُحرم القبول، ومن أتى بالمقدمة لم تتخلف عنه النتيجة، المقدمة الصحيحة فمن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة؛ لقوله: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾نوح:10، ومن رزق الدعاء لم يحرم الإجابة، كما قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾غافر:60.
لذلك من المهم أن نحسن الظن بالله عز وجل.
ولكن فرق بين حسن الظن بالله وبين الاغترار بالعمل، حسن الظن بالله ينظر فيه الإنسان إلى كريم عطائه، وجزيل إحسانه، وعظيم صفاته الموجبة للقبول، وأما الاغترار فهو أن يرى أن له حقًّا على ربه أن يقبل عمله، ففرق بين هذا وذاك، هذا إحسان الظن يوجب الاستقامة إلى الله عز وجل، وأما الاغترار فهو أن يرى الإنسان عمله، وأن يعتقد أن هذا العمل لابد أن يكون مقبولًا، وهذا غرور قد يحبط عمله، ويبدِّد سعيه، ولا يدرك به الإنسان إلا الكدَّ والتعب.
لهذا ينبغي أن نستحضر هذه المعاني: أن نخلص عملنا لله، أن يكون عملنا وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أن نخاف من عدم القبول ونرجوه بحسن الظن بالله عز وجل، أن نستصحب حسن الظن بالله عز وجل؛ فإن ذلك من موجبات القبول.
هذه جملة من الأسباب التي يتحقق بها الوصف المذكور في قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة:27.
المقدم: فضيلة الشيخ، قبل أن ننتقل إلى أسباب عدم قبول العمل الصالح، هذا أبو حسن يسأل، ويبدو أنك ذكرت يا فضيلة الشيخ في معرض حديثك جزءًا من هذا يقول: كيف نوفق بين الآيات الكريمة في قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾البقرة:143، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾الأنعام:160، وبين أيضًا الرجاء ودعاء الله -عز وجل- بقبول العمل الصالح؟
الشيخ: ليس هناك تعارض، هو -عز وجل- وعد ولا يخلف الميعاد، لكن الإنسان يخشى أن يكون في عمله قصور أو أن يكون فيه تقصير أو فوات بعض أوصاف القبول، بأن يكون عمله مدخولًا في نيته أو على غير هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يكون مقبولًا، أو أن يكون الإنسان يأتي بما يحبط عمله حتى بعد الفراغ من العمل من التسميع بالعمل، بعض الناس إذا عمل صالحًا ذهب يحدث به كلَّ أحد على وجه الإخبار بعمله بلا مصلحة ولا فائدة ولا حاجة؛ فيكون هذا من التسميع الذي هو قريب الرياء في إبطال العمل، فالعمل يبطل بالرياء المقارن للعمل بأن يعمل عملًا يريد به ثناء الناس وذكرهم وأن يروه وأن يمدحوه، أو يعمل عملًا فيما بينه وبين الله -عز وجل- ولا يعلم به أحد، لكن يأتي ويتكلم بالعمل بعد ذلك لأجل أن يمدح، يسمِّع بعمله، «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَاءي اللهُ بِهِ».[صحيح البخاري:ح6499]
فلذلك نحن نسأل الله، نرجوا القبول، ونطمع فيه، ونلحُّ على الله في سؤاله القبول، لا أنَّ الله يخلف الميعاد؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، نحن نوقن أن الله لا يخلف الميعاد، ولكن نتهم أنفسنا ونخشى أن لا نكون قد وفقنا إلى أسباب القبول كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾المؤمنون:60.
المقدم: فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن أسباب عدم قبول الأعمال الصالحة، نذكر هذه الأسباب حتى يبتعد عنها المسلم، وإذا كانت هناك جوانب نقص في عبادته ينتبه ويبتعد عن الأسباب.
الشيخ: أخي الكريم عدم القبول له أسباب، كما أن القبول له أسباب تكلمنا عنها بإجمال، وهي إخلاص العمل لله، أن يكون العمل وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحسن العبد ظنه بالله عز وجل، أن يلح على الله بالدعاء في قبول عمله، كل هذه من أسباب قبول العمل.
من أسباب عدم القبول ما بيَّنه الله -عز وجل- في محكم كتابه فقد بيَّن الله تعالى جملة من أسباب عدم القبول في كتابه كما جاء ذلك في خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن أعظم أسباب عدم القبول فساد القلب إما بالكفر أو النفاق؛ فإن القلب المظلم الذي يأتي العمل نفاقًا أو يأتي العمل لغير الله -عز وجل- عمله مردود.
قال الله تعالى في المنافقين: ﴿قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾التوبة:53؛ فالله -عز وجل- أخبر فيما يتعلق بالنفقات التي يخرجها الناس من أموالهم، والمال له منزلة عظيمة في النفوس، من أسباب عدم قبول النفقات ما يكون عليه الإنسان من الفسق، وقد بين الله -جل وعلا- الفسق في هذه الآية بالتفصيل فقال: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾التوبة:54 وهذا أعظم ما يمنع قبول العمل عدم الإيمان بالله، وعدم الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآيات الكريمات التي ذكر الله تعالى فيها عدم القبول لعدم الإيمان: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾الأحزاب:19، ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾المائدة:5، فعدم الإيمان من أسباب عدم قبول الأعمال.
أيضًا ذكر الله -عز وجل- سببًا آخر من أسباب عدم القبول فقال -جل وعلا-: ﴿وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾التوبة:54 أي: لا يقبلون على العمل الصالح إلا وهم كُسالى أي: متثاقلين؛ كما قال الله تعالى في وصف المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾النساء:142 أي: يأتون وقد ثقلت عليهم العبادة فقلوبهم غير نشطة، إنما يأتون لأجل أن يذبُّوا عن أنفسهم مقالة الناس أنهم لا يصلون، أو يعصموا دماءهم، أو ما إلى ذلك من الأسباب التي يدركون بها مصالح دنيوية ولا يقبلون على الطاعة بنشاط وهمة ورغبة صادقة فيما عند الله تعالى.
ثم قال: ﴿وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾التوبة:54 هذا من أسباب عدم القبول التي ذكرها الله -جل في علاه- في هذه الآية، وكلها تمنع قبول العمل، كلها تحول بين الإنسان وبين قبول العمل.
ومجمل ما ذكر من الأسباب التي لا تقبل منها الأعمال هي من فساد القلوب، فإن فساد القلب موجب لعدم قبول العمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء وهو الذي تكفل الله بإجابته، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾البقرة:186, ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾غافر:60، ومع هذا فدعاء القلب الغافل اللاهي لا يستجاب كما جاء في المسند والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»[سنن الترمذي:ح3479، وقال الحاكم:حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ. وحسنه الألباني في صحيح الجامع:ح1653]، فتجده يقول: يا الله، يا رب، وهو غير مقبل على الله عز وجل،قلبه منصرف عن الله عز وجل، مشتغل بغيره، يرقب سواه جل في علاه.
ولهذا من أعظم شرائط قبول الدعاء حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله عز وجل.
وفي هذا الحديث حديث أبي هريرة قال: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ»، واليقين حضور القلب، ولهذا بعد أن ذكر اليقين ذكر المانع من القبول قال: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»»[سنن الترمذي:ح3479، وقال الحاكم:حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ. وحسنه الألباني في صحيح الجامع:ح1653]،هذه القلوب أوعية، وهي متفاوتة في إقبالها على الله -عز وجل- والحضور بين يديه -جل في علاه- والرغبة فيما عنده؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: «لا يقولُ أحدُكم: اللَّهمَّ اغفِر لي إن شِئت، اللَّهمَّ ارحَمني إن شِئت، ولكن ليعزِم المسألةَ» أي: يجزم في سؤاله، «فإنَّ الله لا مُكرِه لهُ»[صحيح البخاري:ح6339] لا مكره له لأنه عظيم جل في علاه، وهو -سبحانه وتعالى- يحب الملحِّين في الدعاء.
فلذلك من المهمات التي ينبغي أن يعتني بها الإنسان أن يقبل بقلبه في عمله الصالح على ربه؛ فإن غفلة القلب توجب عدم القبول، إعراض القلب عن الله يوجب عدم قبول العمل سواء كان بالكفر، أو كان بالنفاق، أو كان بالفسق، فاحذر أن يكون قلبك غافلًا لاهيًا في وقت عملك واشتغالك بالطاعات، بل أَقبِلْ على الله، واصدُق في الرغبة فيما عنده، وأبشر بعطائه ونواله.
من أسباب عدم قبول العمل التورط في بعض المحرمات؛ فإن بعض المحرمات تمنع قبول العمل، ومن ذلك ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: «شَارِبُ الْخَمْرِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَلَاتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»[مسند أحمد:ح6854، والترمذي في سننه:ح1862، وحسنه]، هذه موبقة من الموبقات التي تحول دون الإثابة على العمل الصالح، ولا يعني هذا أن من تورط في شرب الخمر يترك الصلاة أربعين يومًا، لا، هذا فهم مغلوط، وليس هذا مقصود النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يزيد الطين بلةً، ويزيد على شرب الخمر ترك الصلاة، لا، استحالة، لا يمكن أن يكون هذا مقصوده صلى الله عليه وسلم، إنما غرضه بيان عظيم جرم شرب الخمر وأن شرب الخمر عقوبته وإثمه يذهب أجر صلاة أربعين يومًا، لكن يجب على من تورط في ذلك أن يصلي، وأن يبادر إلى التوبة حتى تكون أعماله واقعةً موقع القبول.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أتى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيٍء لم تقْبَل لَهُ صَلاةُ أربعينَ ليلةً»[صحيح مسلم:ح2230/125]، فهذا بيانٌ أن سؤال الكهان والعرافين هو من موجبات عدم قبول العمل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على البعد عن الأسباب التي تكون موجبةً لعدم قبول الأعمال، والله تعالى كريم منان يعطي على القليل الكثير، فمن صدق الله وأقبل عليه راغبًا فيما عنده لا يمكن، يستحيل أن لا يجد من الله إقبالًا.
وقد قال -جل في علاه-: «وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا، وَمَن أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[صحيح البخاري:7405]، فضل الله واسع وعطاؤه جزيل، وهو الكريم المنان سبحانه وبحمده.
ولهذا ينبغي أن يحسن العبد الظن بالله، وأن يتحاشى وأن يبعد عن كل ما يكون من أسباب عدم قبول الأعمال، أو أسباب حبوط العمل، أن يحفظ عمله من الرياء، فالرياء مما يبطل العمل؛ ولذلك قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكتُهُ وشِرْكَهُ».[صحيح مسلم:ح2985/46]
أن يترك المن والأذى في الصدقات؛ فإن ذلك يبطل العمل؛ قال الله تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾البقرة:263، فالمنُّ والأذى مما يذهب العمل ويبطله، وقد ذكر الله -جل وعلا- مثالًا لذلك فيما شبَّه به حال من تصدق بصدقة وأتبعها أذى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾البقرة:264 فالرياء مما يبطل العمل، ﴿وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾البقرة:264 ﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي: صفته، ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ أي: صخرة، ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾ نزل المطر ﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾، ذهب التراب وترك الصخرة من غير تراب خالصة صلدة، ﴿لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾البقرة:264.
إبطال الصدقات بالمن والأذى هو مما تبطل به كلُّ الأعمال، وإنما ذكر في الصدقة لأنها تقترن بها لكن حتى الصلاة، الصوم، الحج، كل الأعمال الصالحة إذا أتبعها الإنسان بالمن والأذى كان ذلك من موجبات بطلان العمل، وقد نهانا الله تعالى عن بطلانه فقال: ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾محمد:33 فحث على تبجيل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها؛ لئلا يضيع العمل سدى كما ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة.
المقدم: الله يعطيك العافية فضيلة الشيخ، شكر الله لك وكتب الله أجرك الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على إثرائك لهذه الحلقة وعلى ما أجدته في هذه الحلقة.
الشيخ: لكم الشكر أيضًا وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأوصي نفسي وإياكم بالاجتهاد في العمل الصالح، وسؤال الله القبول، أسأل الله لنا ولكم التوفيق، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وأن يدفع عن بلادنا كل سوء وشر، ويجمع كلمتنا على الحق والهدى، وأن يوفق المسلمين إلى ما فيه الخير في دينهم ودنياهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.