المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة" والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل الصبحي، ومن الإخراج/ سالم الجاسم وياسر زيدان.
مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ، السلام عليكم وأهلًا وسهلًا، وحياك الله معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي وائل، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم:- أهلًا وسهلًا فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام في حلقات برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، من هذه الموضوعات التي سنتحدث عنها ما سنتحدث عنه في هذه الحلقة حول مضمون الآية الكريمة ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾آل عمران: 134 حول هذا الخلق العظيم.
وديننا الإسلامي ما ترك خيرًا إلا ودلنا عليه وحثنا إليه وندبنا لفعله، وما ترك شرًّا إلا حذرنا منه، وعندما نتحدث عن خلق العفو فالله - تبارك وتعالى - سمى نفسه باسم العفو، سنتحدث بمشيئة الله تعالى بشكل أكثر إسهابًا وبنقاط متفرقة مع فضيلة الشيخ خالد المصلح حول هذا الموضوع.
فضيلة الشيخ -بمشيئة الله تعالى- سيكون حديثنا حول العافين عن الناس، حول هذا الخلق العظيم الجليل الذي حثنا ديننا الإسلامي عليه، لكن ابتداءً فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن العفو وفضله في كتاب الله - عز وجل-.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالعفو خلق عظيم جليل، ندب إليه الله - عز وجل - في كتابه في مواضع عديدة، فأمر الله تعالى به وحث عليه وبيَّن عظيم الأجر المرتَّب عليه، وأوضح في آيات عدة صلة العفو باستقامة الأحوال وإدراك الفضائل، وقد أمر الله تعالى بالعفو رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك قوله - جل وعلا -: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾آل عمران: 159، وأمر الله تعالى المؤمنين على وجه العموم بمبادرة العفو والصفح فقال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾النور: 22.
والآيات النادبة للعفو والحاثة عليه آيات كثيرة في كتاب الله - عز وجل -، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ذلك أن الله تعالى قال فيما يتعلق بالعفو العام عن كل إساءة في سورة النساء قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾النساء: 149 ذكر الله تعالى عمل الخير ظاهرًا وخفيًّا ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ أي: تتجاوزوا عن إساءة المسيئين سواء كانت الإساءة تتعلق بالدماء، أو كانت الإساءة تتعلق بالأعراف، أو كانت الإساءة تتعلق بالأموال، أو كانت الإساءة تتعلق بالظلم بالبغي أو بالاعتداء أو بمنع الحقوق؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾النساء: 149؛ فإن الله - عز وجل - بيَّن في هذه الآية عظيم الأجر المرتب على العفو في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ والإشارة إلى هذين المعنيين من أسماء الله - عز وجل - لبيان أن العفو يقابَل بمثله من الله - عز وجل -، وأن من عفا عن الناس أدرك من الله عفوًا وأدرك من الله جزاءً وعطاءً بنظير ما عمل به الخلق.
ولهذا من المهم أن يستحضر أن الإساءات الموجهة للإنسان فيها خيارات بيَّنها الله - عز وجل - في كتابه بيانًا واضحًا؛ قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾الشورى: 40 ثم قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾الشورى: 40 ثم قال: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ثم ذكر الله تعالى في الإساءة الحاصلة من الناس والموجهة للشخص سواء كانت في دم أو في مال أو في عرض أن للإنسان فيها ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى:- العدل وهو مقابلة الإساءة بمثلها؛ قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾الشورى: 40.
المرتبة الثانية:- العفو؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾الشورى: 40.
المرتبة الثالثة:- الظلم؛ وهو مقابلة الإساءة بما لا يجوز؛ إما بأكثر منها أو بمثلها إذا كانت محرمًا؛ كأن يقذف الإنسان شخصًا مثلًا بتهمة هو منها بريء فيقابلها بمثلها فيقول مثلًا: يا سارق، أو يا زاني؛ لأن هذه أوصاف لا يجوز إطلاقها في مقابلة من أطلقها عليك؛ لأنه لا يجوز مقابلة الظلم بالظلم، ولا المحرم بالمحرم، ولا الشر بالشر.
إنما تقابل الإساءة بمثلها إذا كانت مثلها؛ كأن يعتدي على مالك فتأخذ من ماله نظير ما أخذ من مالك، أن يسبك في شخصك بما لا يتضمن ممنوعًا شرعيًّا كالقذف فتسبه بنظير ذلك، كأن يشبهه بحيوان مثلًا أو يقول: يا غبي أو نحو ذلك، فيقابلها بمثلها؛ فهذا يدخل في: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾الشورى: 40.
أما إذا كانت الإساءة مما لا يجوز أن تقابل بمثلها فهذه تكون من الظلم؛ ولهذا ذكر الله تعالى في الإساءة ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى:- العدل.
والمرتبة الثانية:- الفضل.
والمرتبة الثالثة:- الظلم.
فالعدل ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾الشورى: 40، والفضل ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾الشورى: 40، والظلم ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾الشورى: 40 وقد أمر الله تعالى بأخذ العفو في معاملة الناس فقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾الأعراف: 199 هذه الآية جمعت مكارم الأخلاق وطيب الخصال على نحو لا يشذ عنه خلق فاضل.
فأمر الله تعالى بأخذ العفو، والعفو هنا يشمل أخذ ما تيسر من أخلاق الناس وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، والتجاوز والإغضاء والإعراض عما يمكن أن يكون من إساءتهم، وأمر بالعرف وهذا أمرٌ بالمبادرة إلى طيب العمل في القول والمعاملة، والإعراض عن الجاهلين تحقيق لمعنى العفو لعدم مقابلة ممارسة الجاهلين بمثلها، هذا ما بيَّنه الله - عز وجل - في هذه الآية الكريمة.
الآيات الكريمات في كتاب الله - عز وجل - ندبت أهل الإيمان إلى كل فضيلة وحثَّتهم على كل ما يكون سببًا لطيب المعاش؛ فإن العفو فضيلة كبرى في معاملة الخلق، وهذا لا يقتصر على ما يكون ممن يوافقك في الدين بل حتى في معاملة المخالف في الدين ندب الله تعالى إلى العفو؛ في سورة المائدة يقول الله تعالى في سياق ما أخبر به عن بني إسرائيل قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾المائدة: 13 كل هذا بيان لخصال واجه بها هؤلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء، قال: ﴿وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ ثم قال: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾المائدة: 13 أي: إلا فئة قليلة تفي بالعهد.
ثم بعد أن ذكر هذه الخصال التي فيها اعتداء وتجاوز وبغي وظلم؛ قال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾المائدة: 13 فأمر الله تعالى بالعفو مع مخالفة الدين فيما إذا كان ذلك مما يحقق الإحسان للخلق والخير في التعامل معهم.
ولذلك قال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾المائدة: 13 وزاد الأمر تأكيدًا في الصفح، والصفح عدم الالتفات إلى الزلات وإلى الخيانة وإلى ما كان من سيئ العمل؛ فهو زائد على مجرد المحو؛ لأن العفو ترك العقوبة لكن الصفح تجاهل الإساءة ونسيان سوء المعاملة؛ ولهذا قال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾المائدة: 13 فأمر بالعفو والصفح، العفو محو وترك مؤاخذة وعقوبة، والصفح نسيان وتجاهل وتغافل عما كان من سيئ العمل، ثم بعد ذلك قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾المائدة: 13 هذه إشارة إلى أن هذه المعاملة هي مما يندرج في الإحسان الذي يحبه الله - عز وجل - ويجزي عليه أعظم الجزاء.
ولهذا كانت القاعدة أن العفو من الإحسان، وهو مأمور به في معاملة كل إنسان في الأصل سواء كان قريبًا أو كان أجنبيًّا عن الإنسان ليس بينه وبينه قرابة أو كان موافقًا في الدين أو مخالفًا في الديانة، ومما يؤكد هذا المعنى أن الله - عز وجل - ذكر في صفات من أعد لهم جزيل الإحسان وعظيم المن قال - جل وعلا -: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾آل عمران: 134 ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أنه يحب المحسنين بعد أن ذكر خصالًا من الإنفاق في السراء والضراء، وهذا نافع للخلق، ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ وهو من يمسك نفسه في ساعة الغضب فلا ينفذ ما تقتضيه الانفعالات الغضبية من قول أو معاملة، يعني سواء كان في القول بالسباب أو الكلام أو في المعاملة بالبطش أو نحو ذلك.
ثم ارتفع الأمر إلى مرتبة أعلى من الكظم؛ وهو العفو فقال: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾آل عمران: 134 وتبين بهذا أن كل هذه الخصال من الإحسان؛ فكظم الغيظ والعفو عن الناس هو إحسان من الإنسان لنفسه، وإحسان من الإنسان لغيره، والله تعالى يحب المحسنين ويجزيهم على إحسانهم نظير ما كان من صالح عملهم كما قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾الرحمن: 60 ولهذا آيات الكتاب الحكيم جاءت آمرةً بالعفو مطلقًا ثم جاء النص على العفو في مواطن عديدة في حقوق مختلفة، فجاء العفو عن أهل الكفر المعاندين الذين يسعون في الإضرار بأهل الإسلام والنيل منهم، ثم جاء العفو عن حقوق خاصة كالعفو عما يكون بين الأزواج من حقوق ومترتبات مالية بسبب العقد؛ كما قال الله تعالى في العفو عن المهر وفي حال الفراق بين الزوجين قبل تمام العقد كما في حال تنصيف المهر؛ فجعل الله تعالى من بيده العقد مندوبًا إلى العفو عما يكون من حقوق مالية بين الزوجين، وندب إلى عدم نسيان الفضل بين الأزواج، وهذا ندب إلى أن يكون الأزواج على سموٍّ في الأخلاق بالبعد عن كل ما يكون من أسباب الشقاق وسوء الفراق؛ لأن الله تعالى أمر أهل الإسلام بجميل المعاملة وطيب العشرة وكريم الفراق: ﴿فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾البقرة: 229.
ومثله أيضًا العفو عن أعظم الجنايات فيما يتعلق بجناية القتل؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى﴾ ثم قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾البقرة: 178 أي: من أخيه المقتول، من حقه ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾البقرة: 178 وهذا ندب إلى أن يبعد الإنسان عن الأخذ واستيفاء الحقوق على وجه الكمال، فكان العفو في هاتين السورتين عن حقوق خاصة؛ عن الحق في الدم في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ وفيما يتعلق بالحقوق المترتبة على عقد الزوجية؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾البقرة: 237 فحث الطرفين؛ الزوج والمستحق للمال وهو الزوجة، إذا حصل فراق قبل الخلوة والمساس أن يعفوا، وبيَّن أن العفو أقرب للتقوى؛ أي: يدني الإنسان من خصال التقوى ومن خصال البر ومن خصال الإحسان؛ ثم قال: ﴿وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾البقرة: 237؛ ولذلك القرآن مليء بما يكون من الندب إلى أوجه الإحسان المختلفة سواء كانت هذه في الحقوق الخاصة أو في الحقوق العامة وفيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الموافق أو المخالف.
إلا أنه ينبغي أن يلاحظ أن العفو في كتاب الله تعالى نص فيه الله - عز وجل - على ملاحظة معنى مهم؛ وهو ألا يكون العفو موجبًا لفسادٍ؛ لأن المقصود من العفو الإصلاح، المقصود من العفو الإحسان، المقصود من العفو رأب الصدع واستقامة الحال، فإذا كان العفو يأتي بنتيجة عكسية، يأتي بخلاف ما هو مطلوب؛ ففي هذه الحال يكون العفو غير مأمور به ولا مندوب إليه؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾الشورى: 40.
هذه الآية الكريمة ذكرت العفو وندبت إليه، لكن ذلك لم يكن مطلقًا في كل عفو، إنما في العفو الذي ينتج عنه مطلوب من مطالب الشرعية؛ وهو الإصلاح والإحسان؛ ولذلك شرط الله في العفو الإصلاح فيه، وهذا يدل على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو به ولا يفضي إلى مصلحة بل يأتي بنقيض ذلك فالعقوبة هنا أولى من العفو.
ومثال ذلك: إذا كان العفو عن الجناية مثلًا، سواء جنايةً خاصةً أو عامةً، يترتب عليها مزيد إفساد وإغراء بالشر والفساد والمضارة؛ ففي هذه الحال يقال للشخص: استوفِ حقك ولا تعفُ؛ أولى من العفو الذي يترتب عليه فساد.
ولهذا العفو المندوب إليه والمأمور به هو ما كان محققًا للإصلاح، طبعًا أحيانًا الإنسان قد يتردد: هل يترتب على العفو إصلاح أو لا يترتب عليه إصلاح؟ الأصل هو الندب إلى العفو، هذا هو الأصل، بمعنى أنه يندب الإنسان إلى أن يعفو؛ ولذلك جاءت الآيات آمرة بالعفو، لكن عندما يتبين له ويتضح له أنه إن عفا كان هذا موجبًا للاستطالة والزيادة في الشر والفساد من المعفو عنه من الجاني سواء كانت جنايةً على نفس أو على عرض ففي هذه الحال يقال: العفو في هذه الصورة غير مندوب إليه غير داخل فيما جاءت فيه النصوص من الإحسان بالعفو؛ لأن العفو في هذه الحال يفضي إلى مضرة.
مثال ذلك: أحيانًا في الحوادث المرورية يحصل حادث، وقد يتدخل الأطراف لمسامحة المتجاوز، فيقال: الأصل الندب إلى العفو، لكن عندما يكون العفو مغريًا للطرف المخطئ في أن يكرر هذا الحادث المروري، يقول: أنا أقطع الإشارة وإذا حصل حادث سيعفو عني الناس ويأتي من يتوسط للعفو عني.
قيل له: لا، في هذه الحال لا تعفُ؛ لأن العفو في هذه الحال مفضٍ إلى مفسدة، وهو إغراء من عفي عنه في مثل هذه الحال بمزيد إساءة، بمزيد خطأ، العفو إنما يقصد به الإصلاح؛ ولذلك قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾الشورى: 40 فإذا كان المتجاوز الذي وقع منه الخطأ وترتب على خطئه الحادث، إذا كان نادمًا وأظهر الحسرة على ما وقع وما إلى ذلك مما يكون من بعض من يتجاوز في مثل هذه المواقف فيقال: هنا الأصل العفو، والعفو أعظم أجرًا عند الله - عز وجل - من استيفاء الحقوق.
إذًا؛ خلاصة ما دلت عليه الآيات الكريمات أن العفو فضيلة وخصلة مندوبة على وجه العموم لكل صاحب إساءة سواء كانت الإساءة متعلقةً بالمال، سواء كانت الإساءة متعلقةً بالنفس بالجناية عليها، أو متعلقةً بالعرض.
ثم بعد ذلك ينبغي أن يلاحظ المشتغل بالعفو أن عفوه يكون سببًا للإصلاح؛ فإنه يكون في هذه الحال مندوبًا إليه ومأمورًا به.
هذا ما يتعلق بما جاءت به الآيات فيما يتصل بهذا الخلق العظيم وهذه الخصلة الكريمة وهي خصلة العفو.
المقدم: فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن العفو أيضًا في سنة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، النصوص، الأحداث التي وقعت من النبي عليه الصلاة والسلام، العفو في سنَّة نبينا الأكرم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الشيخ: العفو خلق قرآني عظيم بيَّن الله - عز وجل - فضله وندب إليه، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترجمان القرآن، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم إمام الهدى الذي يؤتسى به ويُقتدَى في دقيق الأمر وجليله وصغيره وكبيره، فالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان أكمل الناس خلقًا كما ذكر الله تعالى في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾القلم: 4 وبيَّنت عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن لما سألها رجل عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»[مسند أحمد:ح24601، وصححه الألباني في صحيح الجامع:ح4811] وهذا بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يترجم القرآن في معاملته وفي سائر ما يكون منه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا عن هدايات القرآن في معاملة الناس وفيما يكون من أحوالهم.
لذلك كان - صلى الله عليه وسلم - من سماته الأصيلة وأخلاقه الكريمة - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يغضب لنفسه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل كان يغلِّب الصفح والعفو والتجاوز في معاملته للناس صلوات الله وسلامه عليه، حتى إنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - ينتقم لنفسه، وهذا تأكيد لمعنى العفو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان فيما يتعلق بحقوقه يعامل بالعفو.
ولكن إذا انتهكت محارم الله كان - صلى الله عليه وسلم - يستوفي حق الله - عز وجل - غضبًا له وغيرةً على حدوده واشتغالًا بحقه جل في علاه، فكان - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بنفسه لا ينتقم، عائشة تقول: «ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خادمًا ولا امرأةً ولا دابةً ولا شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله» ثم قالت: «ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه»، أي: لم يُعهد عنه أنه ثأر لما وُجِّه إليه، لم يقابل الإساءة بمثلها «ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه»، لكن فيما يتعلق بحقوق الله - عز وجل -: «إلا أن تُنتَهك محارمُ الله، فإذا انتهكت محارمُ الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله - عز وجل«-[صحيح مسلم:ح2328/79]
وعادةً مع طول المعاشرة وطول المعاملة لاسيما مع من يكون تحت يد الإنسان من ولد أو خادم أو نحو ذلك يجري نوع من التجاوز؛ فقد يظهر من الإنسان نوع من المؤاخذة والمعاقبة على ما يكون من الإساءة.
النبي - صلى الله عليه وسلم - خدمه أنس بن مالك وهو صغير عشر سنين؛ يقول أنس: «فما قال لي: أُفٍّ قط» ما صدر منه تأنيب لفظي لأنس طيلة هذه المدة من الخدمة، وأنس صغير، والصغير يتوقع منه حصول ما يكون من أسباب المعاقبة والمؤاخذة، لكن مع هذا يقول أنس: «خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لِـمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِـمَ لم تفعله؟»[صحيح البخاري:ح6038]، وهذا في تصرفه ومعاملته التي تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم-.
ولم يقتصر هذا على ما يكون من نفسه بل حتى من أهله، يقول أنس رضي الله تعالى عنه فيما يتصل بما يكون من أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وكان بعضُ أهله» يعني أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا عاتبوني على شيء» يعني لاموني على شيء إما تقصير أو فعل ما لا ينبغي «يقول -صلى الله عليه وسلم – لهم: دعوه» يعني لا تلوموه ولا تعاتبوه «فلو قُدِّر شيءٌ لكان».[أصل الحديث عن البخاري، وهذه الزيادة عند أحمد في المسند:ح13418 وإسنادها صحيح]
هذا البيان الكريم منه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الخصلة ترجمة عملية للعفو عن الحقوق والتجاوز عنها، وترجمة لقول الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾الأعراف: 199،وهذا لا يعني ألا يقوِّم الخطأ ولا ينبه إلى مكارم الشيم والأخلاق وينصح الناس لما هو أولى، لا، أبدًا، العفو لا يستلزم الإقرار على الأخطاء، إنما العفو هو ترك المعاقبة، ترك المؤاخذة، لكن التقويم هو من حق من وقع في خطأ أن ينصح «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة»[صحيح مسلم:ح55/95] كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-.
فكون الإنسان يوجِّه إلى الأكمل إلى الأحسن هذا لا يدخل فيما نتكلم عنه مما يتعلق بالعفو، فالنبي -صلى الله عليه وسلم - على سبيل المثال في معاملته لصغيرٍ قعد بين يديه - صلى الله عليه وسلم - فجاء ليأكل من الصحفة التي كان يأكل منها - صلى الله عليه وسلم -، فطاشت يده في الصحفة؛ أي: صار يأكل من الصحفة في غير الموضع الذي يليه ويقرب منه، فوجَّهه النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً إلى ما ينبغي أن يكون عليه من ملاحظة الطعام، ولم يكن هذا تأنيبًا ولم يكن هذا خارجًا عما ينبغي من العفو.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلامًا في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم -» يعني في رعايته وتحت تربيته؛ لأنه ابن زوجته أم سلمة رضي الله تعالى عنها، يقول: «وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَة» يعني ما تستقيم، تأكل يمينًا ويسارًا، مما يليه ومما يلي غيره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»[صحيح البخاري:ح5376] فوجَّهه -صلى الله عليه وسلم - إلى ما ينبغي أن يراعى، ولم يكن هذا خارجًا عما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من العفو.
فهذا تنبيه مهم؛ لأن بعض الناس قد يفهم من كلام أنس - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: أفٍّ قط، ولم يقل لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم يفعله لِمَ لم تفعله؟ أن هذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - إغفالًا للتوجيه الحسن والتقويم، بل كان هذا إسقاطًا لحق شخصي بعدم المؤاخذة وعدم المعاتبة وعدم المعاقبة على ما يكون من إساءة وتقصير.
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجِّه، وقد بيَّنت عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه فيما يتعلق بحقوق الله يبين ما ينبغي أن يكون فقالت: «وما نِيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تُنتهك محارمُ الله»[سبق] فإن ذلك يبين ما ينبغي في حقوق الله - عز وجل-.
العفو جاءت النصوص ببيان فضله وشريف منزلته في كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ ففي الصحيح من حديث أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا»[صحيح مسلم:ح2588/69] وهذا تنبيهٌ لمانع من موانع العفو أن الشيطان قد يدخل على الإنسان مدخلًا يمنعه من العفو، وهو أن يصور في ذهنه أن العفو ضَعفٌ وأن العفو ذلٌّ، وهذا خلاف الحقيقة؛ فالعفو سموٌّ، العفو قوة، العفو عاقبته عزة؛ ولذلك قال: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» أي: إلا امتناعًا؛ لأن العز يقتضي أمرين:
الأول: امتناعه من أن تبلغه إساءة.
والثاني: أنه ظهور على من اعتدى عليه وانتصار على من تجاوز في حقه.
هذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» هذا في العاجل، وأما في الآجل فهو ما رتَّبه الله تعالى من عظيم الأجر الذي يناله بالعفو كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾الشورى: 40.
وقد جاء في فضيلة العفو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه يوم القيامة ينادى فيقال: «لِيقُمْ من كان أَجرُه على الله»[الطبراني في الأوسط:ح1998، وضعفه الألباني في الضعيفة:ح1277]، ومن هؤلاء وأوائلهم وأبرزهم من استعمل العفو في معاملة الخلق واستحضره في معاملة الناس؛ لهذا من المهم أن ندرك هذا المعنى وأن نسعى جهدنا في أن نترجمه في معاملتنا وفي أخلاقنا وفي ممارستنا لشئون حياتنا.
نظريًّا قد يظهر سمو العفو، لكن يظهر ذلك جليًّا وبيِّنًا فيما إذا كان الإنسان ممارسًا لذلك في العمل، ممارسًا لذلك في التعامل مع الخلق.
ولهذا أوصي نفسي وإخواني بترجمة هذا إلى واقع عملي ونحتسب الأجر عند الله - عز وجل -.
طبعًا النفوس قد تشحُّ بذلك وقد ترغب في أن تستوفي حقها، لكن المؤمن الذي يدرك أن ما عند الله خير وأبقى وأن ما عند الله - عز وجل - أجل وأعلى، وأن ما عند الله - عز وجل - أكرم وأوفى؛ فإنه سيترك ما يكون من حقه رجاء ما عند الله - عز وجل-.
طبعا أحيانًا تأتي عوارض وموانع نفسية فيما يتعلق بالعفو، ولكن يزول كل هذا عندما يتعامل الإنسان مع الله؛ ولهذا معيار السعادة في معاملة الناس وفي إدراك كريم الفضائل وعالي الشيم أن يعامل الإنسانُ اللهَ - عز وجل - في الخلق؛ بمعنى أنك عندما تعفو لا تنتظر من المعفو مقابلًا ولا من الناس أجرًا، إنما ترجو ذلك من الكريم المنان الذي يعطي على القليل الكثير، فمَن عامل اللهَ في الخلق فاز وسعد واطمأن وارتاح؛ لأنه لا ينتظر من الناس مقابلًا، إنما ينتظر من الله تعالى المثوبة والأجر، وسيدرك ذلك عاجلًا وآجلا، عاجلًا بالعز والطمأنينة والانشراح، وآجلًا بما يكون من عظيم الأجر المرتب على العفو بين يدي الله - عز وجل-.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى من الخصال والأعمال الظاهرة والباطنة.
المقدم: اللهم آمين، فضيلة الشيخ لم يتبق معنا وقت كثير جدًّا، أودُّ أن نتحدث عن شرط العفو، وهو الإصلاح، في بعض الأحيان فضيلة الشيخ في العفو عن بعض الأمور المادية مثلًا المالية قد تجعل المعفو عنه يتمادى في أكل حقوق الناس مثلًا.
الشيخ: نعم، هذا الذي ذكرت واقع؛ وهو أن بعض الناس العفو يغريه بمزيد إساءة، العفو يشجعه على مزيد أذى، العفو يوقعه في كبير تجاوز، والمعالجة في مثل هذا أن يراعى ما ذكره الله تعالى في العفو؛ قال تعالي: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾الشورى: 40 وهذه المرتبة الأولى، وهي مرتبة العدل، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾الشورى: 40 هذه المرتبة الثانية وهي مرتبة السمو في التجاوز والصفح ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، وهذه المرتبة الثالثة، وهي الوقوع في التجاوز في مقابلة الإنسان الإساءة بما لا يجوز أن تقابل به، ثم تفعيل هذا المعنى يحصل به كبح للنفس عن زيادة في الشر والفساد؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يعتني بهذا المعنى، وهو أن يتلمس في العفو تحقيق المقصود الشرعي؛ فلذلك ينبغي أن يلاحظ هذا المعنى؛ أنه عند العفو ابحث عن هل سيتحقق بالعفو مصلحة أو لا؟ إذا كان الإنسان أحيانًا قد يلتبس عليه، ما يدري، وهذه قضية مهمة لا يعرف هل سيحصل له مطلوبه بالعفو والإصلاح أو لا؟ ففي هذه الحال الأصل العفو، يعني أحيانًا يقول: والله ما أدري، أنا لو عفوت عن الرجل أو عمن أساء إليَّ قد يكون هذا سببًا للإصلاح وقد لا يكون سببًا للإصلاح، نقول: الأصل العفو، لكن إن تحقق أو غلب على ظنك أن العفو سيفضي إلى مفسدة فهنا اعلم أن العفو ليس مأمورًا به ولا مندوبًا إليه؛ لأن الله لا يأمر إلا بالخير ولا يأمر إلا بالإحسان، ولما يكون العفو مغريًا للشخص لمزيد إساءة ومزيد اعتداء فلا يكون العفو مأمورًا به، وهنا يعني ينبغي أن يعلم أن العفو يدخل في كل الحقوق سواء كانت الحقوق المتعلقة بالأموال، أو الحقوق المتعلقة بالدماء، أو الحقوق المتعلقة بالأعراض، وعندما يكون الحق مما يتعلق بالله ويثبت به حق الله - عز وجل - بأن يرفع فيه إلى جهات الاختصاص ويقضي فيه القاضي بقضاء كحق، مثلًا الحدود، فهنا الحدود إذا ثبت فيها الحق الذي لله بحكم شرعي فليس لمن له الحق أن يعفو.
وقد حصل هذا؛ أن رجلًا سرق من صفوان بن أمية -رضي الله تعالى عنه- رداءه، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - به، فلما شرع النبي في إقامة الحد عليه، حد السرقة، عفا عنه صفوان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «هلَّا كان هذا قبل أن تأتيني»[سنن أبي داود:ح4394، وصححه الالباني في إرواء الغليل:ح2317] ففي بعض الحقوق العفو لا يكون نافذًا، وذلك فيما يتعلق بالحدود؛ ولهذا ينبغي أن يعرف حكم العفو وموضعه وأنه يحقق الإصلاح وألا تسقط به حدود الله - عز وجل - بعد ثبوتها.
المقدم: شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على إثرائك لهذه الحلقة، وعلى ما أجدت وأفدت به.
الشيخ: شكرًا لكم، وأسأل الله أن يرزقني وإياكم البر والتقوى، وأن يعفو عنا الخطأ والزلل، ومن عَفَا عفا الله عنه.
وفَّق الله الجميع لما فيه الخير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.