إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعيِنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلِّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدينِ
أما بعد:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، عامِلوُهُ بما تُحِبُّونَ أَنْ يُعامِلَكُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِليْهِ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِراعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ ذِراعًا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ باعًا، وَمَنْ أَتاهُ يَمْشِيِ أَتاهُ هَرْوَلَةً، وَاللهُ يُحِبُّ المحْسِنيِنَ.
وَإِنَّ مِنَ الإِحْسانِ أَنْ يَكوُنَ العَبْدُ ذا عَفْوٍ، وَصَفْحٍ، وَتَجاوُزٍ، وَغُفْرانٍ فَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ نَدَبَ عِبادهُ إِلَىَ العفْوِ وَالصَّفْحِ وَالتَّجاوِزِ وَالمغْفِرَة، قالَ اللهُ تَعالَىَ لِرسوُلِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ آل عمران:159 . وَنَدَبَ جَلَّ في عُلاهُ إلَىَ العَفْوِ عَنِ المسيءِ مَهْما بِلَغَتْ إِساءَتُهُ، قالَ اللهُ تَعالَىَ في القَتْلِ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ البقرة:178 ، وقال في النيل من الأعراب: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ النور:22 ، وقد قال جل في علاهُ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الشورى:40 .
فَجَعَلَ اللهُ تَعالَىَ المراتِبَ ثلاثَةً:
- المرتَبَةُ الأوُلىَ: مَرْتَبَةُ المجازاةِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ العَدْلِ، قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ الشورى:40 .
- وَالمرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْتَبَةُ الفَضْلِ وَهِيَ التَّجاوُزُ وَالصَّفْحُ، قالَ تَعالَىَ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ الشورى:40 .
- والمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: التَّجاوُزُ بَالبَغْيِ وَالعُدْوانِ عَلَىَ مَنْ أَساءَ وَهُوَ الظُّلْمُ، وَقَدْ قالَ تَعالَىَ فيهِ: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ الشورى:40 .
فَانْتَقِ يا عَبْدَ اللهِ لِنَفْسِكَ أَعْلَىَ المراتِبِ، وَأَجْمَعَ الفَضائِلِ، وَهِيَ العَفْوُ فَإِنَّهُ قَدْ نَدَبَ إِلَيْهِ، وَتَكَفَّلَ بِأَجْرِهِ قالَ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ الشورى:40 . أَمَرَ اللهُ تَعَالَىَ بِالعَفْوِ عامَّةً فَقالَ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ الأعراف:199 ، وَقالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ آل عمران:134 ، وَقالَ سُبْحانَهُ في خِطابِ رَسوُلِهِ مَعَ أَهْلِ الكُفْرِ وَالعِنادِ مِنَ اليَهوُدِ وَأَضْرابَهُمْ: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ المائدة:13 ، ثُمَّ قالَ تَعالَىَ: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ المائدة:13 .
فَالعَفْوُ وَالصَّفْحُ مِنْ صُوُرِ الإِحْسانِ الموُجِبَةِ لمحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَوْنِهِ وَتَوْفيِقِهِ، وَعَظيمِ أَجْرِهِ وَكَبيرَ الفَضْلِ الَّذي أَعَدَّهُ لعبادِهِ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ الرحمن:60 ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعالَىَ بِالإِحْسانِ في عَلاقَةِ الإِنْسانِ مَعَ زَوْجِهِ فيما إِذا وَقَعَ خِلافٌ أَوْ وَقَعَ ما يوُجِبُ المخاصَمَةَ، قالَ تَعالَىَ: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ البقرة:237 ، ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ البقرة:237 ، فَنَدَبَ الطَّرفَيْنِ إِلَىَ العَفْوِ لِتَحْقيِقِ الفَضْلِ وَصَلاحِ الحالِ بَيْنَ النَّاسِ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهُ، وَاسْتَعْمِلوُا العَفْوَ في مَعاشِكُمْ، في حقوُقِكُمْ، فيما كانَ مِنْ الدَّماءِ الَّتي بَيْنَكُمْ، أَوْ ما كانَ مِنْ الجناياتِ عَلَىَ الأَمْوالِ، أَوْ التَّعدِّيِ عَلَىَ الأعْراضِ، فَإِنَّ اللهُ تَعالَىَ نَدَبَ إِلَىَ ذَلِكَ وَحَثُّ عَلَيْهِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَبيرَ الأَجْرِ وَعَظيمَ الفَضْلِ.
الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، واعْمُرْ قُلوُبَنا بَمحَبَّتِكَ، وَارْزُقْنا وِلايَتَكَ، وَوَفِّقْنا إِلَىَ الِإحْسانِ في السِّرِّ وَالإِعْلانِ، أَقوُلُ هذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ ليِ وَلَكُمْ فاسْتَغْفِروُهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيمُ.
* * *
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدَ الشَّاكِرينَ، لَهُ الحَمْدُ في الأوُلَىَ وَالآخِرَةِ، وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعوُنَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرَيِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالىَ وَاعْلَموُا أَنَّ ما عِنْدَهُ يُنالُ بِطاعَتِهِ، وَالاسْتِقامَةِ عَلَىَ شَرْعِهِ، وَالمبَادَرَةِ إلَىَ ما نَدَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَدَبَ جَلَّ في عُلاهُ إِلَىَ كُلِّ فَضيِلَةٍ، وَحَذَّرَ مِنْ كُلِّ رَذيلَةٍ، وَرَتَّبَ عَلَىَ الطَّاعَةِ الأَجْرَ العَظيمَ وَالفَوْزَ الكَبيِرَ، كَما رَتَّبَ عَلَىَ المعْصِيَةِ سوُءَ الحالِ وَالمآلِ. فالَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ طاعَتِكَ، وَاسْتَعْمِلْنا فيما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
عِبادَ اللهِ, إِنَّ العَفْوَ الَّذي نَدَبَ اللهُ تعالَىَ إلَيْهِ شاملٌ لِكُلِّ الأَحْوالِ، وَلِكُلِّ الحُقوُقِ، وَمَعَ كُلِّ الخَلْقَ ما دامَ أَنَّ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الِإْصلاحُ. قالَ اللهُ تعالَىَ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ الشورى:40 ، فَبادِروُا إِلَىَ العَفْوِ، وَتَحَقَّقُوا أَنْ يَكوُنَ العَفْوُ مُحَقِّقًا لِلإصْلاحِ، بالِغًا لما تُؤَمِّلوُنَ مِنَ الخَيْرِ في الدِّيِنِ والدُّنْيا في المعاشِ وَالمعادِ.
أَمَّا إذا كانَ العَفْوُ يُغْريِ بَمزِيِدِ اعْتداءِ، أَوْ يوُقِعُ في شَرٍّ وَفَسادٍ فَإِنَّهُ مِمَّا لَمْ يَأْمُرِ اللهُ تَعالَىَ بِهِ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تُعالَىَ بِالعَفْوِ إِذا كانَ إِصْلاحًا في حَقِّ الِإنْسانِ مِنَ القريبِ وَالبَعيِدِ، وَالموافَقَ وَالمخالفِ، وَذاكَ فيما إِذا كانَ إِصْلاحًا يَتَحَقَّقُ بِهِ الخَيْرُ. فَالشَّريِعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصيِلِ المصالحِ، وَالبُعْدِ وَالنَّأْيْ عَنْ كُلِّ المفاسِدِ، فَاتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ وَأَصْلِحوُا ذاتَ بَيْنَكُمْ، وَبادِروُا إِلَىَ العَفْوِ حَيْثُ كانَ إِصْلاحًا، وَمَنْ شَكَّ في العَفْوِ هَلْ هُوَ إِصْلاحُ أَوْ لا؟ فَالأَصْلُ النَّدْبُ إلَىَ العَفْوِ في كُلِّ حالٍ، لَكِنْ عِنْدما يِتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ العَفْوَ لا يَتَحَقَّقُ بِهِ صَلاحُ إِنَّما يَتَحَقَّقُ بِهِ إِغْراءُ بِفِسادِ أَوْ شَرٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ممَّا نَدَبَ إِلَيْهِ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, كانَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ النَّاسِ خُلُقًا، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4 ، وَكانَ خُلُقُهُ القرآنَ فَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ بِكُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصالِ الخَيْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ حِرْصُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىَ العَفْوِ فَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَريمًا فيما يَتَعَلَّقُ بِحقوُقِهِ، «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ»مسلم ح(2328)وَهذا أَنَسٌ بْنُ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالىَ عَنْهُ ـ يخُبْرُ عَنْ خِدْمتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَشْرَ سِنينَ، فَيَقُصُّ أَنَّهُ «صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالَ لَهُ في شَيْءٍ لمْ يَفْعَلْهُ: لمَ لمْ تَفْعَلْهُ؟ وَلا في شَيْءٍ فَعَلَهُ: لمَ فَعَلْتَهُ؟»أخرجه: البخاري ح(3561)، ومسلم ح (2329)بَلْ كانَ يَقْبَلُ مِنْهُ ما جاءَ بهِ مِنْ عَمَلٍ سواءٌ أَنْ كانَ تامًّا أَوْ ناقِصًا؛ وَذاكَ امْتِثالًا لما أَمَرَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ الأعراف:199 ثُمَّ يَقوُلُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ: «خَدَمْتُ رَسوُلَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنينَ فما قَالَ ليِ: أُفٍّ قَطُّ»، أَيْ: لمْ يَصْدُرْ مِنْهُ كَلَمَةُ تَأَفُّفٍ وَهِيَ أَهْوُنُ وَأَسْهَلُ مَا يَكوُنُ مما يُظْهَرُ التَّضَجُّرَ وَعَدَمَ الرِّضا «ما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لِـمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِـمَ لم تفعله؟»أخرجه: البخاري ح(3561)، وَمُسْلِمٌ ح (2329)وكَانَ يقوُلُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عاتَبَ بَعضُ أَهْلِهِ أَنَسًا عَلَىَ ما كانَ مِنْهُ، يَقوُلُ: «دَعُوهُ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ كَانَ»أخرجه أَحْمَدُ ح(13418) بسندٍ صَحيحٍ، وَهذا مِنْ عَفْوِهِ وَتَجاوِزهِ وَصَفْحِهِ، وَهذا لا يَعْنيِ أَنْ لا يُقَوَّمَ المعْوَجَّ أَوْ أَنْ لا يُصوَّبَ الخَطَأُ، بَلْ لابُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ النَّصيحَةِ، لَكَنْ شَتَّانَ بَيْنَ النَّصيحةِ الَّتي يُقوَّمَ بِها الخَطَأُ، وَيُصوَّبُ بها المعْوَجُّ، فَإِنَّ ذلكَ مما يَتَحَقَّقُ بِهِ المصلَحَةُ دوُنَ أَنْ يَثْأَرَ الإِنْسانُ لِنَفْسِهِ.
وَلِذَلِكَ كانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إذا انتهكت محارم الله انتقم لله ـ عز وجل ـ"البخاري ح(3560), ومسلم ح(2328)وَكانَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجِّهُ وَيَنْصَحُ؛ فَالتَّوْجيِهُ وَالنُّصْحُ لا يَتنافَىَ مَعَ العَفْوِ، إِنَّما العَفْوُ أَنْ يُسْقِطَ الإِنْسانُ حَقَّهُ طَلبًا لمرْضاةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَرَغْبةً في عَفْوِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فاللهُ عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ، عَفُوٌّ يمْحوُ الخَطَأَ وَالسَّيِّئاتِ وَيَتَجاوَزُ عَنْها، وَيُحِبُّ ذَلِكَ فِعْلًا مِنْهُ وَمِنْ عِبادِهِ، وَلِذَلِكَ «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا»مسلم ح(2588)فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ العَفْوَ ضَعْفٌ أَوِ انْكِسارٌ أَوْ ما أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ النُّزوُلِ في الأَخْلاقِ فَهُوَ وَاهمٌ؛ فَإِنَّهُ لا يَزْدادُ العَبْدُ بِعَفْوِهِ عَنِ الخُلُقِ إلَّا عِزًّا؛ وَهُوَ الامْتِناعُ مِنْ أَذَىَ الخَلْقِ وَالظُّهوُرِ عَلَيْهِمْ، فالعِزُّ الموْعوُدُ بِهِ مَنْ عَفا هُوَ أَنْ يَمنَعَ اللهُ تَعالَىَ الإِنْسانَ مِنْ أَنْ يَنالَهُ سوُءٌ أَوْ شَرٌ كَما أَنَّهٌ يُظهِرُه عَلَىَ مَنْ عادَاهُ أَوْ كادهُ أَوْ سَعَىَ بِالإِضْرارِ فيِهِ.
فاسْتَعْمِلوُا العَفْوَ في حُقوُقِكُمْ، وَارْجوُا الفَضْلَ مِنَ اللهِ، وَعامِلوُا اللهَ بِكُلِّ فَضْلٍ يُعامِلْكُمْ بِكُلِّ إِحْسانٍ؛ فَهُوَ الكريمُ المنَّانُ الَّذي يُعْطِيِ عَلَىَ القَليلِ الكَثيرَ.
الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، وَاسْتَعْمِلْنا فيما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ منَ الخِصالِ وَالأَخْلاقِ، وَأَعِنَّا عَلَىَ طَيِّبِها لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها لا يَصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها إِلَّا أَنْتَ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُموُرنِا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فيمنْ خافَكَ واتَّقاكَ وَاتَّبعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
الَّلهُمَّ اصْرِفْ عَنَّا كُلَّ سوُءٍ وَشَرٍّ، وَأَعِنَّا عَلَىَ كُلِّ خَيْرٍ وَبِرٍّ، الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا إِلَىَ ما تحُبُّ وَتَرْضَىَ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أَمْرِنا خادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّريِفَيْنِ وَوَليَّ عَهْدِهِ إِلَىَ كُلِّ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَخُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ كُلِّ فَضْلٍ وَهُدَىً، وَسَدِّدْهُمْ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ.
الَّلهُمَّ احْفَظْ هَذِهِ البلادَ وَسائِرَ بِلادِ المسْلمينَ مِنْ كُلَّ فَتَنٍ وَشَرٍّ وَفَسادٍ، الَّلهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَتَنا عَلَىَ الحَقِّ وَالهُدَىَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ مَنْ سَعَىَ بِفَسادٍ أَوْ شَرٍّ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ.
الَّلهُمَّ مَنْ أرادَنا وَأَرادَ المسْلِمينَ بِشَرٍّ فِاجْعَلْ شَرَّهُ وَكَيْدَهُ وَضُرَّهُ في نَحْرِهِ، وَاكْفِ المسْلِمينَ شَرَّهُ يا ذا الجَلالِ وَالإِكرامِ.
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكوُنَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، الَّلهُمَّ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسنَةً، وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عذابَ النَّارِ.
صَلُّوُا عَلَىَ نَبِيِّكُمُ مُحَمَّدٍ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْروُضَةٌ عَلَيْهِ، الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٌ وَعَلَىَ آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَما صَلَّيْتَ عَلَىَ إِبرْاهيمَ وَعَلَىَ آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَميدٌ مجيدٌ.