المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة" والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل الصبحي، ومن إخراج هذه الحلقة الزميل/ خالد الزهراني، وياسر زيدان.
مستمعينا الكرام؛ ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ؛ أهلًا وسهلًا بك، وحياك الله معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ: - مرحبًا بكم، حياكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيةً طيبةً لك أخي وائل وللمستمعين والمستمعات.
المقدم: - حياكم الله فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام في حلقات برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ويسعد بها -بمشيئة الله تعالى- في دنياه وآخرته، من هذه الموضوعات التي سنتحدث عنها سنتحدث عنه في هذه الحلقة حول العلم ومكانته وفضله، وأيضًا مكانته في الشريعة الإسلامية، وكيف ندبنا ديننا الإسلامي إلى العلم والتعلم، وأيضًا سياقات ذكر العلم في الكتاب والسنة، وأيضًا فضل العلم، وكيف أن العلم هو الذي يبني المجتمعات ويرتقي بالأمم.
فضيلة الشيخ ابتداءً نريد أن نتحدث حول العلم؛ عن فضله ومكانته أيضًا في شريعتنا الإسلامية.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح لنا من المعارف والعلوم ما تصلح به دنيانا وما يصلح به ديننا، وما تستقيم به قلوبنا، وتزكو به أخلاقنا وتصلح به أعمالنا.
العلم أساس كل صلاح ونجاح، وليس ثمة نجاح ولا هناك فلاح ولا هناك خير في دين ولا في دنيا إلا ومنشأه العلم، يقابله أن كل فساد وشرٍّ وضرر على البشرية جمعاء وعلى الإنسان منفردًا إنما هو بسبب الجهل.
وقد أشاد الله تعالى بالعلم وبيَّن عظيم منزله في كتابه في آيات كثيرة، لكن الذي تميز به الإنسان فيما يتعلق بهذا أن الله فضَّله على سائر المخلوقات بالعلم؛ فرفع شأنه وأعلى منزلته وبيَّن ما اختصه به من المكانة والمنزلة على أشرف مخلوقاته وهم الملائكة بالعلم؛ فإن الله تعالى عندما أخبر الملائكة بخلق آدم ذكر لهم - جل في علاه - أنه سيجعل في الأرض خليفة، وهذا الخليفة هو أبو البشر آدم عليه السلام، فقالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾البقرة: 30 بناءً على ما علموه من حال المخلوقات التي عمرت الأرض قبل بني آدم، فقالوا تلك المقالة.
فقال الله - عز وجل - في جوابه على الملائكة الذين قالوا ما قالوا؛ قال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾البقرة: 30 ، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾البقرة: 31 ؛ خلق الله آدم وخصَّه بالتعليم للأسماء التي جهلتها الملائكة، فعرض الله - عز وجل - تلك الأشياء على الملائكة فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ﴾البقرة: 31 ، وهي الأشياء التي علَّمها آدم -عليه السلام-: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ُقَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ يعني بأسماء هؤلاء الأشياء التي اختبروا بها ليتبين فضله، ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾البقرة: 32 - 33 .
ثم جاء بعد ظهور الفضل: التكريم، فأمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم تحيةً له على ما خصَّه به من هذه المعارف والعلوم التي تميز بها عنهم: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾البقرة: 34 ؛ الآية الكريمة بيَّنت عظيم ما امتنت به على آدم، على البشرية، على جنس الإنسان من ذكر أو أنثي؛ من هذه العلوم والمعارف التي بها تميز على سائر الخلق؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾الإسراء: 70 ؛ فكرَّم الله آدم، والتكريم أصله العلم والمعرفة.
وقد أخبر الله في كتابه عن امتنانه على بني آدم بالتعليم؛ فذكر تعليم أمور مختلفة؛ قال تعالى في أول سورة أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - : ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾العلق: 3 - 5 فكان مفتاح الرسالة القراءة والإشادة بالعلم، مفتاح الرسالة الخاتمة التي ختم الله بها الرسالات، رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، افتتح الله بها وسيلة التعلم ومقصوده وهو حصول العلم.
يقول الله تعالى لنبيِّه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ﴾العلق: 1 - 2 بعد أن ذكر الخلق ﴿وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾العلق: 3 ثم ذكر من كرمه: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾العلق: 4 - 5.
وعلَّم بالقلم هنا يشمل الامتنان بتعليم الخلق ما يحتاجون إليه من الكتابة، فعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم؛ فأخرج الله تعالى الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئًا وجعل له السمع والبصر والفؤاد ويسَّر له أسباب العلم، فعلمه القرآن وعلمه الحكمة وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم؛ لأن القلم آلة التعلم، وهي التي بها تضبط المعارف وتحاط بها المعلومات وتقيد بها المنافع.
ولذلك ذكر القراءة والكتابة، علَّم بالقلم الذي به تحفظ العلوم وتضبط الحقوق وتتطور البشرية، ولذلك العلم البشري علم تراكمي؛ كل أمة تأتي تسهم نوعًا من الإسهام في التعليم وفي المعارف والعلوم بشتى صورها وصنوفها، ويأتي الذين بعدهم ويبنون على ما كان من علوم مَن تقدَّمَهم، فيكون بذلك العلم وما نتج عنه من معارف تراكميًّا.
فالمقصود أن الله امتنَّ على رسوله وذكَّر رسوله في أول الرسالة بهذه المنة، وهو أنه علَّم بالقلم، والمقصود بالقلم ما تُحفظ به العلوم، الكتابة التي تحفظ بها العلوم وتضبط بها الحقوق، وتكون نائبة مناب الخطاب بين الناس، فإن الكتابة تنوب مناب الخطابة، الآن يكتب الإنسان كلمات ويبعثها سواء عبر وسيلة خاصة أو عبر وسيلة عامة فيبلغ معنى خطابه العالمي بهذه الكتابة التي كتبها، فلله الحمد والمنة الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور، فكان من فضل الله على عباده أن علَّمهم بالقلم.
وذكر أيضًا وجهًا آخر من أوجه التعليم وهو النطق؛ خلق الإنسان وعلمه البيان كما في سورة الرحمن؛ قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾الرحمن: 1 - 4 أي: علمه كيف يبين عما في ضميره، كيف يبين ويظهر ما في فؤاده، فيظهر تلك المعاني التي تدور في خاطره وتعمل في فكره وتسكن في فؤاده وقلبه بكلمات يتبين بها ما يريد وما يقصد وما يصبو إليه.
فذكر الله تعالى التعليم بالقلم، وذكر تعليم البيان، وذكر التعليم لكل شيء في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾العلق: 5 وهذا يشمل كل المعارف كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾النحل: 78، فالله تعالى أخرج الإنسان لا يدرك شيئًا، لا يدرك ولا يقدر، أي: خاليًا من العلم وخاليًا من القدرة، فيسَّر له الأسباب التي يدرك بها المعارف، ودرَّجه في مدارج التمكين والقدرة حتى بلغ ما بلغ من المعرفة والعلم بفضل الله تعالى.
وقد امتن الله تعالى على رسوله على وجه الخصوص - صلوات الله وسلامه عليه - بالتعليم فقال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾النساء: 113 أي: بهذا التعليم وبما منَّ به عليك مما خصك به وميَّزك به على العالمين، وجعل من مهامه -صلوات الله وسلامه عليه- التعليم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾الجمعة: 2 .
والتعليم من أشرف المهام، وبه تتميز البشرية، حتى الحيوان ميَّز الله بين الحيوان المعلم والحيوان غير المعلم.
قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ في الصيد ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾المائدة: 4 فجعل الجوارح وهي الحيوانات التي يصاد بها جعل لها ميزة على غيرها من الحيوان بأن جعل ما تصيده حلالًا مباحًا؛ قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾المائدة: 4 أي: كلوا من هذا الذي علَّمتموه فزكا وشَرُف، فلا يحل أكل صيد الحيوان الجاهل كالكلب أو غيره مما لا يَعرف ولم يُعلَّم؛ فدل ذلك على شرف العلم وفضله ورفيع منزلته؛ حيث جعل صيد الكلب الجاهل ميتةً يحرم أكلها، وأباح صيد الكلب المعلم، وهذا من شرف العلم؛ أنه لا يباح إلا صيد الكلب المعلم.
والمقصود أنه ما من شيء إلا ويشرف بالتعليم حتى الحيوان، فكيف بالإنسان الذي امتن الله تعالى عليه بتعليمه بعلوم لم تتيسر لأحدٍ من الخلق ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾البقرة: 31 علم بالقلم، علم البيان، علم القرآن، وكل هذا مما تدرك به مصالح الإنسان في دينه ودنياه.
هذه المنزلة الرفيعة للعلم في كتاب الله - عز وجل - تُظهر شريف منزلته وسامي مكانته ورفيع قدره، وأن الإنسان إنما يزكو ويشرف ويطيب معاشه وتصلح دنياه وآخرته بقدر ما معه من العلم والمعرفة في أمر دينه وأمر دنياه.
المقدم: فضيلة الشيخ؛ نتحدث حول موضوع العلم وفضله ومكانته في شريعتنا الإسلامية، وكنت أريد أن نتحدث حول العلم وبناء الإنسان، وكيف أن الله - تبارك وتعالى - من عدله ورحمته أنه حتى الكافر الذي لا يؤمن بالله - عز وجل - عندما يبرع في شيء من علوم الدنيا فإن الله - تبارك وتعالى - يعطيه إياه، وهذا فيه رسالة لنا نحن المسلمين لكي نبرع في هذه العلوم، ولكي نعمر الأرض كما وجهنا الله - تبارك وتعالى - وتحت شريعة الله - عز وجل - ، نريد أن نتحدث حول العلم وبناء الإنسان.
الشيخ: أخي الكريم؛ الله - عز وجل - خلق الإنسان ومنَّ عليه بأنواع من المنن وألوان من المنح وصنوف من الهبات والعطايا؛ أشرف ذلك العلم، ولماذا؟ لأن العلم به تُدرك كل الفضائل، قد يعطي الله - عز وجل - للعبد مالًا فيكون وبالًا عليه، وقد يعطيه مكانةً بنسب أو غيره لكن كل ذلك فضلٌ لا يثبت، إلا العلم فإنه مفتاح الفضائل، فبالعلم يزكو الإنسان، بالعلم يدرك الفضائل، بالعلم يعطيه الله - عز وجل - سبق الدنيا والآخرة؛ ولهذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصناف الناس في الدنيا فقال: «إنما الدنيا لأربعة» ذكر - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأربعة في بيانٍ مجملٍ يتبين به أن العلم مُرتَكَز كلِّ فضيلة وطريق كلِّ منقبة، فليس ثمة فضيلة يدركها الإنسان إلا بالعلم، يقول - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٌ رزقَه اللَّهُ مالًا وعِلمًا» أعطاه مالًا، انتبه «وعلمًا»، ثم هذا العلم أثمر ثمرة فقال: «فهوَ يتَّقي فيه ربَّهُ، ويصلُ فيه رحِمَهُ، ويعلَمُ للَّهِ فيهِ حقًّا فَهَذا بأفضلِ المَنازلِ» ما سبب هذا السمو؟ هؤلاء أصناف أربعة، الأول رزقه الله مالًا وعلمًا، ثم عمل في ماله بالعلم الذي أعطاه الله تعالى إياه؛ يتقي فيه ربه، يصل فيه رحمه، يعلم لله فيه حقًّا، هذا بأفضل المنازل.
والقسم الثاني: «وعبدٍ رزقَهُ اللَّهُ علمًا ولم يرزُقهُ مالًا» هذا عنده علم لكن ما عنده مال يترجم هذا العلم فيه إلى عمل؛ بالصدقة والإعطاء، لكن عنده نية «فَهوَ صادقُ النيَّةِ يقولُ: لَو أنَّ لي مالًا لعَمِلتُ فيه بعَملِ فلانٍ فهو بنيَّتهِ فأَجرُهُما سواءٌ» هو بمنزلة ذلك الرجل الذي أعطاه الله علمًا ومالًا، بماذا أدرك الفضيلة هل أدركها بالمال؟ هذا ما عنده مال، لا، عنده علم وعنده رغبة في ترجمة هذا العلم إلى عمل، وهو نيته، بقوله: «لو أن لي مثلَ مال فلان لعملت به مثل ما عمل» فكان بالعلم مدركًا فضل العالم العامل؛ بالعلم والنية الصادقة أدرك فضل العالم العامل.
يقابلهما صنفان، الآن مضى صنفان من الناس، يقابل هذين صنفان أيضًا من الناس بيَّنهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «وعَبدٌ رزقَهُ اللَّهُ مالًا» عنده مال، ولك أن تقيس المال بغيره من النعم التي منَّ الله تعالى بها على الناس «ولَم يَرزُقهُ عِلمًا» فَقَدَ النورَ، فَقَدَ مفتاح الفضائل، قال: «فهو يخبِطُ في مالِهِ بغيرِ عِلمٍ؛ لا يتَّقي فيهِ ربَّهُ ولا يَصلُ فيهِ رحمَهُ ولا يعلَم للهِ فيهِ حقًّا، فهو بأخبَثِ المنازلِ»[سنن الترمذي:ح2325، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»] أدنى المنازل، أسفل المنازل؛ لفقده العلم الذي يثمر النور، يثمر العمل الصالح، يثمر الزكاة، يثمر الانتفاع بهذا المال الذي منَّ الله تعالى به عليه.
قال - صلى الله عليه وسلم - في المرتبة الرابعة: «وعبدٌ لم يَرزُقْهُ اللَّهُ مالًا ولا عِلمًا» فهو فاقد للعلم وفاقد للمال «فَهوَ يقولُ: لَو أنَّ لي مالًا لعَمِلْتُ فيهِ بعمَلِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ فوزرُهُما سواءٌ» هذا ما عنده علم ولا عنده مال، لكن عنده نية سيئة ناتجة عن جهل وعدم معرفة فكان ذلك مبلغًا له في السوء منزلة ذلك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا بأخبث المنازل».
خلاصة هذا الحديث تبين أن العلم مفتاح كل فضيلة، وأنه مفتاح كل رشد، وأنه مفتاح كل خير، به يدرك الإنسان مصالح الدين ومصالح الدنيا؛ ولهذا ذكَّر الله تعالى الأمم السابقة بما ذكَّرهم به من العلوم التي حصَّلوا بها صلاح معاشهم وصلاح دنياهم؛ فثمود من الأمم التي لها منزلة عالية في الإتقان والحضارة والرقي، يقول الله تعالى فيما ذكَّرهم به نبيهم صالح قال: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾ امتن عليهم بالأمن ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ الشعراء: 146 - 147 والجنات والعيون لا يمكن أن تنزل من السماء، هي نتيجة عمل وعلم ومعرفة وتعب ﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ*وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾الشعراء: 148 - 149 فذكر ما مَنَّ الله تعالى عليهم من هذه المنن التي صلحت بها دنياهم فطاب معاشهم وأمنت منازلهم وعمرت بلدانهم، فكان ذلك من منن الله تعالى على الإنسان.
لكن عندما تخلَّف ما به صلاح قلوبهم وصلاح دينهم حلت بهم العقوبات؛ قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾الشعراء: 150 - 152،ذكر الله تعالى العقوبة التي نزلت بهم بعد ذلك.
المقصود أن الله تعالى حتى في الأمم التي جرت معاقبتها ونزل بها ما نزل؛ ذكَّرهم الله تعالى بما ذكَّر من عظيم إنعامه عليهم بما فتح به عليهم من العلوم والمعارف، لكنهم لم يسخِّروا تلك العلوم والمعارف فيما تصلح به قلوبهم وتعمر به آخرتهم.
الله - عز وجل - في كتابه الحكيم ذكر في امتنانه على عباده بالعلم بنوعين؛ العلم الذي تصلح به القلوب وتزكو به الأعمال وتستقيم به الأخلاق، والعلم الذي تصلح به الدنيا ويطيب به المعاش ويدرك الناس به مِن نعم الله عليهم ما يدركون في طيب دنياهم وصلاحها؛ فمثلًا ذكر الله تعالى فيما مَنَّ به على عباده من التعليم ما كان مما أخبر به في تعليمه لداود عليه السلام؛ حيث ذكر فيما علم به داود قال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾الأنبياء: 80 فذكر الله - جل وعلا - أنه علَّم داود نسج الدروع، وهي الآلات التي يُتوقى بها الأسلحة في الحروب، وعَدَّد سبحانه نعمًا على داود في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾الأنبياء: 80 وساس بعلمه من كان تحت يده، فكان ما كان من فتوحات وتمكين في الأرض لم يكن إلا بما فتح الله تعالى من العلوم والمعارف.
لذلك سليمان -عليه السلام- علَّمه الله تعالى منطق الطير، وفتح الله عليه من المعارف والعلوم ما كان بها قد سخَّر الله له من القدرة والملك ما ليس لأحد من بعده؛ ولهذا لما ذكَر ما أراده من نقل عرش بلقيس فقال: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾النمل: 38 - 39 انظر، عفريت، أي: أن عنده قوةً خارقةً امتن الله تعالى بها عليه ومكنه منها ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾النمل: 39 فعنده من القدرة والعلم ما يكون به قادرًا على أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يأتوا إلى سليمان.
لكن هذه القدرة فاقها العلم، هذا عنده قدرة وعنده علم، لكن من كان أعلم ولو لم يكن بمستوى هذا في القدرة فهو أنفع وأمضى؛ ولذلك قال: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ﴾النمل: 40 ما ذكر هنا قدرة بدنية، كقدرة العفريت من الجن، لكن عنده قدرة علمية بها مكَّنه الله من أن ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾النمل: 40 قبل أن يرجع إليك بصرك، يعني في لمح البصر ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾النمل: 40؛ فهنا موازنة بين القدرة والقوة وبين العلم.
العلم مفتاح كل فضيلة وطريق كل سبق؛ ولهذا أنا أقول ونحن في استقبال عام دراسي جديد: يا أبنائي ويا بناتي، على كافة مستويات التعليم، إنما سبقكم، إنما نجاحكم، إنما طيب مستقبلكم، وازدهار مستقبل أيامكم؛ هو بقدر ما معكم من العلوم والمعارف بتوفيق الله - عز وجل -؛ فلذلك ينبغي أن نستحضر هذه العملية التعليمية التي نقبل عليها وهذه الجهود التي تبذلها الدولة في تيسير العلوم للمتعلمين؛ إنما غايتها وغرضها ومقصودها بناء الإنسان، وأن يملك الإنسان مفتاحًا يدرك به كل فضيلة في أمر دينه وأمر دنياه؛ لأن الله لما امتن على عباده في كتابه بالعلم لم يقصر ذلك فقط على علوم الشريعة وعلى علوم الديانة، مع أنها هي الأصل وهي الأساس في تحصيل كل فضيلة، لكن أضاف إلى ذلك أنواعًا من العلوم التي بها يدرك الناس مصالح معاشهم؛ فهذا سليمان -عليه السلام- يذكر ما منَّ الله به عليه وعلى آل داود فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾النمل: 16 فأول ما ذكر من تفضيل الله - عز وجل - وامتنانه هو العلم، وهو المعرفة.
ومثله ما جرى ليوسف عليه السلام؛ فإنه مكَّنه الله فأخرجه من السجن وبوَّأه منزلةً عاليةً رفيعةً في إدارة مصالح الناس في أموالهم عند العزيز، إنما كان ذلك بما فتح عليه من العلوم: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾يوسف: 55 ؛ فذكر خصلتين: الأمانة والعلم الذي به تدرك المصالح.
ولهذا يا إخواني ويا أخواتي ويا أبنائي ويا بناتي؛ من المهم ونحن في مستقبل هذه العملية التعليمية في عام دراسي جديد - نسأل الله أن يجعله عام بركة وخير ونفع للأبناء والبنات وللمجتمع والوطن - أن نحرص على مضاعفة الجهود في التعلم، لا تكن المدارس والعملية التعليمية مجرد تقضية وقت وذهاب ومجيء، فتُفَرَّغ من روحها ومضمونها الذي به تشرف وتعلو وتسمو، وهو الذي نحصله من هذه العملية التعليمية.
ما الذي نرجوا؟ نرجوا من أنفسنا نرجوا صلاح أحوالنا، صلاح قلوبنا، صلاح أعمالنا، صلاح معاشنا صلاح ديننا، صلاح دنيانا، صلاح بلادنا، صلاح وطننا، الارتقاء به، مسابقة الأمم، الآن انظر إلى أمم الأرض ومن ساد فيها وتقدم وبلغ المنزلة العالية في اقتصاده وفي صناعته وفي أسلوب حياته؛ نجد أن الأمم التي تبوأت هذه المنزلة، إنما سبقت بقدر ما معها من العلوم والمعارف.
هناك أمم لا تملك شيئًا من المقدرات والثروات الطبيعية في أرضها، لكنها استطاعت من خلال العلوم والمعارف أن تسبق غيرها من الأمم، ولو كانت تلك الأمم أكثر منها ثروات طبيعية ومقدرات أرضية؛ فلذلك ينبغي أن يُعلَم أنَّ السبق والمضمار الذي هو مضمار التحدي بين الأمم والشعوب هو بقدر ما معها من المعارف والعلوم التي تُدرك بها طيب معاشها وتصلح بها دنياها.
ونحن أهل الإسلام نطلب العلم لأجل صلاح معاشنا ولأجل صلاح معادنا؛ ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا علم أحدكم أن الساعة تقوم وفي يدِ أحدِكم فَسِيلةٌ» وهي من صغار النخل، «إذا علم أحدكم أن الساعة تقوم وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليفعل»[مسند أحمد:ح12981وصححه الألباني في الصحيحة:ح9]، هذا معنى عظيم وجليل وشريف في مواصلة العمل ومواصلة الاجتهاد في إدراك صلاح المعاش، هكذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة» أي: إذا قامت الساعة وهي القيامة «وفي يد أحدكم فَسِيلة» وهي الصغيرة من النخل «فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» أي: يبادر إلى غرسها؛ لأنه بهذا العمل سيدرك أجر ما نواه في قلبه من عمارة الدنيا التي استعمرنا الله تعالى فيها؛ كما ذكر - جل وعلا - في تذكير صالح لقومه حيث قال لما ذكرهم به من إنعام الله تعالى عليهم وما منَّ به عليهم وما طلبه منهم؛ قال: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[هود:61]أي: وجعل عمارتها من مهامكم على أحد التفاسير التي ذُكرت، وعمارتها إنما تكون بإصلاحها وتطييبها ليكون المعاش فيها عامرًا بما تصبو إليه النفوس وتسمو إليه من طيب المعاش.
لهذا أيها الإخوة والأخوات من المهم أن ندرك هذه المعاني، وأن نبادر إلى تصحيح هذه الأفكار لدى أبنائنا وبناتنا، وأن العلم ليس مقصوده وغرضه إمضاء الوقت، ولا مقصوده وغرضه الذهاب والمجيء إلى المدارس للانتقال من مرحلة إلى مرحلة ثم نيل شهادات مفرغة من معناها، هذا كله يحصل، لكن الغرض من هذا كله هو بمقدار ما تحصله من معرفة، بمقدار ما تدركه من علم، بمقدار ما تطيب به من أخلاق، وتتفتق به الأذهان من الأفكار المفيدة، الأفكار البنَّاءة، الأفكار الصالحة التي تُنشئ جيلًا صالحًا ووطنًا راقيًا وأمةً ساميةً بإنتاجها ومشاركتها في النتاج البشري.
هذا هو المقصود من التعليم، وهذا هو الغرض، وبقدر ما تحقق الأمم من هذه المقاصد في التعليم في طيب معاشها وصلاح معادها تدرك سعادة الدنيا وتدرك فوز الآخرة.
المقدم: فضيلة الشيخ؛ في هذا الجزء الأخير، لم يتبق أمامنا وقت طويل جدًّا، نريد أن نتحدث حول أنواع العلوم، وقد ذكرت وأشرت في معرض حديثك قبل قليل إلى أن هناك أنواعًا عديدة من العلوم ندبتنا إليها أيضًا الشريعة الإسلامية غير علوم الشريعة الإسلامية، رغم أنها هي الأساس ومناط التكليف في هذه الحياة الدنيا.
الشيخ: أخي الكريم؛ العلم فنون وصنوف مختلفة، ويمكن تصنيفه وتقسيمه إلى أقسام عديدة وكثيرة، لكن فيما يتعلق بتصنيفه فيما يتصل بعلوم الدين وعلوم الدنيا؛ علوم الدين هي كل العلوم التي جاءت بها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- في تحقيق غاية الوجود؛ الله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾الذاريات: 56 وهذا العلم به تصلح كل أمور الإنسان، يصلح به معاشه ويصلح به معاده، لا يعني هذا أن علمه بعلوم الشريعة سيمكِّنه من الطب وسيمكنه من الهندسة، لا، لكن الشريعة جاءت تندب الإنسان إلى تعلم كل ما ينفعه وكل ما يفيده وكل ما يرفعه وكل ما يحقق له طيب المعاش وينفع عموم البشرية.
وبالتالي علوم الشريعة هي الأساس؛ لكونها مما تصلح به الصلة بين العبد وربه، وكونها المنطلق الذي يحث الناس على طلب العلم ومعرفة سائر العلوم الأخرى؛ ولهذا تبوَّأت منزلةً عاليةً، والأحاديث في ذلك كثيرة: «مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا سهل اللهُ له به طريقًا إلى الجنَّةِ»[صحيح مسلم:ح2699/38]، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: «من يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّههُ في الدينِ»[مسند أحمد:ح2790، وسنن الترمذي:ح2645، وقال: حسن صحيح] والأحاديث في فضل العلم وما يناله السالك للعلم والمتعلم والمعلم كثيرة.
الصنف الثاني من العلوم: العلوم التي تصلح بها الدنيا، وهذه العلوم لا تقل أهمية في صلاح البشرية عن العلوم الدينية؛ لأن الله تعالى أول ما علَّم آدم علَّمه الأسماء كلها، والأسماء هي ما يحتاج إليه من المعارف التي بها يطيب معاشه وتتحقق بها المسئولية التي أناطها الله تعالى به من عبادته والقيام بأوامره جل في علاه؛ ولهذا امتن الله تعالى في كتابه على بعض رسله بتعليم علوم لا علاقة لها بعلوم الشريعة؛ كما قال في داود وسليمان: ﴿وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾النمل: 16 وهذا لا يكون بعلم الشريعة، إنما هذا بما فتح الله تعالى عليه من العلوم التي بها أدرك أسرار منطق الطير وحصل له بها إدراك وسبق بما سخره الله له في قوله: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ص: 35 .
أيضًا امتن الله تعالى على الإنسان بأن علَّمه ما يصلح به بعض أمره كما قال تعالى في شأن الصيد: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾المائدة: 4 ، وهذا في أمر الدنيا وهو أمر كسب وأمر معاش، وكذلك في قصة يوسف حيث علَّمه -جل في علاه- كيف يدير شئون المال في المكان الذي تبوأ فيه منزلةً ساميةً، وكيف يستنقذ أخاه لمَّا جاءه إخوته ومعهم أخوه؛ قال تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾يوسف: 76 إشارة إلى أنه إنما أدرك هذا بما فتح الله تعالى عليه من العلوم والمعارف.
ولهذا يا إخواني ويا أخواتي؛ الإنسان ميسَّر لما خلقه الله تعالى له «كلٌّ مُيسَّر لما خلق له»[صحيح البخاري:ح4949]، فمن فُتح له في علوم الشريعة فليبادر إلى الاستكثار منها، وليعرف شريف ما يشتغل به، مَن فُتح له في علوم الدنيا فليأخذ من علوم الشريعة ما يحقق به عبادة الله في عقيدته وفي صلاته وفي سائر حقوق الله وحقوق الخلق، وليجتهد في العلوم الدنيوية، وليحتسب الأجر في ذلك عند الله - عز وجل -؛ فالأكلة والشربة إذا احتسبها الإنسان انتقلت من كونها عادة إلى كونها أجرًا، فالذي يشتغل بعلوم الطب، بعلوم الهندسة، بالمعارف البشرية التي تصلح بها أمور الناس سواء كان في العلوم النظرية والعلوم التطبيقية، ويحتسب الأجر في سد حاجة الناس ونفعهم؛ فهو مأجور على هذا، بل قد يكون بعضها من فروض الكفايات التي تجب على الناس من أهل الإسلام بالقدر الذي يحققون به كفاية أهل الإسلام في تلك العلوم والمعارف.
ينبغي ألا نحقر شيئًا من العلم، وأن نجتهد فيما يفتح الله تعالى علينا، وأن نحتسب الأجر في ذلك عند الله، وإنما الأمم ترتقي وتسمو بقدر ما معها من العلوم والمعارف التي تُترجم إلى أعمال وإنتاج.
المقدم: الله يعطيك العافية فضيلة الشيخ، شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا على ما أفدت في هذه الحلقة فضيلة الشيخ.
الشيخ: الله يشكرنا وإياكم، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنَّ على أبنائنا وبناتنا وطلابنا وطالباتنا في جميع المراحل بالعلوم النافعة والأخلاق الزاكية والأعمال الصالحة، وأن يرينا في أبنائنا ووطننا من الرقي والاستقرار والأمان والتنمية ما نسر به، وأن يوفق ولاة أمرنا وأن يجزيهم خيرًا على ما يبذلونه من جهود في الارتقاء بالوطن وأهله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.