يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي فِراس رَبِيعةَ بنِ كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ خادِم رسولِ اللَّهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ ومِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ ـ رضي اللَّهُ عنه ـ قال: كُنْتُ أبيتُ مع رسول اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ فآتِيهِ بِوَضوئِهِ، وحاجتِهِ فقال: «سلْني» فقُلْت: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ. فقالَ: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» قُلْت: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ. فقالَ: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» قُلْت: هو ذَاك. قال: «فأَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ» رواه مسلمحديث رقم (489).
حرص الصحابة على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا الحديث الشريف حديث ربيعة بن مالك الأسلمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ وقد عرف المصنف ربيعة بأنه خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان يخدمه جماعة من أصحابه مبادرة منهم، وحرصًا على القرب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم ربيعة، وأنس، وغيرهما، وهو من أهل الصُّفًّة، والصفة جهة في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يجتمع فيها الفقراء من المهاجرين الذين يفدون إلى المدينة حتى ييسر الله ـ تعالى ـ أمرهم فيكون لهم مأوى يأوون إليه.
يقول: «كُنْتُ أبيتُ مع رسول اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ فآتِيهِ بِوَضوئِهِ» يعني الماء الذي يتوضأ منه وحاجته، يعني واقضي شيئًا من حوائجه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «سلْني»، بادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الخادم بمكافأته على خدمته، فقال: سلني يعني أطلب مني ما تحتاج، فقال: «أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ» وهذه مسألة عظيمة بادر بها ربيعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي أن يرافقه في الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، وممن يرافقه صلى الله عليه وسلم.
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» يعني عندك مسألة أخرى غير هذه، وهو يشير بذلك إلى مسائل تقضى لاسيما أنه من أهل الصفة يعني من الفقراء وذو حاجة، وهو ذو حاجة، فقال: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» يعني مسألة حاضرة آنية تقضى بها حاجتك في الدنيا، فقال: هو ذاك يعني ما لي مسألة إلا هذه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: «فأَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ» يعني أعني على أن تبلغ هذه المنزلة التي سألت بكثرة السجود أي بكثرة الصلاة.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، فيه:
- أن خدمة الإنسان مما لا حرج فيه وليس فيه علو على الخلق بل ذاك مما ييسره الله ـ تعالى ـ لبعض الناس إما لعلو منزلته، أو لماله أو لغير ذلك من الأسباب، وأن الخادم ليس مما ينقص، بل هو من العمل الذي يكتسب به الرزق، فلا يمتهن به الإنسان ولا تنزل به مكانته.
- وكذلك فيه الإعانة على الطاعة فإنه كان يأتيه بوضوئه وهو إعانة على الطهارة.
- وفيه أيضًا أن المخدوم يعرض على من خدمه ما تقضى به حاجته مكافأة له، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل: سلني، وفيه أن المسألة إذا كانت معروضة على الإنسان يعني قيل لك: ماذا تريد؟ وش حاجتك؟ ما هي مسألتك؟ فسأل فإنه لا يدخل في المسألة المذمومة، لأن الأصل في المسائل أنها مذمومة، وأنه لا يسأل الإنسان غيره شيئًا، ولذلك بايع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئًا بالكلية، لكن هذا في ابتداء السؤال، أما فيما إذا عُرض على الإنسان أن يسأل، أو له حاجة فلو أبانها لم يكن ذلك من المسألة المذمومة، وإلا لما عرضها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الرجل.
-وفيه سمو وعلو همة هذا الصحابي الجليل، ونحن لا ندري من ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ لكن لا يضر أننا لا ندري ما هو، وما هو تفاصيل سيرته لكن ندري أنه بلغ من سمو الهمة، وعلو الرغبة أن لم يسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا هذه المنزلة العالية، وأجابه إليها صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن إلى الأمة كافة وليس إلى هذا الصحابي فحسب، فبين سببا من أسباب مرافقته في الجنة، فقال: «فأَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ» فكثرة السجود وهي كثرة الصلاة من أسباب مرافقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواء أن كانت الصلاة المفروضة وكذلك الصلاة المتطوع بها، والمقصود بالحديث الصلوات النافلة لأن المفروضة واجبة، لكن في الواجب كثرة السجود فيها هو أن تكون على وفق سنته في الطول، وعدم القصر والخفة فيها على النحو الذي كان يصليه صلى الله عليه وسلم.
فقوله: بكثرة السجود يشمل كثرة السجود في الفرض بأن يكون على نحو صلاته «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وفي النافلة بالإكثار من صلاة النافلة بعد النوافل التي شرعها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكثرة الصلاة.
- وفيه من الفوائد أن المنازل العالية لها أسباب لا تدرك إلا بها، ولذلك قال: «فأَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ».
- والحديث فيه من الفوائد أن العمل من أسباب حصول المراتب، وأن له أثرًا في دخول الجنة وإدراك الفضل، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» ليس المقصود إلغاء العمل، وأنه لا يفيد بل الله ـ عز وجل ـ يقول: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43]، إنما المقصود أن العمل لا يكفي وحده في إدراك تلك المنازل، وتلك الفضائل، والخيرات في الآخرة إلا أن يقبله الله ـ عز وجل ـ برحمته، ويتفضل على العبد بالقول، ولذلك: «إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ».
هذه جملة من الفوائد.
وهنا مسألة وهي أيهما أفضل: كثرة الصلاة مع قصر السجود أم طول السجود؟
الجواب: الأفضل في هذا ما كان عليه عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن طول الصلاة مع الخشوع وحضور القلب أفضل من كثرة عددها مع عدم إتقانها على نحو ما كان يصليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن هذه المسألة مما يرجع فيها إلى صلاح قلب الإنسان، والأمر في هذا واسع، ولذلك إذا زاد في السجود لأنه أصلح في قلبه وأعون للطاعة فهو على خير، ولكن إذا استوى الأمران فطول السجود بكثرته، وطول الصلاة قيامًا وركوعًا وقراءة هو أفضل، وأعلى منزلة فكثرة السجود تشمل طول السجود وطول ما عداه، فالسجود هنا اسم للصلاة.
أفضل الصلاة طول القنوت:
ولذلك أفضل الصلاة طول القنوت أي طول القيام، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قيامه، وركوعه، وسجوده على نحو متقارب، كان قيامه وركوعه وسجوده قريبًا من سواء، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يرزقنا القيام بحقه، وإكثار السجود لنبلغ هذه المنزلة وهي مرافقته صلى الله عليه وسلم في الجنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.