يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي صَفْوانَ عبدِ اللَّه بن بُسْرٍ الأسلَمِيِّ ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: قال رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ: «خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه» رواه الترمذيحديث رقم (2329)، وقال حديثٌ حسنٌ.
بم يتفاضل الناس؟
هذا الحديث الشريف حديث أبي صفوان ـ رضي الله تعالى عنه ـ بيَّن فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ شيئًا مما يتفاضل فيه الناس في الخيرية والفضل، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «خَيْرُ النَّاسِ» والمقصود بالناس هنا أهل الإيمان؛ لأن غير أهل الإيمان لا يكون منهم حسن عمل، إذ إن أعمالهم مهما كانت حسنة فهي كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23]، فقوله: «خَيْرُ النَّاسِ» أي أهل الإيمان، وقد جاء في بعض الروايات: «خيركم»، الخطاب لأهل الإيمان.
طول العمر وحسن العمل:
«مَن طالَ عمُرُه» أي امتدت سنوات حياته، فالعمر هو مدة الحياة، وهي متفاوتة والله ـ تعالى ـ له حكمة فيما ينسأ من الآجال ويمد، وفيما يقصر إلا أن طول العمر خير إذا اقترن بحسن العمل، ولذلك قال: «وَحَسُنَ عملُه» ومعنى حسن العمل أي طيبه وصلاحه، والمقصود بالعمل كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل، وما يضمره في قلبه من عمل، فالعمل ظاهر وباطن، فإذا اقترن بطول العمر صلاح العمل وحسنه كان ذلك خيرًا للإنسان؛ لأن طول العمر عون له على التزود بالتقوى، وهي خير ما يتزود به الإنسان للقاء ربه كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة:197].
الحياة محل الاختبار:
وقد جعل الله ـ تعالى ـ الحياة محلًا للاختبار والابتلاء بحسن العمل ولهذا كان طول العمر مع حسن العمل من أسباب الخيرية والسبق والفضل؛ لأنه يحقق الغاية من الوجود، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2] فمن أحسن العمل فاز بتحقيق غاية وجوده، ومقصود خلقه، فكان في الخيرية سابقًا، وكان في الفضل متقدمًا.
وهنا سؤال: ما المقصود بحسن العمل؟
العمل هو ما يصدر عن الإنسان كما تقدم من قول أو فعل، ومنه أعمال قلبه، فحسن العمل في ذلك أن يكون لله خالصًا، وأن يكون على وفق هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاريًا، فالعمل لا يكون حسنًا إلا إذا اتصف بهذين الوصفين: أن يكون خالصًا لله فلا يقصد به إلا وجهه، وأن يكون على هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا ما يتعلق بحسن العمل، الحسن يتحقق بوصفين: الإخلاص لله ـ عز وجل ـ والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
لكن ما المقصود بالعمل؟
العمل أيها الإخوة هو ما يصدر عن الإنسان من التصرفات، ومعلوم أن الدنيا فيها ثلاثة أمور يتقرب بها العباد إلى الله ـ عز وجل ـ فيها طاعات التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بفعلها، فيها معاصي وسيئات التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بتركها، فيها بلايا، ومصائب، ومكروهات، ونوازل التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بالصبر عليها، وعدم الضجر والجزع من أقضية الله عز وجل.
حسن العمل:
فحسن العمل هو أن يكون الإنسان في الطاعة سابقًا، وأن يكون عن المعصية نائيًا بعيدًا، وفيما يجري من أقضية الله وأقداره صابرًا، فإذا تحقق له هذا كان قد أحسن العمل، والطاعة منها فرض ونفل، والأصل الاجتهاد في الفرائض ثم بعد ذلك التزود بالصالحات، وأما السيئات فلا يعصم منها أحد كل ابن آدم خطاء، فحسن العمل فيها أن تجتنبها أولًا ثم إذا تورطت في شيء منها أن تبادر إلى التوبة والاستغفار «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»سنن الترمذي (2499).
أما المصائب والبلايا فحسن العمل فيها أن تصبر على أقضية الله وأقداره، وأن تحتسب الأجر عند الله وتعلو مرتبتك إذا رضيت، وأعلم أن كل نقص في دنياك يكون زيادة في آخرتك إذا احتسبت وصبرت، وأما إذا لم يصبر الإنسان فإنها عقوبة قد يكفر الله ـ تعالى ـ بها الخطايا، وقد تكون سببا لزيادة الإثم والمؤاخذة.
ولهذا فإن المصيبة إذا صبر عليها الإنسان حطت خطاياه، وإذا أحسن في صبره كانت سببًا لرفعة درجاته.
مسألة: من الناس من يطول عمره لكن يفقد حياته العملية بمعنى أنه تتعطل جوارحه، بعض الناس قد يصاب بجلطة، قد يصاب بفقد للوعي لمدة طويلة، هل هذا يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه»؟
الجواب: نعم يدخل، هذا الذي على سرير المرض لسنوات داخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه»، كيف؟
أولًا هذه مصيبة يكفر الله ـ تعالى ـ بها من خطاياه ويرفع بها الدرجات، ثانيًا أنه ما من عبد يسافر أو يمرض إلا كتب الله ـ تعالى ـ له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا، فهؤلاء المرضى الذي امتدت مدة مرضهم هم على خير من حيث أن الله يجري عليهم أجر ما كانوا يعملونه من الصالحات، إضافة إلى هذا حط الخطايا والسيئات. وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ»صحيح مسلم (2999).
اللهم أجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، وأعذنا من سوء العمل وسوء المنقلب، واجعلنا من حزبك وأوليائك، واستعملنا فيما تحب وترضى سرًّا وإعلانًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.