يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي مسعود عُقْبَةَ بن عمروٍ الأنصاريِّ البدريِّ ـ رضي اللَّهُ عنه ـ قال: لمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنا. فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُراءٍ، وجاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فقالُوا: إنَّ اللَّه لَغَنِيٌّ عَنْ صاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ﴾[التوبة 79] الآية. متفقٌ عليهصحيح البخاري(1415)،وصحيح مسلم (1018).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
تعامل الصحابة مع أوامر الشرع ونصوصه وامتثالهم لها:
هذا الحديث الشريف الذي أخبر فيه أبو مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن حال الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فيما يصلهم من ذكر وقرآن، فإن أبا مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة أي آية ذكر فيها الصدقة والحث عليها، وبيان فضلها وأجرها «كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنا» يعني نعمل لأجل أن نكتسب ما نتصدق به، هذا معنى قوله: «كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنا» يعني الذين لا يجدون ما ينفقون من الأموال صدقة وتقربًا إلى الله ـ عز وجل ـ وامتثالًا لما ندب إليه من الصدقة لم يقولوا: نحن لا شيء عندنا فنجلس، بل كانوا يعملون، يكتسبون وهذا هو الأصل في الناس لأنفسهم ولمن يعولون، لكن زاد اجتهادهم في الكسب لأجل أن يكون معهم شيء يتصدقون به، ويتقربون به إلى الله عز وجل.
لمز المنافقين لأهل الإيمان:
وهذه حالهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ مع القرآن الكريم وما جاء فيه من أمر أو نهي، وحث وندب، إلا أن أهل النفاق لا يتركون أهل الإسلام، لا غنيًا ولا فقيرًا، لا باذلًا ولا ممسكًا أو مقلًا، فهم أصحاب طعن ونيل من أهل الإسلام، منذ العهد الأول ولذلك قال: فكان الرجل إذا جاء بالصدقة من الشيء الكثير قالوا: مراء أي اتهموه بالرياء، وأنه إنما أنفق هذا المال الكثير ليراه الناس، وليثنوا عليه، وليقولوا: كريم، باذل، متصدق، وإذا رجل بشيء قليل حيث جاء رجل بصاع، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صاع هذا، ولا شك أن الله غني عن كل متصدق قليل أو كثير: «إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ»[صحيح مسلم (2577)].
فالصدقة بالقليل وبالكثير الله ـ تعالى ـ غني عنها، وإنما الصدقات والهبات لأجل أن يتقرب بها العبد إلى ربه فينال رضاه، يظهر صدق إيمانه، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»[صحيح مسلم (223)] أي دليل على صدق ما في القلوب، وأما المال وما يبذل فهذا لا يصل منه شيء إلى الله كما قال ـ تعالى ـ: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾[الحج:37]، وكما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه عن ربه: «يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِ« لكن المنافقين لم يقولوا هذا الكلام تأكيدًا للحق الذي تضمنه، بل قالوا هذا الكلام تزهيدًا في الصدقة، وتحقيرًا للبذل، وتثبيطًا عن الخير، فلم يكونوا يحذرون الناس من الرياء أو يرغبونه في الإنفاق الكثير بل كان ذلك لأجل تثبيط الناس عن الطاعة، والصدقة، والإحسان، فأنزل الله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾[التوبة:79] يلمزون أي يقولون مقالة سوء وقبح في أهل التطوع والصدقة والإحسان والبذل والطاعة، ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾[التوبة:79] أي في شأنها، ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾[التوبة:79] يعني والذين ليس عندهم شيء كثير فيتصدقون بما تيسر من قليل، ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾[التوبة:79] هذا بيان اللمز، ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[التوبة:79]، فبين الله ـ تعالى ـ أن المنافقين لا يسلم منهم أهل الإسلام المجتهد منهم الباذل ومن كان دون ذلك، فهمهم وغاية مناهم النيل من أهل الإسلام، فعاقبهم الله بأن جعلهم محلًا للسخرية، وتوعدهم بالعذاب المؤلم الموجع.
عظيم قدر الصحابة:
وفي الحديث من الفوائد عظيم قدر الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فإنهم كانوا يتعاملون مع القرآن تعامل من يعمل به، من يتلقاه ليعمل به، وليس من يتلقاه ليتعبد بتلاوته فقط، بل كانوا يقرئونه ويجتهدون في أن يمتثلوا ما فيه. وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يبذل وسعه في التقرب إلى الله ـ عز وجل ـ ولا يقتصر على أدنى مت يكون بل الذي لا يجد ينبغي أن يبذل الوسع ليجد حتى يبلغ رضا الله ـ عز وجل ـ فالصحابة كانوا يحملون على ظهورهم يشتغلون حمالين؛ لأجل أن يجدوا ما يتصدقوا به رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
الله ـ تعالى ـ يحب اجتهاد عباده في التقرب إليه:
وفيه من الفوائد أن الله ـ تعالى ـ يحب هذا الحال من عباده أن يبذلوا جهدهم وطاقتهم في التقرب إليه، ولهذا أثنى الله ـ تعالى ـ عليهم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾، وفيه أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في مقاصد الناس، أحذر أن تتكلم في نيات الناس ومقاصدهم، المقاصد خفية، والنيات مغيبة لا يعلمها إلا الله ـ جل في علاه ـ فاحذر أن تقول: فلان قصده كذا، فلان يريد كذا، أنت ما كشفت عن قلبه حتى تقول: قصده كذا ومراده كذا، هذه إلى الله ليست إليك، هو الذي يعلم مكنون الضمائر وما تخفيه الصدور، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:19]، جل في علاه، أما نحن ليس لنا إلا الظاهر، فاحذر، احذر، احذر أن تتكلن في نية أحد أو أن تقول: مراده كذا، مقصوده كذا، هذه أمور خفية لا يمكن الجزم بها.
يا إخواني الإنسان قد لا يستطيع أن يحكم قصده ونيته وما في قلبه، يمكن يصيبه أحيانًا تشويش ما يدري ما هو قصده؟ هل قصده كذا وكذا؟ وهي نيته وفي قلبه فكيف في نيات الناس ومقاصدهم.
الحذر من السخرية من صاحب طاعة ولو قلَّت:
وكذلك احذر أن تسخر من صاحب طاعة مهما كانت طاعته زهيدة، فإن الله ـ تعالى ـ لا يعامل العباد على قدر ما يبذلون إنما يعاملهم على قدر ما في قلوبهم من صدق النوايا، وعظيم الإخلاص، واليقين في وعد الله عز وجل. ولهذا مهما كان الشيء قليلًا إذا وافقه نية صادقة كان عند الله كبيرًا، فكم من درهم يعادل مليار، كم من ريال يعادل مليار، الفارق هو ما في قلب الإنسان من نية أو قصد.
فأحسن القصد في القليل والكثير:
ولا تحقرن أحدًا فإن القليل وإن كان في عينك حقير فإنه عند الله جليل وعظيم،﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8]. فيه من الفوائد أن الإنسان لا يتقال شيء في سبيل الله ـ عز وجل ـ فإن الله يعطي على القليل الكثير، فابذل ما استطعت، وأمل من الله العطاء والنوال، فالله ـ تعالى ـ يقبل ما قل وما كثر، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ»، ما هو بتمرة شق تمرة، وانظر الآن التمر ينثر يمين ويسار، شق التمرة من هذا التمر الذي يتساهل فيه الناس عند الله له أجر وهو مما يقي النار «اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ» بجزء التمرة، فلا تبخلن بالقليل وأمل من الله العطاء والنوال.
وفيه انتصار الله لأوليائه:
فإن الله لما ذكر هؤلاء ما ذكروا انتصر... لما ذكر من النفاق والسخرية والاستهزاء بأهل الإيمان انتصر لهم ببيان عظيم ما لهؤلاء من المنزلة عند الله حيث وصفهم بما وصف، وعقوبة الساخرين، واللامزين.
وفيه أن السخرية واللمز من كبائر الذنوب، هذا على وجه الإجمال حتى في أمر الدنيا إذا سخرت من شخص في أمر الدنيا: كتابته ما هو بزينة، ثيابه ما هي بطيبة، بيته ما هو بزين، زوقه ما هو بطيب، فسخرت منه لأمر دنيوي قد أتيت كبيرة من كبائر الذنوب، فإذا كانت السخرية في أمر الدين أمرها أعظم، وخطرها أجل وأكبر سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.
أعاذنا الله وإياكم من كل مسالك الردى، وهدانا وإياكم من كل مسالك الردى، وهدانا وإياكم إلى سبل الطاعة والفضل والإحسان، وجعلنا وإياكم من أوليائه وحزبه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.