نقل الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب المجاهدة:
عن أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ ـ رضي اللَّهُ عنه ـ عن النَّبِيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ ـ تباركَ وتعالى ـ أنه قال: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظالمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أهْدكُمْ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أشرف أحاديث أهل الشام:
هذا الحديث حديث أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله تعالى عنه ـ من شريف الأحاديث وعظيمها حتى قال الإمام أحمد: أشرف أحاديث أهل الشام حديث أبي ذر: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً» ووجهه أن هذا الحديث تضمن خطاب الله ـ تعالى ـ لعباده، وهو خطاب لكافة الخلق، وتضمن بيان معاني جليلة عظيمة، لهذا كان الراوي عن أبي ذر وهو أبو إدريس الخولاني ـ رضي الله تعالى عنه ورحمه ـ وهو من التابعين، كان إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه إجلالًا لما تضمنه من خطاب الرب جل في علاه.
تحريم الظلم:
افتتح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما نقله عن ربه في هذا الحديث الإلهي، الحديث القدسي بقول الله ـ عز وجل ـ: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً» الخطاب هنا لكافة عباد الله من الإنس والجن، من المسلم والكافر، من الذكر والأنثى، خطاب من الله لكل عباده يخبر فيه ـ جل وعلا ـ أنه حرم الظلم على نفسه أي منع نفسه من الظلم سبحانه وبحمده، وهذا فيه التطمين بعباده والبشارة لهم بأنهم لن يبخسوا شيئًا، ولن ينقص من أعمالهم شيئًا، ولن يحملوا ما لا يحتملون من الأوزار والسيئات كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾[طه:112]، لا يخاف ظلمًا أي لا يخاف أن يحمل عليه من عمل غيره شيء، يعني من سيئات غيره ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[فاطر:18]، ولا هضمًا أي لا يخاف أن ينقص من أجر عمله شيء، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾[يونس:44]، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97].
عدل الله عز وجل:
فتكفل لهم بعظيم الأجر وأثبته، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾[آل عمران:195]، وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾[لقمان:16] فالله ـ تعالى ـ لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى دقيق أو جليل، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:8]. فأخبر الله ـ تعالى ـ عن نفسه في هذا الحديث أنه لا يظلم الناس شيئًا، ولهذا كل أحكام الله عدل فيما يتعلق بما يجريه على الناس من الأحكام في دنياهم فهي عدل في الشرع، وعدل وفضل في القدر، عدل في الشرع فالله ـ تعالى ـ أحكم شرعه فليس في شرعه شيء من الظلم، وكذلك في قدره؛ فالعباد يتقلبون في أقدار الله في الدنيا والآخرة بين أمرين:
- بين العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه، ولا يحمله ما لا يكون من عمله.
- وكذلك فيما يتصل بالعمل الصالح فإنه لا يبخسه شيئًا مما عمله من الصالحات.
هذا ما يتصل بأقدار الله، فأقدار الله الناس فيها بين عدل وفضل، العدل هو أن يعطيك حقك، والفضل هو أن يتجاوز عنك ويمن عليك بالعطاء، ولهذا كان من الدعاء: "ماضٍ في حكمك، عدل فيا قضاؤك" يجب أن يوقن الإنسان أن كل ما يجريه الله عليه من الأقضية والأقدار والأحكام الدنيوية والأخروية فهو عدل لا ظلم فيه، «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾[يونس:44]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾[النساء:40]، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[فصلت:46]، ﴿وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾[النساء:77] الآيات في هذا كثيرة الدالة على نفي الظلم عنه.
العبد لا يدري الحكمة مما يظهر له:
بل حتى العقوبات التي وقعت على من وقعت عليه قال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[النحل:118]، فما يجري عليك مما تكره لا تقل: أنا ما استحق، أنا ما استاهل مثل ما يقول بعض الناس عندما يشوف شخص نزل به شيء يقول: ما يستاهل بالنسبة لما نزل من القدر، ما فيه شيء ما يستاهل، لا يعني أن ما نزل به عقوبة حتى يقال: ما يستاهل، قد يكون ما نزل به فضل من الله يبلغه به منزلة عالية في الجنة بصبره واحتسابه، ولهذا كل أقدار الله عدل وفضل، عدل في إعطاء كل ذي حق حقه، وفضل في التفضل على عباده بما يمن عليهم، وهذا في الأحكام الشرعية وفي الأحكام القدرية.
أيضًا بعد أن بين جل وعلا تحريم الظلم على نفسه بعدله، وفضله جل في علاه، بين أنه ينبغي أن يكف العباد عن التظالم «فَلاَ تَظالمُوا» إذا كان الله وهو القدير، وهو الملك، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون منع الظلم على نفسه، وحرمه على نفسه فكيف بعباده!
وهم مسئولون عن الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الظاهر والباطن «فَلاَ تَظالمُوا»، والنهي عن الظلم هنا يشمل كل صوره، الظلم في الدماء بالقتل وما دونه، ومنه الجنايات حتى اللطمة، وكذلك الظلم في الأعراض بالقذف، بالسب، بالشتم، حتى بالكلام الذي يعده الناس أحيانًا جاري على ألسنتهم مثل تشبيه الإنسان ببعض الحيوان: حمار أو كلب ونحو ذلك، هذا مما يُسأل عنه الإنسان القيامة.
أيضًا في المال لا تظلم الناس في أموالهم ولو كان أدق ما يكون، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبانُ» قالوا: يا رسول الله: ولو كان عودًا من أراك؟ يعني السواك، قال: «وإن كان قضيبًا من أراكٍ»، الدقيق والجليل. ولهذا من المهم أن يسلم الإنسان من حقوق العباد، حقوق العباد عظيمة الخطر الظلم فيها شر مستطير لأنه لا يمكن أن يتخلص منه الإنسان بالتوبة والاستغفار فقط بل لابد من رد الحقوق إلى أهلها، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَم»، إنما هي الحسنات والسيئات ينبغي للمؤمن أن يتجنب الظلم، وأنا أقول يا إخواني من سكن في قلبه خوف ظلم الخلق أعانه ذلك على توقي الظلم.
وأما من لا يبالي تجده لا يبالي بالدماء، ولا يبالي بالأعراض، ولا يبالي بالأموال فهذا لا يحجز نفسه عن شيء من الاعتداء على الخلق. لهذا أوصي نفسي وإخواني بتذكر أن ظلم العباد أخطر من ظلم النفس بالسيئات الخاصة التي فيما بينك وبين الله؛ لأن هذا مبني على الشح، تدرون يا إخواني أن الوالدة يوم القيامة الأم وهي أرحم من يكون يوم القيامة تطالب ولدها بأهون من يكون من حقوقها ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس:34-37] الأم تأتي تطالب ابنها بحقها ولو كان مثقال ذرة؛ لأن الناس يوم القيامة فقراء لا درهم لهم ولا دينار، النجاة بالحسنات والتخفف من السيئات، ولا سبيل لهذا إلا بالاستكثار من الحسنات يطالبون بحقوقهم يوم القيامة، حتى عدل الله يجري بين البهائم فيقتص للشاة القرناء اللي لها قرن، من الشاة الجلحاء التي ما لها قرن.
احذروا الظلم:
ولهذا احذروا الظلم، احذروا الظلم في كل شأن دقيق أو جليل، لا تتهاونوا فيه، ومن وقع في شيء من الظلم فليبادر إلى التحلل منه برد الحقوق إلى أهلها إن أمكن، وإن لم يمكنه فليعوض صاحبها بكثرة الاستغفار، والإحسان إليه، وبذل المستطاع من العمل والتكثر من الحسنات، وسؤال الله صدق التوبة، وصدق الأوبة إليه ليتحمل عنه ما يكون من حقوق العباد.
اللهم إنا نعوذ بك من الظلم كله دقه وجله، صغيره وكبيره، أن ييسر لنا ولكم الفقه، والعلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.