يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ، ـ رضي اللَّهُ عنه ـ عن النَّبِيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ ـ تباركَ وتعالى ـ أنه قال: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظالمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أهْدكُمْ، يَا عِبَادي كُلُّكُمْ جائعٌ إِلاَّ منْ أطعمتُه، فاسْتطْعموني أطعمْكم، يا عبادي كلكم عَارٍ إلاَّ مِنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوني أكْسُكُمْ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
هذا الحديث الشريف حديث أبي ذر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يخبر فيه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه عن ربه أي فيما ينقله عن الله ـ عز وجل ـ فهذا الحديث حديث إلهي فيه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يقول الله ـ عز وجل ـ: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً» فجعل مقدمة هذا الحديث العظيم الشريف الخبر عن نفي الظلم عنه المثبت لكمال عدله، فهو العدل جل وعلا، العدل الذي يقضي بالعدل شرعًا، ويقضي بالعدل قدرًا، فالعباد كلهم بين عدله وفضله جل في علاه.
العدل في الدماء والأموال والأعراض:
وبعد إخباره عن العدل بعدم الظلم، ونهيه عن الظلم فيما يكون بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، وما يكون بينهم من شئون، قال ـ تعالى ـ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ» بعد إخباره عن العدل أخبر ـ جل في علاه ـ عن الفضل والإحسان، فأخبر فيه أول ما أخبر عظيم افتقار العباد إلى الله ـ عز وجل ـ في أهم المطلوبات، وهو هداية القلوب، واستقامتها، وصلاحها، وانشراحها بنور الله عز وجل، وتحقيق الغاية والمقصود من الخلق.
«يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ» ولا شك أن العباد كلهم على هذا النحو أي عدم الهداية إلا بهداية الله ـ عز وجل ـ قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل:78]، فجعل الله ـ تعالى ـ الخلق على هذا النحو يخرج الإنسان لا يعلم شيئًا، وهذا نوع من الضلال ثم مكنه بما مكنه به من الآلات والوسائل التي يحصل له بها العلم فيهتدي إن شرح الله صدره للهداية، أو يعمى إن لم يوفقه الله تعالى للهداية كما قال في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ » يعني قابلاً للهداية متهيئ لها «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» صحيح البخاري (1358), وصحيح مسلم (2658)يعني يخرجانه عن هذا الذي جعله الله ـ تعالى ـ في فطرته.
«يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ» وهداية الله ـ تعالى ـ للعباد تشمل هداية الدنيا في مصالح معاشهم، وتشمل هداية القلوب للطاعة والإحسان وعبادة الرحمن، الهداية الدينية والهداية الدنيوية، وقد كفل الله ـ تعالى ـ لكل من خلقه الهداية التي يحصل بها معاشه كما قال ـ تعالى ـ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[1] الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[2] وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[الأعلى:1-3]، وكما قال ـ تعالى ـ لما سأل موسى: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [49] قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:49-50].
فهذه الهداية مبذولة لكل أحد وهي الهداية فيما يتعلق بمصالح المعاش، ولذلك تجد الطفل الصغير يخرج من بطن أمه يلتقم ثديها ويرضع، هذا من هداية الله، وش اللي يدريه أن هذا الثدي يدر عليه هذا الحليب الذي به قوام عيشه وصلاح معاشه، هذا من هداية الله. ومثله في سائر خلقه جل في علاه، فالهداية في قوله: «يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ» تشمل الهداية في مصالح الدنيا والمعاش، والهداية التي يتبين بها طريق الصلاح، والاستقامة، وهي الهداية إلى الإسلام وبيان شرائعه، والهداية الثالثة الداخلة في الحديث هي الهداية إلى الطاعة بفعلها؛ لأنه الهداية للصلاح مرتبتان:
- المرتبة الأولى معرفة الهداية، معرفة الصلاح، معرفة الاستقامة.
- الهداية الثانية هداية القلوب إلى العمل بذلك، والإقبال عليه، وهي ما يعرف بهداية الإلهام والإرشاد.
فمعرفة الطريق الموصل إلى الغرض لا يكفي إلا أن يعان الإنسان على سلوك الطريق، الآن لو قلت: طريق الرياض من هنا، تصل إلى الرياض بهذا العلم؟! ما تصل إلى الرياض إلا حتى تركب سيارتك وتمشى في الطريق، هناك أمران في الهداية التي كفلها الله ـ تعالى ـ لعباده:
- بيان الحق ومعرفته.
- والثاني العمل به، والتوفيق إليه.
وكلاهما داخل في قوله: «يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ» الهداية الأولى هداية البيان والإرشاد مبذولة لكل إنسان، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد:10]، فكل أحد يبين الله له الطريق، لكن من الذي يسلك الطريق؟
هم الصفوة من عباد الله الذين يهدي قلوبهم للعمل بطاعته، طريق تحصيل هذا الافتقار إلى الله «فَاسْتَهْدُوني» اطلبوا الهداية مني، «أهْدكُمْ» وهذا في أمر الدين وأمر الدنيا، والإنسان أفقر ما يكون إلى الهداية، وأحوج ما يكون إلى الهداية ولذلك قدمها على الطعام والشراب والكساء؛ لأن الهداية بها صلاح المعاش والمعاد، أما الطعام والشراب واللباس ففيه صلاح المعاش لكن قد يهلك في المعاد بأكله الحرام ولبسه الحرام.
سؤال الله الهداية:
فقوله: «فَاسْتَهْدُوني أهْدكُمْ» اطلبوا الهداية مني، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عظيم ما فتح الله عليه من الهدايات كان عظيم السؤال لربه أن يهديه الصراط المستقيم، فكان يفتتح صلاة الليل «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك»[صحيح مسلم (770)]، ولعظيم ضرورة الناس للهداية أمر الله العباد بأن يسألوه الهداية في كل ركعة من الصلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6] فنسأله أن يبين لنا الطريق، وأن يعيننا على سلوكه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.