يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ ـ رضي اللَّهُ عنه ـ عن النَّبِيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ ـ تباركَ وتعالى ـ أنه قال: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فخامس النداءات في هذا الحديث الشريف:
الحديث الإلهي قال فيه الله ـ عز وجل ـ: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» تخطئون أي يقع منكم الخطأ.
والخطأ نوعان:
إما ما كان مقصودًا، وإما ما كان غير مقصود. أما ما كان غير مقصود فقد عفا الله ـ تعالى ـ عنه وتجاوز بفضله ورحمته، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾[البقرة:286]، وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن عباس، قال الله ـ تعالى ـ: قد فعلت، وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[الأحزاب:5] فما كان من المخالفة الخطأ الذي لا يقصده الإنسان فهذا بفضله ورحمته معفو عنه مغفور.
أما النوع الثاني من الخطأ في قوله: «إنكم تخطئون» فهو ما كان مقصودًا، وهذا هو المراد بالحديث وهو ما كان من فعل الإنسان عن قصد وإرادة واختيار، فما كان عن قصد وإرادة واختيار فإنه يؤاخذ به، إذا كان تركًا لواجب أو فعلًا لمحرم، فالخطأ إما أن يكون تركًا لواجب، وإما أن يكون فعلًا لمحرم وهو المراد بقوله: إنكم تخطئون أي تتركون من الواجبات ما أمرتم به قصدًا، وتفعلون من المحرمات ما أمرتم ما أمرتم بتركه قصدًا بالليل والنهار أي يحصل منكم ذلك كثيرًا، يستوعب الليل والنهار.
وذاك كما قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في وصف ابن آدم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ» خطاء أي كثير الخطأ، عظيمه فالله ـ عز وجل ـ يخبر عن كثرة خطايا العباد، وأنها استوعبت الزمان ليلًا ونهارًا. ثم بعد أن بين حال الإنسان من كثرة مخالفته، وخروجه عن الصراط المستقيم، عاد إلى بيان وصفه: «وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا» يغفر الذنوب جميعًا، وعُلم من قوله: «وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا» أن الخطأ هنا هو ما كان ذنبًا، وهو ما فعله الإنسان مخالفًا للشرع، مع الاختيار والذكر والإرادة والقصد.
الحديث يشمل كل أنواع الذنوب:
والحديث يشمل كل ما يكون من الذنوب، وكل ما يكون من الخطايا، الكفر والشرك وهذا أعلى ما يكون من الذنوب والخطايا، وكذلك الإلحاد وهو إنكار وجود الله ـ عز وجل ـ وكذلك يشمل الكبائر وعظائم الذنوب، ويشمل أيضًا الصغائر واللمم، فكل ذلك داخل في قوله: «يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» فيقع من الناس الشرك، والكفر، والإلحاد، ويقع منهم الكبائر وعظائم الذنوب، ويقع منهم الصغائر واللمم، وكل ذلك داخل في مغفرة الله عز وجل لمن استغفره وتاب إليه، ولذلك قال: «وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا» فلا يخلو ذنب مهما عظم عن مغفرة الله عز وجل.
مغفرة الله الذنوب:
كما قال ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53] والذنوب من حيث المغفرة نوعان: نوع لا يغفره الله إلا بالتوبة، ونوع يغفره الله ـ تعالى ـ بالتوبة وبغيرها من أسباب المغفرة، أما الذي لا يغفره الله ـ تعالى ـ إلا بالتوبة فهذا هو الشرك، والكفر، والإلحاد، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، فلا يغفره أي لا يتجاوز عنه إلا بالتوبة، فإذا تاب الإنسان من كل ذنب ولو كان أعظم ما يكون من الكفر والشرك والإلحاد فإنه يغفره الله عز وجل، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾[الأنفال:38] إن ينتهوا عن كفرهم يغفر لهم ما قد سلف، وانتهائهم عن الكفر بتوبتهم.
وكذلك قال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾[التوبة:5] هذا في حق الكفار، فمغفرة الله ـ عز وجل ـ للكفر، والشرك، والإلحاد إنما تكون بصدق التوبة، ولا يمكن أن يغفر إلا بالتوبة. أما سائر الذنوب ما عدا الشرك، والكفر، والإلحاد من كبائر الذنب، وعظائم الإثم، والصغائر، واللمم، فهذه تغفر بالتوبة ولها أسباب أخرى تغفر بها، وقد يغفرها الله تعالى تفضلًا منه على عباده دون توبة، ودون استغفار، فقوله: «فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ» أمر من الله ـ عز وجل ـ لعباده بأن يكثروا من طلب المغفرة، وأن يكون ذلك ليلًا ونهارًا على نحو ما يكون من خطئهم ليلًا ونهارًا.
ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»[صحيح مسلم (2759)]، فينبغي أن يكثر الإنسان من التوبة والاستغفار، والأوبة إلى الله ـ عز وجل ـ والرجوع إليه بطلب المغفرة منه سبحانه وبحمده.
طلب المغفرة:
«فاستغفروني» أي اطلبوا المغفرة، والمغفرة تشمل وقاية شر الذنب مع ستره، فيقيك الله ـ عز وجل ـ بالمغفرة شر الذنوب كما أنه يسترها عليك جل في علاه.
والاستغفار ليس له صيغة محصورة محدودة، بل بكل الصيغ طلب المغرفة: استغفر الله، رب أغفر لي وتب علي... وما إلى ذلك من صيغ الاستغفار، وأشرها، وأكملها، وأعظمها سيد الاستغفار الذي ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قوله في الصباح والمساء: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي، فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ» رواه البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه[صحيح البخاري (6306)].
هذا الحديث سيد الاستغفار وهو أكمل الصيغ لكن: استغفر الله العظيم وأتوب إليه، هو مما ينبغي أن يكون على لسان الإنسان بكل الصيغ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستغفر الله ـ عز وجل ـ في اليوم مائة مرة، ويحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفارًا: "رب أغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"، ولما سأل أبو بكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن دعاء يدعو به في صلاته قال: قل: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»[صحيح البخاري (834)، ومسلم (2705)] فأكثروا من الاستغفار في كل الأحوال، والأوقات، والأحيان: رب أغفر لي ولوالدي، ولمن شهد لك بالإيمان والتوحيد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.