في الحديث أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وآخِركُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ فِي مُلكي شيئاً، يا عِبَادِي لو أَنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسَكُم وجنكُمْ كَانوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِركُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعيدٍ وَاحدٍ، فَسألُوني فَأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا َيَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
النفع والضر بيد الله عز وجل:
ففي هذا الحديث نادى الله ـ تعالى ـ عباده فقال: "أنك لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"، فبين ـ جل في علاه ـ عظيم عناه عن خلقه، وأنهم عاجزون عن إيصال نفع إليه أو إبلاغ ضر له؛ فهو ـ جل وعلا ـ العزيز الحكيم ـ جل في علاه ـ الذي تعالى عن أن يبلغه شيء من ضر عباده أو أن يدرك من عباده نفع، فهو ـ جل وعلا ـ العزيز الغني القوي العلي العظيم الحي القيوم الذي جميع العباد إليه مفتقرون، وهو عنهم غني كما قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15].
الله الغني:
ثم ذكر ـ جل في علاه ـ عظيم استغنائه عن عباده فيما يكون من أعمالهم من خير أو شر، وأن ذلك لا يزيد في ملكه كما أنه لا ينقص ملكه ما يكون من عصيانه، قال: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وآخِركُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ» وهؤلاء جميع المكلفين من الإنس والجن المتقدمين منهم والمتأخرين، «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وآخِركُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم» يعني كانوا في التقوى على قلب أتقى الخلق، على قلب محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، «ما زادَ ذلكَ فِي مُلكي شيئاً» وهذا إثبات كمال غناه، وأن ما يكون من صالح العمل لا يعود إليه بنفع جل في علاه، فلا يبلغه من عباده نفع بطاعتهم له، كما ينتفع الوالد بطاعة ولده، وكما ينتفع المالك بطاعة المملوك فإنه يقوى ويزداد ملكه، ويزداد ظهوره بهذه الطاعة.
الملك لله وحده:
لكن الله الملك الغني الحميد جل في علاه غني عن عباده وطاعاتهم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾[الحج:37]، وهذا يؤكد أن العبد يجب أن يستحضر في كل طاعة يوفق إليها أنه هو المستفيد، المنتفع مما يحصل من الطاعة، وأما الله فهو الغني الحميد جل في علاه، فلا يزداد بصلاتك، ولا بصومك، ولا بطاعتك شيء فهو سبحانه وبحمده الذي يسر لك ذلك، وأعانك عليه، وهو الذي يتفضل عليك بقبوله، ثم هو الذي يأجرك عليه تفضلًا منه سبحانه وبحمده.
وبالتالي أزل من قلبك كل إعجاب بعملك:
واعلم أنك المفتقر إلى صالح العمل، فإن به نجاتك، وبه فوزك، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾[النمل:92]. «يا عِبَادِي لو أَنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسَكُم وجنكُمْ كَانوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً» فلو كان الناس على قلب إبليس في الكفر والعصيان ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾[يونس:108] والله غني عن العباد وعما يكون من أعمالهم. ولذلك لا تنقصه المعصية فمهما عظمت المعاصي وكثرت فإن ذلك لا ينقص ملكه جل في علاه، أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، لم يطيعوه إلا بإذنه، ولن يعصوه إلا بعلمه جل في علاه وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير.
فليؤمن العبد أن الطاعة نفعها إليه، كما أن المعصية عائد شرها إليه
وذلك في العاجل والآجل فإن منافع الطاعات يدركها الناس في معاشهم، بشرح الصدر والجزاء العاجل، ومعصيتهم لله عز وجل يدركون شرها وشؤمها في العاجل وحشة في قلوبهم وظلمًا مع ما يكون من ما ينتقصون به بسبب ما يكون من سيئات عملهم كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30].
الخلق كلهم يتقلبون في قدر الله:
وأمره بين عدله وفضله، وهو عنهم غني، وهم إليه فقراء إذا استشعروا هذا اغتنوا به ـ جل في علاه ـ عمن سواه. اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا وارزقنا حبك وتعظيمك، والعمل بشرعك ظاهرًا وباطنًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.