قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه [رياض الصالحين] في الحديث القدسي:
عن أبي ذر جندب بن جُنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يروي، عن اللهِ ـ تَبَاركَ وتعالى ـ أنَّهُ قَالَ: «... يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ«.....
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
عظيم ملك الله عز وجل:
هذا المقال من رب العالمين لعباده فيه بيان عظيم ملكه جل في علاه، وفيه بيان عظيم قدرته حيث يقول الله ـ تعالى ـ: «يَا عِبَادي» وهذا خطاب للإنس والجن كما جاء في قوله: «لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ» فالخطاب لعباده المكلفين من الإنس والجن، «لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ» يعني جميعكم من تقدم ومن تأخر، وهذا شمول زماني، «وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ» وهذا شمول لكل أفراد هذا الجنس وهم الجن والإنس بنو آدم، والجن على كثرتهم، وتباعد مواقعهم، واختلاف أحوالهم وحاجاتهم يقول الله ـ تعالى ـ: «لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ» يعني على مكان واحد، الصعيد هو ما علا على الأرض أي اجتمعوا في مكان واحد، وسألني كل واحد منكم مسألته أي طلب حاجته.
ما يبدأ الله به عباده من النعم دون سؤال منهم:
وهذا غير ما يبتدئ به جل وعلا من النعم، فإن الله تعالى يبتدئ عباده بنعم لم يسألوها، بل يبدأهم بها دون مسألة ولا طلب، «لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ» فسألني كل واحد منكم مسألة، حاجته فأعطيته مسألته يعني أجبته إلى ما طلب من قليل أو كثير، على اختلاف المسائل وتنوعها.
«مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ» المخيط هو الإبرة التي تخاط بها الثياب، إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في الماء، ومعلوم أن المخيط والإبرة إذا غمست في الماء وأخرجت لم يعلق بها شيء، ومعنى هذا أنه لا ينقص من ملكه شيئًا سبحانه وبحمده، بل هو واسع الملك جل في علاه، وهذا البيان الإلهي يطمع العباد في سؤال الرب جل في علاه، فمن أيقن أن ربه على هذا الوصف الذي ذكر الله ـ تعالى ـ عن نفسه من قدرته وعظيم ملكه، وأنه يقضي حوائج الخلق جميعًا.
الله على كل شيء قدير:
فمهما كانت حاجة الإنسان عظيمة، كبيرة، بعيدة عن الحصول في ذهنه وباله إلا أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يبلغه إياها.
فينشط لسؤال الله ـ عز وجل ـ ولو أن العبد في مسألته توسل إلى الله بمثل هذا وهو عظيم قضائه لحوائج الخلق، وقدرته جل في علاه على ذلك، وأنه واسع الملك لا ينقص من ملكه شيء لكان ذلك من مواطن الإجابة، وكان ذلك جديرًا بأن يجاب إلى ما سأل. ولهذا يا إخواني تدبر هذه المعاني عند السؤال والدعاء مما يحفز النفوس وينشطها على سؤال الله ـ عز وجل ـ وعلى دعاءه سبحانه وبحمده.
الله يرزق العباد كلهم في ساعة واحدة:
ولا عجب في هذا الخبر الإلهي فأنت ترى الله ـ جل في علاه ـ يرزق العباد في ساعة واحدة رزقًا مبتدأ دون سؤال في البر والبحر، وفي السماء والأرض، والرطب واليابس، والعاقل وغير العاقل، يسوق الله تعالى الأرزاق إلى أصحابها دون سؤال ابتداء منه بالإحسان والإنعام ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾[هود:6]، فالله قد تكفل برزقها ولو كان هذا الرزق دونه من الحوائل ما دونه، لكن الله ـ جل في علاه ـ يسوق الرزق الذي قدره لعباده ويذلل كل المصاعب والعوائق المانعة من ذلك.
لابد وأن يمتلئ قلب العبد ثقة بالله عز وجل:
ولهذا ينبغي للعبد أن يمتلأ قلبه ثقة بالله ـ عز وجل ـ ويقينًا بعظيم قدرته، وأنه لا يمنع عباده ما يمنعهم منه من المسائل والمطالب عجزًا كما لا يمنعهم منه بخلًا، فهو الغني الحميد، وهو على كل شيء قدير جل في علاه. وليجهد العبد في سؤال الله كل ما يرجوه من خير الدنيا والآخرة، ولا يقول: هذا صعب أو هذا ما يصير، أو هذا صعب عليك وعسير عليك، لكنه على الله يسير.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يقولُ أحدُكم: اللَّهمَّ اغفِر لي إن شِئت، اللَّهمَّ ارحَمني إن شِئت، ليعزِم المسألةَ فإنَّه لا مُكرِه لهُ« وفي رواية: «وليعظم الرغبة»، يعني يسأل بكل ما يرجوه من خير الدنيا والآخرة، فالله يعطي الجنة جل في علاه، ويرزق بغير حساب، وله الفضل والإحسان جل في علاه، ولن يعجزه طلب مهما بلغ في نظر الإنسان بعدًا وعسرًا وصعوبة، فاسأل الله ما تؤمل من الخير.
لكن تجنب سؤال ما لا يجوز أن تسأله فإن من الناس من يسأل ما لا يجوز له فيكون هذا من أسباب منع الدعاء.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يبصرنا بالعلم به ومعرفته على الوجه الذي نحقق به تمام العبودية له، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.