يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في الحديث القدسي:
عن أبى ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمِدِ اللَّه، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ».
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
إخبار بالمعاد والحساب:
هذا الحديث الإلهي حديث أبي ذر وهو من الأحاديث العظيمة المتضمنة لمعاني جليلة ختمه الله ـ تعالى ـ بإخبار عباده بالمعاد، وبالحساب، وذاك أن ما تقدم من أخبار فيها أمر ونهي، وبيان لما ينجو به الإنسان ثم كل ذلك يئول في النهاية إلى المحاسبة، «يَا عِبَادِي إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ» أي أنما النجاة والفلاح، والخيبة والهلاك بما يكون من الأعمال، ولذلك ينبغي للإنسان أن يستحضر أن عمله له، وأما الله ـ تعالى ـ فقد تقدم في نداء الله ـ عز وجل ـ: "يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا» ولو كان العكس على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، فهو الغني عنا، وعن أعمالنا، وعن عباداتنا، وإنما يحصي الأعمال جل في علاه، ويجازي عليها.
عمل الإنسان بحصى له أو عليه:
ولذلك قال: «إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ»، أحصيها أي أحفظها، وأحيط بها، ولا يضيع منها قليل ولا كثير، فلا يخاف العبد نقصًا من عمله، ولا يخاف أن يحمل عليه ما لم يعمل، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا، بل كل ما عمله الإنسان من دقيق وجليل فقد أحصاه الله ـ تعالى ـ كما قال: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾[المجادلة:6]. الإنسان ينسى عمل نفسه لكن الله ـ تعالى جل في علاه ـ قد أحاط بذلك العمل ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾[طه:52] سبحانه وبحمده.
كل شيء محصى؛ مهما دق:
والإحصاء ليس فقط لبرهة من الزمن أو لمرحلة عمرية، بل ما تردد النفس من حياة الإنسان كله في كتاب، ولذلك يقول المجرمون يوم القيامة: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾[الكهف:49] فيحصى الدقيق والجليل، الصغير والكبير، وقد قال الله ـ تعالى ـ فيما قصه من وصية لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾[لقمان:16] وهو ما لا يوزن من الأشياء، ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾[لقمان:16] في أمنع ما يكون صيانة صخرة في القوة والحفظ، ﴿أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ﴾[لقمان:16] في السعة، في أوسع مكان طبعًا الشيء اليسير الصغير في المكان الواسع لا يحصىى ويضيع في سعة المكان.
لكن الله ـ تعالى ـ ذكر أنه لا يمتنع عليه شيء من أعمال عباده، الخردل التي لا تزن شيء لو كانت في صخرة أمنع ما يكون، أو كانت في السماء والأرض أوسع ما يكون، يأت بها الله. كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ﴾[الزلزلة:7] وزن، ﴿ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8]. والإحصاء ليس إحصاء دون توثيق بل إحصاء موثق كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾[الطارق:4]، وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجاثية:29] أي نكتب كل ما يصدر عنك، وقال ـ تعالى ـ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق:18].
هذا كله إحصاء فلا يضيع من العمل شيء، ولهذا ينبغي لك أن تعلم أن ما كان من عملك فإنه محفوظ إن خيرًا فخير، وإن شر فلا تلومن إلا نفسك، ولذلك قال: «إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ» وهذا الإحصاء، «ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إيَّاهَا» التوفية التقبيض، والتقبيض بالجزاء، والإثابة في الصالح، والمعاقبة في السيئ أوفيكم إياها. طيب الناس ينقسمون في التوفية إلى قسمين، الناس ينقسمون في توفية العمل إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فمن وجد خيرًا وهم السعداء فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك يعني ما وجد خيرًا وهو الشر والعقوبة فلا يلومن إلا نفسه، أي لا يتوجه باللوم إلا غيره لأنه حصاد عمله.
فإذا وجد خيرًا فليحمد الله، لماذا يحمد الله؟
يحمد الله لأنه هو الذي يسر له ذلك فهداه، بين له الحق، وأعانه على العمل به هداية توفيق وإلهام، ثم تفضل عليه بالقبول، ثم تفضل عليه بحفظ ذلك وعدم إضاعته، ثم تفضل عليه بإثابته، وكل هذا يستوجب الحمد. الآن أنت لو تقدم لشخص إحسان وينساه، تجد أنك يعني أحسنت إليه ونسي إحسانك تجد في نفسك أحيانًا لاسيما الذي لا يغيب عنه إحسانه، يتذكر إحسانه إلى الناس، الله جل في علاه ما يكون من عمل صالح لا يضيع فتحمد الله أن حفظ عملك الصالح فتسر به وتجزى به، يقبله ويجازيك عليه، ولهذا تحمد الله الذي دلك على العمل الصالح، ثم يسره لك عملًا، ثم تفضل بقبوله، ثم تفضل بحفظه، ثم تفضل بالإثابة عليه، كل هذا مما يستوجب حمده جل في علاه، وكل ذلك بفضله ورحمته، وأعلموا أن أحدًا منكم لن يدخل الجنة بعمله.
وأما الآخر فلا يلومن إلا نفسه لأنه أخطأ وخالف على بصيرة، فقد بين له الصراط، وقيل له: هذا طريق الجنة، وهذا طريق النار واختر أي السبيلين تسلك، فمن وفقه الله هدي إلى صراط مستقيم، ومن خل الله بينه وبين نفسه واختياره سلك طريق الردى وسبيل الجحيم، ولهذا لا يلومن الإنسان على المخالفة والمعصية إلا نفسه مهما كان من تزيين الشيطان، ومهما كان من تزيين أصحاب السوء أنت المحاسب، وأنت الملوم.
لا تلومن إلا نفسك:
تلك أسباب لكنك أنت الذي انفعلت لها وقبلت، ولهذا عندما يخطئ الإنسان لا ينبغي أن يوزع اللوم على غيره، مباشرة الإنسان عندما يخطئ يقول: أعوذ بالله الشيطان، طيب يا أخي الشيطان لو لم يجد أرضًا خصبة ما زرع، أصحاب السوء لو لم يجدوا نفسًا قابلة ما استدرجوك، والله أعطاك عقل، وهداك السبيل، وتكفل بإعانتك إن لجئت إليه فلا تلومن إلا نفسه إن أخطئت. ولوم النفس في الدنيا يفيده أما في الآخرة فلا يفيد؛ لأنه قد أغلق السبيل على الأوبة والرجعة، أما في الدنيا لوم النفس يحمل الإنسان على التوبة وعلى المراجعة، ولذلك أقسم الله ـ تعالى ـ بالنفس اللوامة؛ لأنها تعيد الإنسان إلى الصواب، وترده عن الخطأ، فلم نفسك اليوم على كل خطأ ذلة صغيرة أو كبيرة في السر والعلن، وأندم على ذلك، وأتبع السيئة الحسنة تمحها.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، عاملنا بما أنت أهله من الإحسان والفضل، ولا تعاملنا بما نحن أهله من الإساءة والتقصير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.