يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: كَانَ عمر ـ رضي الله عنه ـ يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدرٍ فكأنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ في نفسِهِ، فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا معنا ولَنَا أبْنَاءٌ مِثلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ منْ حَيثُ عَلِمْتُمْ! فَدعانِي ذاتَ يَومٍ فَأدْخَلَنِي مَعَهُمْ فما رَأيتُ أَنَّهُ دعاني يَومَئذٍ إلاَّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تقُولُون في قولِ الله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فَقَالَ بعضهم: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نَصَرنَا وَفَتحَ عَلَيْنَا، وَسَكتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيئًا. فَقَالَ لي: أَكَذلِكَ تقُول يَا ابنَ عباسٍ؟ فقلت: لا. قَالَ: فما تقول؟ قُلْتُ: هُوَ أجَلُ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلَمَهُ لَهُ، قَالَ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ وذلك علامةُ أجَلِكَ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾، فَقَالَ عمر ـ رضي الله عنه ـ: مَا أعلم مِنْهَا إلاَّ مَا تقول. رواه البخاريحديث رقم (4294).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد...
حكمة عمر بن الخطاب:
هذا الخبر في شأن ابن عباس وعمر ـ رضي الله عنهما ـ تضمن إخبار ابن عباس عن عمل عمر لما كان خليفة للمسلمين ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو ثاني خليفة من خلفاء رسول الله ـ صلى الله عليه على آله وسلم ـ بعد أبي بكر، تولى ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكان يشاور أصحاب الرأي فيما يحتاج إلى مشورة، ويبدأ بأصحاب السبق والفضل فكان ممن يشاورهم أشياخ بدر، وهم الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـالبدريون، الذين أدركوا بدرًا ولهم من المزية والمنزلة والسابقة في الإسلام ما بوأهم هذه المنزلة أن كانوا ممن يشاورهم عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيما يحتاج من شأن أهل الإسلام.
كان عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لا يبالي بالسن في المشورة:
بل يرجع في ذلك إلى العمر، والعلم، والمعرفة، وكان ابن عباس شابًا يافعًا إذ أنه توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابن عباس لم يبلغ الحلم، أو ناهز الحلم، يعني قريب من خمسة عشر عام ـرضي الله تعالى عنه ـ ومدة خلافة أبي بكر قريب من سنتين يعني لو قدرنا أن هذه المشورة كانت في أول خلافة عمر فسيكون عمر ابن عباس سبعة عشر عامًا، ولو قدرنا أنه في آخر خلافة عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فسيكون عمره قريبًا من سبعة وعشرين عامًا، وفي كلا الحالين هو في السن بالنظر إلى أشياخ بدر من أبنائهم.
علم ابن عباس وفضله:
ولهذا كان قد وجد بعضُ الصحابة على عمر أَنْ أدخل ابن عباس وهو في حداثة سنه مع هؤلاء الأشياخ ولهم أبناء مثله، فقالوا لعمر في ذلك، فقال ـ رضي الله تعالى عنه ـ: لقد علمتم شأنه؛ أي أمر ابن عباس في الفقه، والعلم، والسبق، والقرب من رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأراد أن يبين فضله وسبقه في العلم والمعرفة والرأي، وهو معدن المشورة ومقصود المشورة، فسألهم عن تفسير قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾[النصر:1]، ما تعلمون من هذه الآية؟
فقالوا: نعلم منها أن الله أمر رسوله إذا فُتح على أهل الإسلام، ونصروا أن يسبحوا، ويحمدوا، ويستغفروا، فأعاد السؤال على ابن عباس: ما تقول فيها؟
فبين ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن الآية نعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبرت بدنو أجله، ولذلك سماها بعض أهل العلم (سورة التوديع)؛ لأن الله ـ عز وجل ـ أخبر فيها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه إذا ظهر دينه، وأقبل الناس على الدين فإنه يشرع له أن يكثر من التسبيح، والتحميد، والاستغفار، ووجه كون ذلك إشارة إلى قرب أجله أن الإنسان يكثر في ختم الأعمال من الاستغفار، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾[البقرة:199].
فالاستغفار يكون في ختم العبادات:
ولذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يختم الصلاة إذا سلم بـ (استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله)، فالاستغفار مشروع عند ختم الأعمال، ففهم ابن عباس من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاستغفار بعد الفتح والنصر بأن ذلك مؤذن بقرب أجله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فكان قد فهم أمرًا زائدًا على مجرد ما فهمه الصحابة، الصحابة الذين سألهم عمر فهموا ظاهر النص وهو التسبيح والاستغفار عند الفتح والنصر، لكن ابن عباس فهم أمرًا زائدًا على ذلك وهو نعي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإخبار بدنو أجله، صلوات الله وسلامه عليه.
السبق الحقيقي للإنسان هو بالعمل:
والمقصود أن الإنسان لا يسبق غيره بسن، ولا بنسب، ولا بشيء من هذه الأمور إذا كان متأخرًا في العلم، إنما السبق الحقيقي بالعلم والمعرفة، والعلم بكتاب الله وسنة رسوله هو الميزان الذي يرتفع به الناس وينخفضون، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11]، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه في الصحيح من حديث عمر: «إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ»[صحيح مسلم (817)]، ومن أمثلة هذا ما جرى من ابن عباس ما جرى لابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن أدخله عمر في أهل المشورة مع كونه حديث سن رضي الله تعالى عنه.
والمقصود أيها الإخوة أنه ينبغي للإنسان أن يجتهد في فهم كتاب الله:
والإقبال عليه، وأن يجتهد في تدبر آياته، وتفهم ما فيه فإن ذلك من مفاتيح العلم التي تدرك بها خيرات عظيمة. وكما يشرع أيضًا أن يكثر في ختم العمل من الاستغفار، فإن الاستغفار تحط به الخطايا، وأحوج ما يكون الإنسان إلى كثرة الاستغفار في كل حين، ولذلك أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله في الأحوال كلها، وكان يحسب له في المجلس الواحد: "رب اغفر لي وتب علي" مائة مرة، ويقول: «والذي نفسي بيده إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»[صحيح مسلم (2702)] وهذا كله يشير إلى احتياج الإنسان إلى الاستغفار، فبالاستغفار تُحَط الخطايا، وتكفر السيئات.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا، وما أسررنا، وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منا، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لَنَكُونن من الخاسرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.