يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: مَا صلّى رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلتْ عَلَيهِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ إلاَّ يقول فِيهَا: «سُبحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي» مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (4967)، وصحيح مسلم (220). وفي رواية في الصحيحين عنها: كَانَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُكْثِرُ أَنْ يقُولَ في ركُوعِه وسُجُودهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، يَتَأوَّلُ القُرآنَ.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
تَمَثُّلُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن في كل أحواله:
هذا الحديث حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ فيه بيان ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من امتثال القرآن، والعمل بما جاء به الوحي في كتاب الله العظيم، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله ـ تعالى ـ عليه القرآن ليبينه للناس ببيانه اللفظي، وببيانه العملي، وهذا من البيان العملي أن الله ـ تعالى ـ أنزل على رسوله هذه السورة وهي سورة النصر، فكان فيها أن قال له ـ جل في علاه ـ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾[النصر:1]، الذي تظهر به على أعدائه، ﴿وَالْفَتْحُ﴾[النصر:1] وهو فتح مكة، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾[النصر:2] يقبلون على الإسلام ويقبلونه، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر:3] فأمره الله تعالى عند حصول هذا أن يسبح بحمد ربه، وأن يستغفره.
ولذلك كان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يكثر من أن يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، وقد جاء في هذه الأحاديث جاء ذلك بصيغ عديدة: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، «سُبحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي»، «سُبْحَانَكَ اللَّه وَبِحَمدِه، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، وكل ذلك يؤدي ما أمر الله تعالى به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الذكر.
هذا الذكر في الصلاة وغيرها:
وهذا الذكر يشرع كما دلت هذه الأحاديث في الصلاة وفي غيرها؛ لأنه كان يقول ذلك في ركوعه وسجوده، وفي رواية مسلم كان يكثر من أن يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، وهذا لم يقيد بالصلاة بل يكون في غير الصلاة. فهذا الذكر مما يشرع أن يقوله الإنسان في حاله على وجه العموم: في الصلاة، وفي غيرها، فكثر من أن يسبح الله ـ تعالى ـ ويمجده، ويسأل منه جل في علاه المغفرة وحط الذنوب والخطايا، «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ».
هذا الذكر في الركوع وغيره:
هذا الذكر يقال في الركوع والسجود، وهو في السجود متسق مع هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أنه في سجوده يعظم الله ـ عز وجل ـ بتسبيحه وذكره، وسؤاله، ودعائه.
أما الركوع فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»[صحيح مسلم (479)]، ولهذا قال العلماء: إن الركوع ليس محلًا للدعاء إنما هو محل لتعظيم الله عز وجل.
والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن الدعاء التابع في الركوع مما جاءت به السنة كهذا الدعاء، فيصلح أن يدعو الإنسان في ركوعه دعاء تابعًا، ولو أنه دعا دعاء مستقلًا لكان ذلك سائغًا ومقبولًا؛ لأن الدعاء تعظيم إذ أنه يتضمن إثبات كمال القدرة، وكمال الجود، والملك لله ـ عز وجل ـ فلا تعارض بين قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ» وبين أن يدعو الإنسان في ركوعه، فقد ثبت عنه أنه دعا في ركوعه في قوله: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي».
لكن السائد الغالب في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي السنة فيما يتعلق بالركوع التعظيم فإنه كان يعظم الله بتسبيحه، وذكره، وتمجيده في الركوع، وأما السجود فيجمع فيه بين التعظيم، والتسبيح، ودعاء الله تعالى وسؤاله، والإكثار من الدعاء في السجود. أما قوله: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» هذه الجملة تضمنت ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل عيب ونقص، وعن مماثلة المخلوقين، وعما يقوله فيه الجاهلون، فالتسبيح تنزيه، أنت تنزه الله عن كل عيب، وعن كل نقص، وعن كل مماثلة للخلق، فهو جل وعلا العلي الأعلى المتنزه عن كل ما يدور في الخيال، أو تنطق به ألسنة المحادين له جل وعلا من تنقصه سبحانه وبحمده.
الثاني: حمده جل في علاه، وحمده لا يكون إلا لكمال فعله وجمال صفاته، وعلو ما له جل وعلا من الشأن في الأسماء والصفات والأفعال، فيحمد سبحانه وبحمده على أسمائه، ويحمد على صفاته، ويحمد على أفعاله جل في علاه.
وبهذين يكتمل تعظيم الله ـ عز وجل ـ في قلب العبد إذ أن التعظيم يقوم على نفي كل نقص في صفات الله عز وجل، وإثبات كل كمال له جل في علاه «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ» أي أنزهك يا الله، ثم تعطف على هذا إثبات كمال الحمد له جل في علاه حيث تقول: «وَبِحَمدِكَ» أي أسبحك، أو أن المعنى أسبحك تسبيحًا مقترنًا بحمدك، فحمده مقترن بتسبيحه جل في علاه.
الثالث: بعد هذا التعظيم، والإجلال لله، والتنزيه والتقديس تأتي المسألة والطلب وهي سؤال المغفرة وهي أعظم المسائل التي لا غنى بالإنسان عنها، وهي سؤال المغفرة: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»، والمغفرة تتضمن أمرين، أنت تطلب الله بالمغفرة أمرين:
الأمر الأول: أن يتجاوز عنك ولا يؤاخذك بذنبك.
الأمر الثاني: تطلب منه أن يسترك، وأن لا يظهر عيبك ويفضحك في الدنيا أو في الآخرة.
فقولك: استغفر الله تتضمن مسألتين:
* المسألة الأولى: مغفرة الذنوب بالتجاوز عنها والصفح.
* والمسألة الثانية: الستر.
وكلاهما مطلوب للخلق، والناس محتاجون إلى مغفرة الله في كل تردد نفس، فإن مغفرته بها تحط الخطايا، وتدرك المأمولات، وينجو العبد من شؤم ما كسبته يداه، فإنه ما يجري على الإنسان من بلاء أو مصيبة إلا بسبب ما كسبت يداه، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم أغفر لنا، وتجاوز عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.