يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: إنَّ اللهَ ـ عز وجل ـ تَابَعَ الوَحيَ عَلَى رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَبلَ وَفَاتهِ حَتَّى تُوُفِّيَ أكْثَرَ مَا كَانَ الوَحْيَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ صحيح البخاري(4982) وصحيح مسلم (3016).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جهة الوحي آخر أيامه:
هذا الحديث يخبر فيه أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جهة الوحي في آخر عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوحي هو أعظم ما طرق الدنيا ونفع الناس منذ أن خلقهم الله ـ تعالى ـ فخير يوم مر على البشرية بإطلاق يوم بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والوحي إليه بقوله ـ تعالى ـ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [2] اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [3] الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [4] عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق:1-5]، تتابع الوحي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ ذلك الحين، ابتداء من حاله في غار حراء ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن توفاه الله، جرى عدد من الانقطاعات في الوحي ففتر الوحي أول زمن النبوة حتى وجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الفتور أي الانقطاع ألمًا شديدًا، حتى كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج ويهيم على وجهه من شدة ما يجد من ألم تأخر الوحي.
تأخر الوحي بلاء:
تأخر الوحي في بعض القضايا فكان في تأخره من البلاء على أهل الإسلام ما ارتفع وانكشف بنزول الوحي، ومن ذلك حادثة الإفك فقد حُبس الوحي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن هذا الحدث، وتلك الواقعة إلى أن أنزل الله ـ تعالى ـ الفرج بالوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سورة النور. ثم تتابع الوحي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أكمل الله تعالى الرسالة، فأنزل قوله ـ تعالى ـ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3] وذاك في يوم عرفة فكان يومًا مشهودًا أتم الله ـ تعالى ـ الرسالة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يقف الوحي عند هذا بل تتابع الوحي، لكن الكمال هنا باعتبار أصول الشرائع، ومجمل ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان آخر ما نزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾[البقرة:281]، هذا حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الوحي، وكان الوحي كما وصفه الله: نور، وهدىن وبيان، وروح، وفيه من الخير الذي علمه أهل الإسلام بما أنزله الله ـ تعالى ـ من هدايات القرآن، وبيان سيد المرسلين ـصلوات الله وسلامه عليه ـ بموته انقطع الوحي صلى الله عليه وسلم.
في آخر عهده تتابع الوحي، وهنا موضع الدلالة في الحديث على الباب وهو الإكثار من العمل الصالح في آخر العمر، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر رسالته تابع الله عليه الوحي حتى توفي وهو أكثر حالًا في تتابع الوحي ونزوله على مر الوحي إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان أكثر الزمان وحيًا إليه قبل موته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولهذا لما مات كان موته من أعظم ما أصاب أهل الإسلام، إذ إن بموته ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطع الوحي عن الناس، انقطع الوحي من السماء وهذا لا يقدر الناس قدره بجهلهم بما في هذا الوحي من الهدايات، لكن إذا علموا ما في هذا الوحي من الهدايات علموا عظيم المصاب بانقطاع الوحي.
ولهذا جاء في الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه إذا أصيب «ليعز المسلمين أنفسهم في مصائبهم بالمصيبة بي»[موطأ مالك (41)، وصححه الألباني مرسلا]، وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال فإن معناه صحيح، فإن المصيبة بموته أعظم ما أصاب أهل الإسلام وذلك لانقطاع الوحي لا لمفارقته فقط ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولهذا في صحيح الإمام مسلم من حديث أنسانا باب بكر قال لعمر: نذهب لأم أيمن كما كان يفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته، فذهبا إليها فبكت ـ رضي الله تعالى عنها ـ فقالا لها معزيين: ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله مما هو في الدنيا؟، فقالت: بلى أعلم ذلك، ولكني أبكي أن انقطع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا ـ رضي الله تعالى عنهما ـ لإدراكهما عظيم ما فقده الناس بانقطاع الوحي من السماء.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
فيه: أن ما كان ينزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استمر من بعثته إلى وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مصدق لقول الله ـ تعالى ـ : ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [3] إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾+++[النجم:3-4].
وفيه: أن الوحي إليه في آخر عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أكثر من الوحي إليه في أول الرسالة، وهذا لعظيم الحاجة إلى البيان وإكمال الرسالة.
وفيه: أن الوحي فيه من الهدايات والخير لهذه الأمة ما انقطع بوفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفيه: أن الإنسان ينبغي أن يجد ويجتهد بإصلاح العمل زمانه، ويجد في آخر زمانه بما يختم له بخير، فإن الإنسان يختم له بما يكون عليه من عمل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
هذه جملة من الفوائد.
ومنها: أن الوحي من الله عز وجل لرسوله، وأنه نازل منه، فالقرآن كلام الله ـ عز وجل ـ منه بدأ وإليه يعود، وقد أنزله على رسوله كما دل عليه القرآن، فلم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبتدئ الأمر من عنده في غالب ما جاء به من الشرائع، ولكنه كان يبين ذلك بهداية الله له، يبين القرآن بهداية الله له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فنسأل الله أن يجبر مصابنا من انقطاع الوحي، وأن يرزقنا البصيرة والاستمساك بهذا الهدي، وأن يثبتنا على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مالك مقتدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.