يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ». رواه مسلم حديث رقم (2878).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
يبعث العبد على ما مات عليه:
هذا الحديث الشريف حديث عظيم الخطر، كبير القدر، إذ إن الحديث بيّن أن المبعث يكون على نحو الممات، فالإنسان يبعث على ما مات عليه، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُبْعَثُ المرء عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ»، أو «يُبْعَثُ العَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ»، يُبعث يعني يقام من قبره، على ما مات عليه من العمل من إيمان، وصلاح، أو نفاق وفساد، والمقصود بالحديث أن الناس يوم القيامة يجنون ما قدموه لاسيما ما يكون في آخر أعمارهم إذ أن الإعمال بالخواتيم كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم»صحيح البخاري(6607)، فمن كانت خاتمته إيمان وطاعة، وإحسان، وبر كانت آخرته، كان مبعثه على نحو ما كان في مقدمة عمله من إحسان، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾[الرحمن:60].
العبرة بما تكنه الصدور والضمائر لا الصور والأشكال:
وإن كان على غير ذلك من فساد أو شر، أو معصية كان مبعثه على نحو ما مات عليه، وليس الشأن فيما يكون من الصور والمظاهر بل الشأن كل الشأن فيما حوته الصدور، وأكنته الضمائر؛ ولذلك أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوم ينزل بهم عذاب إلا أنهم يبعثون على نياتهم، وهذا خبر عام أنه إذا نزل العذاب بقوم وفيهم من لا يستحق العذاب لصلاحه، أو لوجود مانع فإن نزول العذاب بالقوم أو بالجماعة لا يتطرق إلى هذا؛ لأنه على نية مختلفة.
وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن جيش يغزون الكعبة يُخسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: وفيهم سوقتهم يا رسول الله؟ ومن ليس منهم، يعني من جاء يبيع ويشتري يقصد التجارة، أو ما له غرض في هذا المجيء إما إكراه أو غير ذلك، قال: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»[صحيح البخاري (2118)]، يبعثون على نياتهم يعني ما في قلوبهم، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ» يعني في قلبه من إيمان، وصلاح، واستقامة، أو عكس ذلك من نفاق وفساد ومعصية.
تجويد الإيمان وتوثيق المحبة:
ولهذا ينبغي للإنسان أن يجود ما في قلبه من إيمان، وأن يوثق عظيم محبته وتعظيمه للرحمن، فإن هذا هو الذي يحصل به السبق والفوز يوم القيامة على أن الحديث يشمل أن الإنسان قد يبعث على صورة ما مات عليه من عمل إن كان صالحًا أو فاسدًا، لأن الأعمال ثلاثة: إما أن يكون عملًا صالحًا، وإما أن يكون عملًا سيئًا، وإما أن يكون عملًا مباحًا كالأكل، والشرب، والذهاب، والمجيء.
أحوال الإنسان عند الموت:
والإنسان يموت على واحد من هذه الأحوال إما أن يموت على عمل صالح كأن يموت مصليًا، أو محرمًا، أو مجاهدًا، أو يموت على معصية كمن يموت زانيًا، أو سارقًا، أو مغتابًا، أو يموت على عمل مباح كالذي يموت وهو يأكل أو يشرب، أو في عمله، أو في طريقه لجهة من الجهات المباحة، هذه أحوال الناس من حيث صورة الموت. وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ» يحتمل أنه يبعث على الصورة التي مات عليها من عمل صالح، أو عمل سيء، أما المباح فلا إثابة فيه، ولا معاقبة عليه. وقد جاء في الحديث في خبر الذي وقصته راحلته، سقط من الراحلة وكان محرمًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» صحيح البخاري (1265) ، بُعث على العمل الذي مات عليه.
وكذلك في الشهيد فإنه يبعث يوم القيامة ودمه يثعب، اللون لوم الدم، والريح ريح المسك، وهذا مات على عمل صالح. وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من جاهد في سبيل الله فقتل صابرًا محتسبًا بُعث يوم القيامة صابرًا محتسبًا، ومن قاتل رياء ومكابرة بُعث يوم القيامة مرائيًا مكابرًا، وهذا يدل على أنه يُبعث على صورة عمله، فإن مات مصليًا بُعث يوم القيامة مصليًا.
البعث على وفق العمل:
وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن أن البعث يكون على وفق العمل في الدنيا، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾[الإسراء:72]، وقال ـ جل في علاه ـ فيمن تولى عن ذكره، ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [125] قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه:125-126] فنسيتها يعني عميت عنها وكذلك اليوم تُنسى، الجزاء من جنس العمل.
والمقصود يا إخواني أن الإنسان لا يدري متى يرحل، لا يدري متى تفجؤه ساعة الممات، والراشد العاقل من نزع إلى الطاعة وسارع إليها في كل لحظاته، رجاء أن يُقبض وهو على ما يحب الله ـ تعالى ـ وأن يجتهد في سؤال الله ـ عز وجل ـ حسن الخاتمة فإن حسن الخاتمة منحة، ومنة مقدمتها صلاح العمل.
فأسأل الله لي ولكم طيب العمل وصلاحه، وأن يختم لنا بخير، وأن يجعلنا من أسعد من يلقاه يوم البعث والنشور، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.