{ وإلهكم إله واحد } الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى : أحدها : أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد ، والآخر : أنه لا شريك له ، والثالث : أنه لا يتبعض ولا ينقسم ، وقد فسر المراد به هنا في قوله؛ لا إله إلاّ هو .
وأعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولى : توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا ، وينجي من الخلود في النار في الآخرة ، وهو نفي اشركاء والأنداد ، والصاحبة والأولاد ، والأشباه والأضداد . الدرجة الثانية : توحيد الخاصة ، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن ، وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل ، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق ، فلا يرجو إلا الله ، ولا يخاف أحداً سواه إذ ليس يرى فاعلاً إلاّ إياه ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر ، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب ، والدرجة الثالثة : ألا يرى في الوجود إلا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات ، حتى كأنها عنده معدومة . وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه ، وعن توحيده : أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } الآية ، ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيهاً على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله : وإلهكم إله واحد { واختلاف الليل والنهار } أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر ، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر { بِمَا يَنفَعُ الناس } من التجارة وغيرها { وَتَصْرِيفِ الرياح } إرسالها من جهات مختلفة ، وهي الجهات الأربع ، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر وعقيم ، وصر ، وللنصر ، وللهلاك .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{ والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين : إحداهما : المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن ، وهي واجبة ، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون ، والأولياء والأصفياء ، وهي أعلى المقامات ، وغاية المطلوبات ، فإن سائر مقامات الصالحين : كالخوف ، والجراء ، والتوكل ، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس ، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه ، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه؛ بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة ، واعلم أن سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة ، وتضعف على قدر ضعف المعرفة .