وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد. فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر, وإن اقترنا فالفرق ما ذكر. وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه, لأنه لم يرفع به فصار وبالا عليه, فلو لم يكن عالما لكان خيرا له وأخف لعذابه. وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته, وأن اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى. وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس, ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض, وميل بكليّته إلى ما هناك, وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض, ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به, قال مالك بن نويرة
بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
وعبّر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض, لأن الدنيا هي الأرض وما فيها وما يستخرج منها من الزينة والمتاع. وثامنها: أنه رغب عن هداه, واتبع هواه, فجعل هواه إماما له, يقتدي به ويتبعه. وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة, وأسقطها نفسا, وأبخلها وأشدها كلبا, ولهذا سمي كلبا. وعاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا, وعدم صبره عنها, وجزعه لفقدها, وحرصه على تحصيلها, بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد, وهكذا. هذا إن ترك فهو لهثان على الدنيا, وإن وعظ وزجر فهو كذلك. فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب. قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب في حال الكلال (الأكل), وحال الراحة, وحال الري, وحال العطش, فضربه الله مثلا لهذا الكافر فقال: إن وعظته فهو ضال, وإن تركته فهو ضال, وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث, وإن تركته على حاله لهث. وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب, وإنما وقع بالكلب اللاهث, وذلك أخس ما يكون وأشنعه.
فصل
فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة, وأما العابد الجاهل فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه. ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: احذروا فتنة العالم الفاجر, وفتنة العابد الجاهل, فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون, فهذا بجهله يصد عن العلم وموجبه, وذاك بغيّه يدعو إلى الفجور. وقد ضرب الله سبحانه مثل النوع الآخر بقوله: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} الحشر 16-17, وقصته معروفة, فإنه بنى أساس أمره على عبادة الله بجهل, فأوقعه الشيطان بجهله, وكفّره بجهله. فهذا إمام كل عابد جاهل يكفر ولا يدري, وذاك إمام كل عالم فاجر, يختار الدنيا على الآخرة. وقد جعل سبحانه رضى العبد بالدنيا, وطمأنينته وغفلته عن معرفة آياته, وتدبرها والعمل بها, سبب شقائه وهلاكه, ولا يجتمع هذان, أعني الرضا بالدنيا والغفلة عن آيات الرب إلا في قلب من لا يؤمن بالمعاد, ولا يرجو لقاء رب العباد, وإلا فلو رسخ قدمه في الإيمان بالمعاد, لما رضي الدنيا, ولا اطمأن إليها, ولا أعرض عن آيات الله. وأنت إذا تأملت أحوال الناس وجدت هذا الضرب هو الغالب على الناس وهم عمّار الدنيا. وأقل الناس عددا من هو على خلاف ذلك, وهو من أشد الناس غربة بينهم, لهم شأن وله شأن, علمه غير علومهم, وإرادته غير إرادتهم, وطريقه غير طريقهم, فهو في واد وهم في واد, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ* أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}يونس 8,7. ثم ذكر وصف ضد هؤلاء ومآلهم وعاقبتهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}يونس 9. فهؤلاء إيمانهم بلقاء الله أورثهم عدم الرضا بالدنيا والطمأنينة إليها, ودوام ذكر آياته, فهذه مواريث الإيمان بالمعاد, وتلك مواريث عدم الإيمان به والغفلة عنه.