قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي ذر جُنْدبِ بنِ جُنَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، أيُّ الأعمالِ أفْضَلُ؟.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الحديث حديث أبي ذر جند بن جنادة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو تضمن أسئلة وجهت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأجاب عنها.
أي الأعمال أفضل؟
أول هذه الأسئلة التي سألها أبو ذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أي الأعمال أفضل؟ وهذا السؤال تكرر من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله أبو هريرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سأله ابن مسعود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسأله معاذ حيث قال: دلني على عمل يقربني من الله يدخلني الجنة أو يقربني إلى الجنة ويبعدني عن النار، فتنوعت أسئلة الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ عن أفضل الأعمال التي هي أحب إلى الله والتي هي طريق الدخول إلى الجنة.
سؤالهم من فقههم وعلمهم:
وذاك لعلمهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أن الجنة لها ثمن، فإن الجنة لا تنال بالأماني والتمني، بل لابد من عمل يدرك به الإنسان ما يؤمله من رحمة الله ـ جل في علاه ـ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف: 72] فطريق تحصيل الجنة هو العمل، وينبغي للعامل أن يبحث عن أفضل ما يوصله إلى مطلوبة، أفضل ما يقربه إلى منشودة، وذلك أن الأعمال في إيصالها إلى المطلوب على مراتب ودرجات، ليست على مرتبة واحدة ولا على درجة واحدة، بل على درجات كثيرة وطريق تحصيل ذلك بالبحث عن أفضلها وأطيبها وأحبها.
تنوع إجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسب الأحوال:
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنوعت إجاباته لأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أفضل العمل تنوعًا لفظيًا وإلا فالحقيقة هي متفقة في المعنى وقد بينها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي هريرة في البخاري حيث قال: فيما يخبر بها عن الله ـ عز وجل ـ «مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنْتُه بالحَربِ، وما تقرَّبَ إليَّ عَبدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افترضْتُ عليه»[صحيح البخاري (6502)] فأحب ما يتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ الفرائض وهو أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله ـ عز وجل ـ ورأس ذلك الإيمان.
الإيمان بالله رأس الأعمال:
ولهذا قال في حديث أبي ذر في بيان أفضل العمل قال: الإيمان بالله، والإيمان بالله هو الإقرار بالله ـ عز وجل ـ الإيمان به وبأسمائه وصفاته بإلوهيته وربوبيته، فالإيمان بالله ـ عز وجل ـ يتضمن كل هذه المعاني ويتضمن أيضًا الإيمان بكتبه وملائكته ورسله والقدر خيره وشره واليوم الآخر، فالإيمان بالله عنوان لكل أصول الإيمان التي يجب أن تقر في القلب ويؤمن بها العبد، فالإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، فيقر العبد بالله ـ عز وجل ـ بما أخبر به عن نفسه ويقر بما يجب الإقرار به من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
كل هذا مندرج في أفضل العمل، في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإيمان بالله ويلتحق بهذا أيضًا بعد الإيمان بالله ما يكون من أعمال الجوارح التي لابد منها وهي مباني الإسلام الأربعة بعد الشهادتين، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.
حقوق الله ـ عز وجل ـ وحقوق العباد:
وهذه كلها في حقوق الله ـ عز وجل ـ فهي من أفضل الأعمال، بل هي أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله ـ عز وجل ـ بعد هذا تأتي فرائض الأعيان المتعلقة بالخلق كبر الوالدين وإكرام الجيران وأداء الأمانات وما أشبه ذلك من الحقوق التي فرضها الله ـ تعالى ـ للعبد التي فرضها للعباد من الوالدين وذوي القربى والجيران وذوي الأرحام وغيرهم ممن له حق من خلق الله ـ عز وجل ـ على الإنسان، فإن فرائضهم تلي ذلك في الفضل بعد الفرائض بأنواعها.
الفرائض التي هي لله، والفرائض التي للخلق أفضل العمل ما كان أعظم نفعًا وأجرًا، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث بأفضل العمل وهو الجهاد، وهو إذا كان فرضًا فهو داخل في الإيمان بالله، وإن كان نفلًا فهو إشارة إلى أفضل الأعمال من التطوعات، والجهاد نوعان:
جهاد بالسيف والسنان: وهو الذي ينصرف إلى الذهن عن الإطلاق.
وجهاد بالعلم والبيان: وهو الأصل الذي يكون مبدأ العمل.
فإن الجهاد بالعلم والبيان هو الذي أمر به أولًا في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾[الفرقان: 52] فينبغي للمؤمن أن يعي هذا الترتيب في فضائل العمل حتى يسابق إلى الله ـ عز وجل ـ بالتقرب إليه بالأفضل في الفرائض وفي النوافل، فانظر إلى قلبك وما حواه من عقائد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وانظر إلى عملك فتش عن الفرائض ومدى إقامتك لها ثم بعد ذلك تقرب إليه بسائر ما يفتح الله عليك من النوافل وابحث عن الأنفع والأعلى والأقرب.
وإذا فتح لك في باب فالزمه فما كان أصلح لقلبك، فهو أفضل من غيره، ولذلك فضائل الأعمال لها جانبان:
الجانب الأول: الفضائل المتعلقة بذات العمل.
وهذا الإيمان بالله والجهاد في سبيله وما أجاب به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بقية الأحاديث.
والجانب الثاني: فضائل تتعلق بالزمان أو المكان أو الشخص أو الحال وهذه تختلف باختلاف متعدد وعليه يجري اختلاف الجواب في أفضل العمل بالنسبة للسائلين.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، استعملنا ربنا فيما تحب وترضى واصرف عنا السوء والفحشاء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.