المقدم:مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحيكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، في هذه الحلقة المباشرة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة، بمشيئة الله تعالى في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج/ مصطفى مستنطق.
مستمعينا الكرام ضيفنا الكريم في حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ خالد، السلام عليكم، وأهلًا وسهلًا بك، حياك الله.
الشيخ:حياكم الله، وأهلًا وسهلًا بكم، وأسأل الله أن يجعله لقاءً نافعًا مباركًا.
المقدم:اللهم آمين، بمشيئة الله تعالى مستمعينا الكرام سيكون حديثنا في هذه الحلقة تحت عنوان حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا تحقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا»[صحيح مسلم:ح2626/144] الإنسان في هذه الدنيا مطالب بالعمل الصالح ومطالب بالتقرب إلى الله - تبارك وتعالى -، وما خلق الله - تبارك وتعالى - الإنسان إلا لعبادته جل في علاه. سنتحدث -بمشيئة الله تعالى- تحت هذا الحديث، وأيضًا في سياق الآية الكريمة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾ الزلزلة: 7 وأيضًا الآيات الدالة على العمل الصالح والتي تحث الإنسان على العمل الصالح.
ابتداءً فضيلة الشيخ؛ بودي أن أتحدث تحت هذا العنوان كمقدمة، ومن ثم سندلف إلى بقية النقاط التي سنتحدث عنها بمشيئة الله تعالى.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يجعله لقاءً مباركًا.
فيما يتعلق بهذه الحلقة نتحدث عن موضوع أشار إليه قول الحق جل في علاه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾ الزلزلة: 7 هذه الآية الكريمة وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ«الآية الفاذَّة الجامعة»[صحيح البخاري:ح2860]؛ وذلك أنها ندبت إلى كل ما فيه صلاح دينه واستقامة قلبه وما يفتح له أبواب البر والطاعة والإحسان.
النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر عن أنواع من الصدقات وصنوف من البر وألوان من الأجور المرتبة على تلك الأعمال؛ فسئل - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر ما في الخيل من الأجر عن الحُمُر؛ أي: في امتلاكها واستعمالها في أوجه البر؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : «فلم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ الزلزلة: 7 - 8 ».[تقدم]
الله تعالى ندب العباد إلى صالح الأعمال وإلى أنواع البر بصنوفها المتنوعة وأبوابها المختلفة، والراشد من المؤمنين ومن الذين بلغهم خطاب رب العالمين مَن سابق في تلك الأبواب واجتهد في أنواع وصنوف الخيرات؛ وذلك أن هذه الدار دار تزوُّد، ودار استكثار من صالح العمل؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البقرة: 197 ، ولما بين أن خير ما يتزود به الإنسان التقوى جاءت الآيات والأحاديث في تفصيل هذه الخصال المندرجة تحت التقوى والذي يتحقق بها امتثال أمر الله - عز وجل - بالتزود في الصالحات، والأعمال الصالحة على مرتبتين: مرتبة فيها إلزام، ومرتبة فيها ندب وحثٌّ وترغيب دون إلزام.
ما كان فيه إلزام هو الواجب من العمل، وهذا أحب ما تقرب به العبد إلى الله - عز وجل - سواء كان ذلك في حقه أو فيما فرضه من العبادات والشرائع، أو ما كان في حق عباده، أو ما كان في حق الإنسان نفسه، أو غير ذلك مما يدخل في عموم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ النساء: 58 ؛ فهذه فرائض وواجبات يجب على المؤمن أن يأتي منها ما فرض الله تعالى عليه؛ فإن ذلك أحب ما تقرب به العبد إلى الله - عز وجل -، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الإلهي فيما يرويه عن الله - عز وجل -: «وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدي بِشيءٍ أحبَّ إِلَيَّ مِمّا افْتَرَضْتُهُ عليهِ».[صحيح البخاري:ح6502]
بعد الفرائض ثمة صالحات وقربات وأبواب من الخير وصنوف من المَبرَّات، كل هذه الأبواب زاد يتزود بها الإنسان ليُردَّ إلى لقاء ربه -جل في علاه-: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ الانشقاق: 6 .
فهو يتزود للقاء ربه في صالح العمل بعد الفرائض والواجبات، والناس في هذا على مراتب ودرجات: مُستقِلٌّ ومُستَكثِر، لكن مما يفوت على الإنسان الخير الكثير ويجعله يقدم لعمل قليل في يوم لا درهم فيه ولا دينار؛ إنما الحسنات والسيئات أن يحتقر الصالحات، أن تقلَّ في عينه منزلة العمل، وهذا من مداخل الشيطان الكبرى على الإنسان؛ فإنه يدخل عليه مزهِّدًا إياه في العمل الصالح بأنه لا ينفعه أو لا أجر فيه أو أجره قليل وما إلى ذلك من الوساوس والهواجس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان ليقعد به عن صالح العمل، فلا يأتي صالحًا ولا يبادر إلى خير؛ انفعالًا واستجابةً لهذه الوساوس التي يقذفها في قلبه، ولهذا تضافرت النصوص وتنوَّعت الآيات والأحاديث في الترغيب بالعمل الصالح والحث عليه والندب إليه في الجملة، والصغير الحقير منه على وجه الخصوص، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن احتقار العمل الصالح مهما دقَّ وقل؛ لأن باب الخير وصنوف البر توصل الإنسان إلى وقاية النار والفوز بالثواب والأجر.
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقوا النَّارَ، ولو بشِقِّ تَمرةٍ»[صحيح البخاري:ح1417] اجعلوا بينكم وبين النار وقايةً ولو كان بجزء تمرة وليس بتمرة مكتملة، إنما بجزء التمرة، ونقول اليوم في حياة الناس هناك من يتصدق بشق التمرة، قليل من يفعل هذا، ولو وجدنا من يتصدق بشق التمرة قد لا نجد من يقبل بذلك، فهذا القليل الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ندب إلى ألا يقف الإنسان عن عمل صالح مهما كان في عينه حقيرًا وما كان في عينه غير ذي بال، وقد يتوهم أنه لا ينفعه أو أنه لن يجني منه خيرًا.
ولهذا ينبغي أن يستحضر الإنسان أن القليل والكثير من العمل ينبغي ألا يبخل فيه الإنسان عن نفسه؛ فإن من يَهتدي يهتدي لنفسه، ومن عمل صالحًا فإنما يسعى في فكاك نفسه ونفعها واكتساب الأجر، وقد نبه إلى ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ الإسراء: 15، وما أشبه ذلك من النصوص المتضافرة في هذا المعنى، ويوم القيامة الوزن ليس فقط العمل الكبير الجليل بل حتى العمل في أدق ما يكون يوزن؛ قال الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ الأنبياء: 47، وهي ما لا يوزن في العادة أتينا بها ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ الأنبياء: 47 وقال تعالى في آية أخرى في وصية لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ لقمان: 16، من خير أو شر﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ وهذا أمنع ما يكون من الأماكن﴿أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ﴾ وهذا أوسع ما يكون من الأماكن التي يصعب تحصيل الخردل فيها﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ لقمان: 16 الله أكبر، فقد أحصاها وعلمها -جل في علاه- وحفظها بالعكس يأتي بها - سبحانه وتعالى - عمدًا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ جل في علاه.
وبالتالي ينبغي للإنسان ألا يزهد في شيء من العمل قليلًا أو كثيرًا، وأن يبادر إلى كل صالح، وهناك نماذج عديدة جاء في السنة ذكرها، في بيان منافع أعمال قد يحتقرها الإنسان ورتب عليها الله تعالى إما أجرًا عظيمًا أو بين النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلها ووجوب العناية بها وعدم احتقارها.
المقدم: فضيلة الشيخ قبل أن نتحدث عن هذه الشواهد إذا سمحت لي أيضًا في التحذير من خطورة احتقار العمل نقول: إن العمل اليسير من المعروف قد يكون كبيرًا عند الله - تبارك وتعالى - وذلك قد يكون بسبب حسن النية من العبد أو قد يكون بسبب شدة حال العمل، في بعض الأحيان يكون العمل شديد الحاجة؛ بسبب حاجة الشخص إلى هذا العمل، وفي بعض الأحيان يكون العمل شديد الحاجة بسبب الزمن الذي يعمل فيه هذا الإنسان كقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ*فَكُّ رَقَبَةٍ*أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ البلد: 11 - 14 .
الشيخ: نعم، العمل قد يكون في ذاته قليلًا، لكن يحتف به من موجبات التعظيم عند رب العالمين ما يكون في منزلة عظيمة رفيعة عالية، وسنشير إلى هذا -إن شاء الله تعالى- في ثنايا حديثنا بذكر الشواهد لعمل قد يكون قليلًا لكن يحتَفُّ به من الموجبات ما يجعله عند الله عظيمًا.
المقدم: حياكم الله مستمعينا الكرام مجددًا في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، وضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم، فضيلة الشيخ أهلًا وسهلًا، حياك الله يا مرحبا.
الشيخ: الله يحييك، مرحبًا بك وأهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله.
المقدم: أهلًا وسهلًا فضيلة الشيخ، كنا نتحدث قبل الفاصل حول مقدمة التحذير من خطورة احتقار العمل، وأيضًا أن الواجب على الإنسان المسلم في هذه الحياة هو عبادة الله - تبارك وتعالى - حق عبادته بكل أنواع العبادة والقربى لله - جل وعلا -.
في الدقائق القادمة فضيلة الشيخ؛ بودي أن أتحدث عن بعض الشواهد من سنة النبي الأكرم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- لبعض الأعمال الصغيرة والتي يترتب عليها أيضًا أجور كبيرة من الله - تبارك وتعالى -.
الشيخ: أخي الكريم النهي عن احتقار العمل جاء عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في عدة مناسبات وفي عدة مواضع؛ فمن أشهر ما جاء في ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ»[سبق] هذه الوصية النبوية وهي نهي عن احتقار العمل تضمنت التنبيه إلى ضرورة النظر إلى العمل لا فيما يتصل بحجمه وعظمه وكبير نفعه إنما فيما يتصل بكونه عملًا صالحًا يحبه الله - عز وجل -؛ ففي كل عمل تقبل عليه لا تلتفت أو لا تنشغل بعظم العمل وكبره وعظيم نفعه إنما ليكن همك فيما تأخذ من الأعمال أن يكون مما يحبه الله - عز وجل - ولهذا قال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ»، والمعروف هو كل ما أمر الله به تعالى ورسوله، كل ما يحبه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة والباطنة الواجبة والمستحبة، كل هذا يندرج في المعروف الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا»، وهذا التنبيه لئلا يدع الإنسان العمل إذا تيسر له وهو في عينه حقير.
بمعنى أنه عندما تسنح لك فرصة لعمل صالح، فلا تتركه لكونه حقيرًا إلا أن تشتغل بما هو أعلى منه وأفضل منه وأرفع منه مرتبة هذا يكون في حال تزاحم الأعمال الصالحة يأتي الموازنة بين الأعمال في أيهما يقدم وفي أيهما يأخذ، لكن عندما تتسهل لك تلك الأعمال ويمكنك أن تأتيها جميعًا فآتها على الوجه الذي يرضي الله تعالى عنك وآتها ولا تتكلف في طلب ما لا يتيسر لك، بل كل ما تيسر لك من العمل ولو كان زهيدًا حقيرًا في عينك وليس في المعروف ما هو حقير فبادر إليه.
لكن أحيانًا الاحتقار يأتي من أن الإنسان، قد يستصغر العمل، قد يستصغر أجره، قد يرى لنفسه مكانةً أعلى من أن يشتغل بهذا العمل وفي هذه الأحوال كلها ينبغي أن يغلق الإنسان مداخل الشيطان وألا يسمح له بأن يمنعه من العمل لأنه يراه ضعيفًا أو حقيرًا أو صغيرًا، بل يحتسب الأجر عند الله - عز وجل - ويأتي إليه راغبًا فيما عند الله ولعل هذا العمل القليل الذي زهد فيه أو صغر في عينه يكون هو الموجب لدخول الجنة الموجب للفوز بعطاء الرحمن جل في علاه، فكم من عمل كان في عين الإنسان لا قيمة له كان موجبًا لجزاء وأجر عظيم «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ»[سبق]، وهذا إنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وجه من أوجه الإحسان ما لا يحتاج إلى تكلف لا يحتاج إلى معاناة في الوصول إليه؛ فإن الوجه الطلق وهو الوجه المستبشر الذي لا عبوس فيه ولا تقطيب يتمكن منه كل إنسان، يتمكن منه الغني، الفقير، الصغير، الكبير، الذكر، الأنثى، فليس ثمة ما يعجز الإنسان عن أن يتحلى بهذه الخصلة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدَّها من المعروف حيث قال: «ولو أنْ تَلْقى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ» فدل هذا على أن طلاقة الوجه والبشر بالابتسامة وبزوال التقطيب والعبوس مما يؤجر عليه الإنسان ومما يناله به ثوابًا وأجرًا، وهو من المعروف الذي ينال به قبولًا عند الله - عز وجل - وأجرًا وقبولًا عند الخلق؛ فإن التزامه حسنة يدرك بها الإنسان من فتح القلوب وحسن المعاملة للخلق ما يكون موجبًا لخير عظيم وبر كبير.
هذا نموذج مما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل الصالح الذي حذر فيه من الاحتقار للعمل وعدم الإقبال عليه.
ومما جاء في ذلك أيضًا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأبي تميمة عن أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِي وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المعروف قال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا» وهذه قاعدة في الجواب عن المعروف: أن المعروف مهما كان في عينك دقيقًا فإنه ينبغي ألا يكون ذلك مانعًا من الإقبال عليه، بعد أن نهاه - صلى الله عليه وسلم - هو يسأل عن المعروف: ما المعروف؟ فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المعروف بمعنًى واسع، المعروف لا يقتصر فقط على جليل الأعمال وكبيرها، بل المعروف حتى في الأعمال التي تزهد فيها النفوس وتستصغرها وقد تحتقرها؛ قال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا».
ثم ذكر نماذج من العمل القليل الذي يحتقره بعض الناس فيزهد فيه، قال: «ولو أن تعطي صلةَ الحبل» يعني أن تعطي الحبل الذي ينتفع به الإنسان، وليس حبلًا كاملًا، صلة الحبل يعني حبلًا تصل به حبلًا آخر، صلة الحبل الذي ينتفع به الإنسان، وهو في الغالب لا يؤبه به ولا يلتفت إليه، وقد يزهد في بذله، «ولو أن تعطي شِسْعَ النعل» يعني أن تعطي ما يربط الإنسان به نعاله «ولو أن تفرغ من دَلوِك في إناء المُستَسقي» يعني إذا جاء من يطلب ماءً أو يريد طعامًا فتعطيه مما معك ولو كان شيئًا يسيرًا بإفراغ شيء من الماء في دلو السائل أو في كوبه أو في إنائه، وكذلك الطعام، «ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي»، هذه كلها أعمال فيها عطاء، كلها أعمال تعطي فيها شيئًا لا يؤبه به، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى ذلك ونهى عن احتقار هذا؛ لما فيه من الأجور ولما فيه من الخير ولما فيه من تربية النفس على البذل والعطاء والاشتغال بالصالح من العمل، «ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم» وهذا عمل بدني، ما فيه إخراج مال، إنما هو إزالة مؤذٍ، إماطة أذى عن الطريق، سواء كان هذا الأذى زبلًا أو كان هذا الأذى حجرًا، أو كان ما كان مما يعوق الناس ويؤذيهم، «ولو أن تنحي الشيء» انظر يقول: «الشيء» يعني ليس بالشيء الكبير، إنما الشيء الذي يتأذى به الناس «من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق» ثم قال: «ولو أن تلقى أخاك فتُسِلَّم عليه» يعني ولو بإلقاء السلام، فـ«الكلمة الطيبة صدقة»[صحيح البخاري:ح2989] كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ومن الكلمة الطيبة السلام بإلقائه على من عرفت وعلى من لم تعرف.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في عمل من الأعمال التي تحتقر ونهى عن احتقارها قال «ولو أن تُؤنِس الوحشان في الأرض»[ مسند أحمد:ح15955، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح2687] يعني ولو أن تدخل السرور على من أصابته وحشة، من أصابه ما يخيفه أو يقلقه فتدخل عليه السرور، تدخل عليه الأمان، تدخل عليه الأُنس، تدخل عليه الطمأنينة إما بقول أو فعل؛ فإن ذلك مما يأجرك الله تعالى عليه وهو من المعروف الذي نُهيتَ عن احتقاره.
هذه النماذج من الأعمال التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن احتقارها هي من الأعمال الدائمة التي يباشرها الإنسان، وهي نماذج لأعمال كانت في زمانهم، اليوم في زماننا هذا أعمال كثيرة تكون من أعمال البر يحتقرها الإنسان، أضرب لذلك مثلًا: بقايا الطعام التي يفرغ منها الإنسان سواء بقايا الطعام المستعمل الذي أكل منه وفضل شيء منه، أو ما فضل من الطعام حتى ولو لم يمسه كأن يشتري مثلًا عددًا من الطعام فيزيد عليه شيء من الطعام، كثير من الناس يزهد في إيصاله إلى المحتاجين؛ فتجده إما أن يتركه في مكانه أو يلقيه أو يهمله فيضعه في الثلاجة مثلًا وتبقى عليه مدة طويلة ثم يؤول حاله إلى أن يلقى.
كل هذه الصور مما يتعلق بالأطعمة التي يزهد الناس في إيصالها لذوي الحاجات أو لمن ينتفع بها حتى ولو لم يكن ذا حاجة، أي لم يكن فقيرًا، من الصور المتكررة في حياتنا.
يشتري الإنسان شيئًا من الماء، الآن هذا كثير في حياتنا، يشتري قارورة ماء ويشرب منها ما يشرب، ويفضل في الإناء شيء، أكثر الناس يلقي هذه القوارير، وهذا من التفريط في الخير؛ إذ إن هذا قد يكون لا يقبل أن يشرب بعدك، هذا احتمال أن يكون واردًا، لكن هناك من الناس من يقبل، وإذا كان لا يقبل فلا يمنع من أن تضع هذا الماء في موضع يمكن أن تنتفع به فتضعه في موضع زراعة، حديقة أو شجر، فيكون سقاءً لها فتشارك في سقي هذه الشجرة التي ينتفع بها من ينتفع من الطير والإنس وغيرهم، فيكون ذلك مما لك فيه سهم من الأسهم والثواب.
هذه أعمال نحتقرها ونتقالها، ونرى أنها لا تؤثر، وليس لها قيمة، وهي عند الله عظيمة، إذا قارنها ما يكون من الرغبة فيما عند الله تعالى: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا»[سبق].
وأنا ذكرت مثالين، والأمثلة في هذا كثيرة جدًّا، وأكثر من أن تحصر، ويمكن للإنسان أن يرقب في نفسه أبوابًا إلى الخير، إذا دخل إلى مكان سواء دائرة حكومية أو محل عمله أو قابل من له حاجة إليه أو دخل مسجدًا أو لقي فقيرًا، فما الذي يمنع من أن تستقبلهم بالبِشر؟ ما الذي يمنع أن تلقي كلمة طيبة: السلام عليكم ورحمة الله، التحية الحسنة؟ كل هذه أبواب من أبواب البر والخير نحن بحاجة إليها، وهي بين أيدينا نفرط فيها وتكون سببًا لفوات خيرات كثيرة يكون الإنسان فيها محرومًا من ذلك الباب ومن ذلك المعروف ومن ذلك الخير، في حين أنه لو أقبل عليها لكان لها شأن:
أولًا: هو مأجور على الإحسان، والعمل المتعدي الفاضل الخيِّر هو مما يؤجر عليه الإنسان على وجه الإطلاق؛ يعني أنت مأجور على الكلمة الطيبة ولو كان هذا سجيةً، وأنت مأجور على البسمة ولو لم تقصد بذلك التقرب إلى الله تعالى بالابتسامة؛ لأن الأعمال التي يتعدى نفعها ويحصل بها خير يؤجر عليها الإنسان ولو لم يستحضر النية في ذلك؛ قال الله - عز وجل -: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ النساء: 114 فأثبت الخيرية في هذه الأبواب كلها ثم قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ النساء: 114 ؛ فجعل الأجر العظيم مرتبًا على نية التقرب إلى الله تعالى بذلك العمل، لكن حتى لو لم يكن الإنسان قد نوى بهذه الأعمال التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن احتقارها؛ الأعمال الصالحة التي فيها خير وفيها بر وفيها إحسان متعدٍّ هو مأجور على ذلك.
وأحيانًا قد يتكلم الإنسان بالكلمة لا يلقي لها بالًا وليس في ظنه أن تبلغ عند الله مبلغًا عظيمًا ويجري له بها أجر عظيم، فيبلغه الله تعالى بهذه الكلمة مراتب عالية، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك فيما جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من رضوان الله» لم يحدد الكلمة، ما هي الكلمة؟ لم يحددها لكن قال: «يتكلم بالكلمة من رضوان الله» يعني هي تبلغ من رضوان الله ومحبته مبلغًا عظيمًا هو عنه غافل لا يلقي لها بالًا «يرفعه الله بها درجات».[صحيح البخاري:ح6478]
فالكلمة الطيبة معروف وأجر وخير وبر فلا تبخل على نفسك بكلمة قد تكون موجبة لهذا العلو العظيم وهذه الرفعة العالية التي تؤجر بها.
والكلام لا يعجز عنه الإنسان، الكلام هو أكثر ما يكون من عمل الإنسان، فينبغي له أن يعمر كلامه بكل ما يكون سببًا لجريان الأجر عليه: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ» ولو أن تقول له كلمة تسرُّه بها ويكون لك بذلك الأجر العظيم.
كثير من الأعمال أيضًا يجري على الإنسان عملها وهو غافل عما يرتب الله تعالى عليها من الأجر، أذكر مثالين لهذا.
المقدم: فضيلة الشيخ كنا نتحدث عن بعض الشواهد من سنة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه لبعض الأعمال اليسيرة والتي يترتب عليها أجور كبيرة.
الشيخ: أخي الكريم مثلما تقدم؛ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عديدة نهى عن احتقار العمل الصالح وأن الإنسان ينبغي له ألا يحقر شيئًا من المعروف مهما دقَّ في نظره ومهما كان صغيرًا في عينه؛ فإن العمل الصالح له من الفضل عند الله - عز وجل - والأجر ما ينبغي ألا يحتقره الإنسان وألا يتقالَّه، والأجر ليس مرتبًا على عظم العمل وكبره؛ فإن الأجر جارٍ على القليل والكثير والصغير والكبير من العمل الصالح؛ ولهذا في المعاملة والإحسان إلى الخلق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا نساءَ المؤمناتِ، لا تحقرن إحداكنَّ لِجارتِها ولو فِرسنَ شاةٍ»[صحيح البخاري:ح2566] هذا الحديث معناه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجه نساء المؤمنات أنه لا تحقر الواحدة من النساء ما تهديه لجارتها ولو كان شيئًا يسيرًا وهو فرسن الشاة، وفرسن الشاة هو ظِلْفها الذي لا يؤكل عادةً ولا يطلب، ولذلك قال: «ولو فرسن شاة مُحرقًا»[معرفة السنن والآثار للطحاوي:ح8522] كما في رواية أخرى، يعني مهما صغر فينبغي للإنسان ألا يحتقر ذلك؛ فإن احتقار ذلك يجعله يقعد عن العمل الصالح لا يُقبل عليه، والمعروف لا يقاس بحجمه وإنما يقاس بصدق الرغبة فيما عند الله - عز وجل -؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[سبق]، وهنا يقول - صلى الله عليه وسلم -: «يا نساءَ المؤمناتِ، لا تحقرنَّ إحداكنَّ لِجارتِها ولو فِرسنَ شاةٍ»[سبق] يعني أقل ما يمكن أن يبذل على وجه الهدية مما يدخل به حسن الصلة مع الجيران والإكرام لهم، ينبغي ألا يبخل به الإنسان، وهذا النهي العلماء حملوه على وجهين وكلاهما صحيح: «لا تحقرنَّ إحداكنَّ لِجارتِها ولو فِرسنَ شاةٍ محرقًا» يعني لا تبخل ولاتتأخر عن تقديم كل ما يمكن أن يكون هديةً أو إحسانًا إلى جارتها، في المقابل من أهدي إليه ينبغي ألا يحتقر الهدية مهما كانت قليلة، بعض الناس إذا جاءته هدية ورأى أنها دون المستوى أو لا حاجة به إليها؛ قد تصغر في عينه وقد لا يقبلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك بقوله: «لا تحقرنَّ إحداكنَّ لِجارتِها ولو فِرسنَ شاةٍ محرقًا» وبالتالي كل ما عندك من الخير لا تبخل به على غيرك، وكل ما وصلك من إحسان الناس إليك فلا تحتقره فإنه خير لك؛ إن قبلته أدخلت السرور على من بذله لك. هذا كله مما يؤكد هذا المعنى.
ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت الأجر للعمل ولو كان قليلًا زهيدًا حتى فيما قد لا ينتفع منه، كما ضربنا مثالًا بهذا الحديث، وأيضًا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من بنى لله بيتًا بنى الله له بيتًا في الجنةِ»[صحيح مسلم:ح533/43] وفي حديث قال - صلى الله عليه وسلم - : «ولَو كان مِفْحَصِ قَطاةٍ»[سنن ابن ماجه:ح738، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح269] هذا تنبيه إلى أن أدنى ما يكون مما ينتفع به مما يبنى للتقرب إلى الله تعالى فإنه يؤجر عليه الإنسان، يقول: «مَن بنى للهِ مسجِدًا ولَو كمِفْحَصِ قَطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتًا في الجنَّةِ»[سبق] طبعًا مفحص القطاة ما هو؟ مفحص القطاة: عش الطائر الصغير، ومعلوم أن عش الطائر الصغير لا ينتفع به في الغالب ولا يلتفت إليه، ومع هذا رتب الله تعالى عليه الأجر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن بنى للهِ عز وجل مسجِدًا ولَو كمِفْحَصِ قَطاةٍ» وهي الحفرة التي تحفرها القطاة في الأرض لتبيض فيها أو ترقد، فهو عش الطائر الصغير «بنى الله له بيتًا في الجنة»، وهذا تنبيه إلى أن العمل مهما كان قليلًا فهو عند الله عظيم يجري الله تعالى به للعبد الأجر والثواب.
وقد جاءت أحاديث تخبر عن نتائج لأعمال صالحة وثواب على عمل صالح مما قد يبعد أو يغلب على الظن أن ذلك مما يؤجر عليه الإنسان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رجل وجد غصن شوك في طريق فنحَّاه فرتب الله تعالى على هذه التنحية والإزالة لذلك الغصن الأجر العظيم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: «لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»[صحيح مسلم:ح1914/129] يعني أماط أذى عن الطريق، فكان هذا موجبًا لهذا الأجر العظيم، يعني شكر الله له وتقلب في الجنة أي أدخله الله الجنة بسبب إماطة الأذى عن الطريق، فجميع خصال الإيمان ولو كانت أدناها وليس فيها دني؛ هي ما يجري الله تعالى به على الإنسان الأجر.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَيْنا رَجُلٌ يَمْشِي، فاشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَنَزَلَ بئْرًا، فَشَرِبَ مِنْها، ثُمَّ خَرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرى مِنَ العَطَشِ» أي: أصابه عطش شديد حتى أنه يمص التراب حتى يجد رطوبة يسد بها عطشه«فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ» يعني نزل البئر، ولا يمكن أن يخرج منه وفي يده إناء أو في يده الظرف الذي وضع فيه الماء للكلب، فما كان منه إلا أن ملأ خفه ووضعه في فمه فسقى الكلب، هذا إحسان لمن لا يرجى منه مقابل، إنما قام في قلبه هذا من الرحمة لهذا الحيوان ما جعله يخاطر بنفسه ويفعل هذا الفعل لا يرقب منه أجرًا، إنما يرقب الأجر من الله «فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له»، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟انظر! حتى البهائم، استغربوا كيف يؤجر هذا على كلب؟! قالَ:«في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ»[صحيح البخاري:ح2363] أي: في كل كبد تحسن إليها من إنسان أو حيوان لك في ذلك أجر.
وفي بعض الأحيان يعمل الإنسان عملًا يرجو من الله تعالى الثواب، وقد يكون قد أسرف على نفسه، لكن هذا العمل يبلغه من حطِّ الخطايا ورفعة الدرجات ما ترتفع به منزلته ويكون منزله عند الله عظيمًا؛ في السنن عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ رجلًا لَم يعملْ خَيرًا قطُّ» ليس عنده أعمال خير قط، ومعنى النفي هنا: أي: ليس عنده عمل صالح غير الواجبات، «وكان يُدايِنُ النّاسَ، فيقولُ لرَسولِه: خُذْ ما تَيَسَّر واترُكْ ما عَسُرَ، وتجاوَزْ» يعني هو عنده مال وكان يديِّن الناس ويسترجع منهم هذه الأموال، وهذا هو العمل الوحيد الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - له من الخير، وإضافة لمداينة الناس وقضاء حوائجهم كان ييسر على المعسر ولا يشدِّد عليه ويقول: «لعلَّ اللهَ أن يتجاوَزَ عنَّا، فلمَّا هلَكَ قال اللهُ: هل عمِلتَ خيرًا قطُّ؟ قال: لا، إلَّا أنَّه كانَ لي غلامٌ، وكنتُ أُدايِنُ النَّاسَ، فإذا بَعَثْتُه يَتقاضى قلتُ لهُ: خُذْ ما تَيَسَّرَ، واترُكْ ما عَسُرَ، وتجاوَزْ، لعلَّ اللهَ أن يتجاوَزَ عنَّا، قال اللهُ: قد تجاوَزتُ عنكَ»[صحيح مسلم:ح1560/26] هذا الحديث في سنن النسائي دالٌّ على أن الإنسان إذا بذل عملًا ورقب من الله تعالى الأجر، فإنه لن يخيب، لن يخيب، لن يخيب؛ لأن الله تعالى يعطي على القليل الكثير، هناك أعمال نحن نفعلها بمقتضى الجِبِلَّة أحيانًا بمقتضى الطبيعة، وقد نغفل عن أننا نؤجر على ذلك.
عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهن تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة، يعني ثلاث تمرات كل واحدة أخذت منها تمرة، عائشة أعطت ثلاث تمرات صدقةً: «اتقوا النار ولو بشق تَمرة»، هذه المرأة أخذت تمرةً وأعطت بنتًا واحدةً والبنت الأخرى أعطتها تمرةً، ورفعت الثالثة لتأكلها هي، فاستطعمتها ابنتاها، أي: أن البنتين ما شبعتا من التمرة، وطمعتا في التمرة التي وضعتها هذه المرأة في فمها، فما كان من هذه المرأة - رحمةً منها - إلا أن شقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبت عائشة بشأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فماذا كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ هذا الفعل قد يفعله الإنسان من تلقاء نفسه رحمةً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار».[صحيح مسلم:ح2630/148]
لا تحقر من العمل شيئًا حتى لو كان عملًا فطريًّا طبيعيًّا تفعله أنت مع ولدك، مع من تعاشره، مع والدك، مع سائر الناس، حتى النفقة التي تنفقها على أهلك أنت لك فيها أجر إذا احتسبت الأجر عند الله تعالى في ذلك.
إذن؛ لا نحتقر شيئًا من المعروف، شيئًا من الصالح، ولكن ينبغي أن نعلم أن الأجور تتضاعف وتعظم عندما ترافقها النية الصالحة، عندما يرافقها الرغبة فيما عند الله؛ فإن العمل القليل يكون عند الله عظيمًا يدخل به الإنسان الجنة؛ مثل الحديث الذي ذكرناه في قصة المرأة مع البنتين لما شقت التمرة بينهما ورحمَتْهُما وآثرتهما على نفسها كان ذلك موجبًا لدخول الجنة، فأوجب الله لها الجنة أو أخرجها من النار.
والكلب أيضًا صورة أخرى في حديث الذي شكر الله له فأدخله الجنة فهو يتقلب والآخر الذي يتقلب في الجنة في غصن أزاله من طريق الناس، أقول: أبواب الخير كثيرة والمشكل أننا نحن نحبس أنفسنا عن كثير من الخير بسبب أننا نستصغر ذلك أو نحتقر ذلك «فلا تحقرن من المعروف شيئًا» بالمطلق، بادر إلى كل ما يتيسر لك من المعروف والخير، واحتسب الأجر عند الله - عز وجل -، وأبشر؛ فإن الخير يجلب الخير، والخير يفتح باب الخير، والله كريم يعطي على القليل الكثير.
المقدم: شكر الله لك، وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يجعل أعمالنا في رضاه، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.
الشيخ: آمين، أشكركم وأسأل الله تعالى أن يعيننا على الصالحات، وأن يوفق بلادنا وولاة أمرنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأن يحفظهم وينصرهم، وأن يدفع عنا وعن المسلمين كل سوء وشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.