يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عَنْ أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري(2566) وصحيح مسلم (1030).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
النساء شقائق الرجال:
هذا الحديث الشريف حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساء المسلمات وهو نهي للرجال والنساء، فكل خطاب يأتي به الشرع للرجال فالنساء شقائق الرجال، وكل خطاب يأتي به الشرع للنساء فهو خطاب للرجال لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «النِّساءُ شقائِقُ الرِّجالِ»[مسند أحمد (26195)، وقال محققوه: حسن لغيره] لكن قد يتوجه الخطاب مع كونه عامًا للنساء أو للرجال لأمر وحكمة فلكون المرأة هي التي تتولى ما يتعلق بشئون البيت من الطعام ونحوه، كان الخطاب في هذا الحديث للنساء.
النداء بالإسلام أدعى للإجابة:
يا نساء المسلمات أي يا أيها النساء المسلمات ووصفهن بالمسلمات لأنهن أحرى بالإجابة وأدعى لقبول التوجيه النبوي لا تحقرن أي لا تستصغرن امرأة شيئًا من الإحسان لجارتها ولذلك قال: «لا تحقرن جارة لجارتها» أي في الإهداء والعطاء والإحسان والإكرام ولو فرسن شاة ولو هذا للتقليل، فرسن الشاة هو حافرها ضلفها وهو عظم لا لحم فيه وغالبًا لا ينظر إليه، ولا يستفاد منه.
الإحسان إلى الجار:
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه النساء وكذلك الرجال إلى بذل كل إحسان إلى الجيران، ولو كان شيئًا لا ينتفع به في العادة، وهذا مبالغة في ألا يتأخر الإنسان عن كل ما يمكنه من أوجه الإحسان ولو كان قليلًا، وإلا فمعلوم أن بعض المذكورات في الحديث النبوي ليست مقصودة لذاتها لأنه لا ينتفع بها ففرسن الشاة غالبًا لا ينتفع به، لكن ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يحقرن الإنسان مهما قل ومهما كان من العطاء ولو كان زهيدًا.
لا تحقرن من المعروف شيئا:
ومثله قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن بَنى للهِ عزَّ وجلَّ مسجِدًا، ولو كمَفحَصِ قَطاةٍ بُنِيَ له بَيتٌ في الجَنَّةِ»[مسند أحمد (2157)] يعني ولو كان كعش الطير الصغير، ومعلوم أنه لو بني الإنسان مسجد بهذا الحجم ما انتفع به أحد، لكن المقصود ألا يستصغر الإنسان كل ما يبذله في المساجد وبيوت الله ـ عز وجل ـ ولو كان شيئًا زهيدًا قليلًا فإنه عند الله عظيم، وذلك أن العمل القليل إذا قارنه صدق رغبة وحسن نية فإنه يعظم عند الله ـ عز وجل ـ فكم من قليل صار عند الله كثيرًا بما قام في قلب العبد من الإخلاص وصدق النية.
الحرص على الإحسان:
ولهذا ينبغي للإنسان ألا يحقر شيء من الإحسان مهما قل في نظرك، فالقليل إلى القليل الكثير، ثم القليل مع النية الصالحة والإخلاص لله ـ عز وجل ـ يكون عظيمًا كبيرًا، والله ـ تعالى ـ يعطي على القليل الكثير، والشواهد على هذا كثيرة فقد أدخل الله ـ تعالى ـ رجلًا الجنة لكلب سقاه، وغفر لبغي من بني إسرائيل بسبب كلب سقته كما أن قليل الشر قد يفضي بالإنسان إلى الهلاك.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «دخَلَتِ امرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ»[صحيح البخاري (3318)، ومسلم (2619)] ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ»[صحيح البخاري (417)، ومسلم (1016)] وشق التمرة أنتم تنظرون ماذا يغني شق التمرة للجائع؟ ما يغني شيء، لكن الله ـ عز وجل ـ يعطي على القليل الكثير.
فينبغي لنا أن نحرص على الإحسان مهما قل ولا نستصغر وجه من أوجه الإحسان مهما كان صغيرًا.
والحديث يدل على إكرام الجار:
وإكرام الجار من خصال الإيمان قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فليُكرِمْ جارَه» من الجار؟ قيل: الجار الذي يبلغ في البيوت أربعين بيتًا وقيل غير ذلك والصواب أن كل من عده الناس جارًا فهو جار قرب أو بعد، وقد قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: من صلى معك في المسجد فهو جارك، فحده بمن يشهد معك صلاة الفجر لأن الغالب في صلاة الفجر يكون ناس في بيوتهم.
والذي يظهر أن الجار يرجع إلى كل من عدّه الناس جارًا، وهم متفاوتون والأولى بالإكرام الأكرم بابًا من الجيران والإكرام للجار لا يقتصر على صورة، يكون الإكرام بالقول، يكون الإكرام بالعمل، يكون الإكرام بالهدية، يكون الإكرام بكل شيء وقد ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث إلى ألا يفوت الإنسان فرصة في الإكرام لجاره، ولو كان فرسن شاة.
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» ندب إلى الإحسان، وأيضًا قال بعض أهل العلم: إن في هذا الحديث ندب إلى أن يقبل الجار من جاره كل ما يأتي به ولو كان قليلًا، يعني هو ندب للطرفين ندب للجار أن يحسن إلى جاره، أحيانًا إذا جاءك الجار بشيء قليل تقول ما هذا؟ سواء جار أو غير جار، إذا أهدي إليك شيء قليل قلت ما هذا؟ تقليت الإحسان الذي جاء إليك وقد يصغر في عينك وقد تحتقر صاحبه، وهذا كله من الغلط فالنبي يقول: «لاَ تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» يعني لو أهدتها هذا المعنى الثاني، لو أهدت الجارة لجارتها فرسن شاة وهو مما لا ينتفع به عادة، فينبغي ألا تحقر ذلك الإحسان فلتشكره فهو دليل طيب قلب، وسلامة قصد وصلاح عمل وكل ينفق من سعته وبقدر ما يطيق ويقدر.
والهدية ليست بقيمتها وثمنها وحجمها، إنما بحقيقتها قلت أو كثرت فإن الإهداء عربون إحسان ومفتاح لصلاح الأحوال، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «تهادَوا تحابُّوا» لأن الهدية تفضي إلى المحبة.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا محاسن الأخلاق واصرف عنا سيئها وصلى الله وسلم على نبينا محمد.