يقول المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عَنْ أبي هريرة أنَّ رَسُول الله قَالَ: «بَينَما رَجُلٌ يَمشي بِطَريقٍ اشْتَدَّ عَلَيهِ العَطَشُ، فَوَجَدَ بِئرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشربَ، ثُمَّ خَرَجَ فإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبُ مِنَ العَطَشِ مِثلُ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ البِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أمْسَكَهُ بفيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهَ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» قالوا: يَا رَسُول اللهِ، إنَّ لَنَا في البَهَائِمِ أَجْرًا؟ فقَالَ: «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (173) وصحيح مسلم (155).
وفي رواية للبخاري: «فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ» وفي رواية لهما: «بَيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يقتلُهُ العَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيل، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فضل الإحسان:
هذا الحديث بروايتيه فيه بيان فضل الإحسان وأنه بالإحسان يدرك الإنسان من الثواب والأجر ما لا يرد له على خيال، ولا يخطر له على بال، ذلك أن فضل الله ـ تعالى ـ عظيم وإحسانه جزيل وقد قال ـ سبحانه وبحمده ـ: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾[الرحمن: 60] وجاء أن رحمته جل في علاه قريب من المحسنين كما قال: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف: 56] وهذا الذي جرى من هذا الرجل لسقيه الكلب الذي بلغ به العطش أن كان يمص الثرى من شدة العطش نوع من الإحسان، فشكر الله ـ تعالى ـ له فغفر له وفي الرواية الأخرى أدخله الجنة وهذا لعظيم ما قام في قلبه من الإحسان والرحمة وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الراحمون يرحمهم الله" ولو كانت هذه الرحمة للحيوان كما دل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جواب الصحابة لما سألوه أو لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ» أي في كل كبد رطبة من إنسان أو حيوان أجر، بل حتى إذا احتسب الإنسان إطعامه كل أحد من الإنس والجن يدرك بذلك فضلًا وأجرًا.
الاحتساب يعظم الأعمال:
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحتسب الأجر عند الله ـ عز وجل ـ في مثل هذه الأعمال التي قد تكون في عينه زهيدة صغيرة لا قيمة لها ولا بال إلا أنها عند الله ـ تعالى ـ مع الإخلاص تبلغ مبلغًا عظيمًا وهذا إنما حمله على فعل ما فعل أن قام في قلبه الرحمة لهذا الحيوان.
ومثله أيضًا البغي وهي من تمتهن الزنا تكسبًا وأخذًا للمال مقابله، لما رأت الكلب وسقته شكر الله ـ تعالى ـ لها وغفر لها على عظيم الذنب التي كانت عليه، لكنها أدركت المغفرة بما قام في قلبها من رحمة هذا الحيوان، ولهذا ينبغي للإنسان أن يجد ويجتهد في إدراك كل بر وإحسان وألا يقتصر على ما يكون من كبار الأعمال، بل ينبغي له أن يعود نفسه الإحسان لكل أحد، وأن يعمر قلبه بالرحمة للخلق، فإذا كان هذا في رحمة الحيوان فكيف الأجر والثواب لو كان رحمة لبني الإنسان الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء: 70].
وفي الحديث من الفوائد:
أن الإنسان قد يعمل العمل لا يدرك ثوابه وأجره، فهذا الذي سقى الكلب لا يدري ما الذي يرتب على هذا من الأجر والثواب ولا البغي كانت تدري ما الذي يرتب على هذا من الثواب، لكنها أدركت وأدرك هذا الأجر العظيم من مغفرة الذنب وشكر الله بإدخال الجنة ما لم يرد لهم على خاطر ولم يدر لهم في بال، والأمور خارجة عن ميزان القياس وفضل الله عظيم وأجره جزيل يعطي على القليل الكثير، فلنحسن الصلة به ولنقبل على كل إحسان ولنرقب الفضل منه فهو ذو الفضل والجود والكرم ـ سبحانه وبحمده ـ يرزق من يشاء بغير حساب وصلى الله وسلم على نبينا محمد.