المقدم: في حلقات برنامج "الدين والحياة" مستمعينا الكرام نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ونسلط الضوء عليها من خلال ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه.
ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ أهلاً وسهلاً، حياك الله ومرحبًا.
الشيخ خالد: حياك الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ خالد: مرحبًا بك وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله أن يجعله لقاء نافعًا مباركًا.
المقدم: اللهم آمين. في هذه الحلقة مستمعينا الكرام نتحدث عن البركة، والبركة من الله تبارك وتعالى، سنتحدث حول نقاط عديدة فيما يتعلق بالبركة ومعناها، ومواضع أيضًا هذه البركة، وكيف جاء ذكرها؟ وصياغات ذكرها في كتاب الله -عز وجل- وفي سنة المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه-
أيضًا سنتحدث عن عدة نقاط في ثنايا هذه الحلقة بمشيئة الله تعالى.
ابتداء فضيلة الشيخ ونحن نتحدث عن البركة، ما معنى البركة أولاً حتى ندلف إلى بقية النقاط؟
الشيخ خالد: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد...
فأسأل الله تعالى لي ولكم خير الدنيا والآخرة، وأن يجعلني وإياكم من المباركين، وأن يوفقنا إلى كل خير في السر والعلن، والظاهر والباطن، وفي الدين والدنيا.
أيها الإخوة والأخوات البركة هي منحة من الله -عز وجل- وهبة يتفضل الله تعالى بها على عباده، والبركة هي كثرة الخير، ونماؤه واستقراره، واستمراره هو دوامه، الشيء إذا كان مباركًا كثر خيره، وعظم نفعه، وجاد عطاؤه، ودام فضله، وقرَّ إحسانه.
فالمبارك من الأشياء هو كثير الخير، دائم الفضل، مستقر الإحسان مستمر الفضائل.
ولذلك البركة من أعظم ما تنال به الأمور، وتدرك به المقاصد، ويحصل له المطالب.
لهذا كان تناول هذا الموضوع في بيان ما هي البركة؟ وما آثارها؟ وما أسباب تحصيلها؟
من المهمات التي تطيب بها الحياة، فإن الله تعالى عندما خلق هذه الأرض هيأها -جل في علاه- لعباده تهيئة يدركون بها مصالحهم، ويدركون بها خيرًا عظيمًا في معاشهم في هذه الأرض، وفي معادهم بما يسر الله تعالى لهم من عمارتها على الوجه الذي يرضاه جل في علاه.
وقد أخبر بذلك فقال -جل وعلا-: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا﴾فصلت:9-10 ، ذكر البركة هنا في مقدمة ما يتعلق بالأرزاق، قال: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾فصلت:10 فهو -جل وعلا- قد قدر في هذه الأرض كل ما يحتاجه الإنسان، كل ما تطيب به حياة من على هذه البسيطة من إنس وجن وحيوان وجماد.
وهذا التقدير الإلهي جاء مقترنًا بالمباركة الإلهية التي يتحقق بها النماء، يتحقق لها الخير، يتحقق بها صلاح معاش الناس، وبه يدركون طيب المعاش في هذه الدنيا.
فالأرض مباركة، وبركتها بما فيها من أرزاق، وما فيها من إمكانية التكسب، فإن الله تعالى بسط الرزق لعباده على نحو يحصل به لهم طيب المعاش.
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾الزخرف:11 ، ﴿بِقَدَرٍ﴾ أي بحساب دقيق يصلح به معاش الناس، فلو شح لهلك الخلق، ولو زاد لهلك الخلق، وهذا من جميل تقديره قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾الشورى:27، ثم ذكر الحكمة البالغة وأن ذلك ناشئ عن تمام علم وخبره بعباده، قال:﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾الشورى:27 .
فالله -جل وعلا- بارك في هذه الأرض، وأنزل فيها الأقوات، وقدر فيها ما يطيب به معاش الناس على نحو دقيق يشهد للصانع الرب الكريم -جل في علاه- بالعظمة والإتقان: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾الحجر:21 ، فسبحان من جرى قدره على نحو من الدقة يصلح به معاش الناس، ويستقيم به معادهم.
إذًا البركة هي كثرة الخير، هي نماؤه، هي زيادته، هي دوامه، هي كثرة الأفضال، وكثرة المكاسب والأرباح ولو كان الشيء قليله.
فالبركة لا علاقة لها بالعدد أو الكثرة، بالضرورة قد تكون البركة بكثرة النفع، قد تكون البركة بكثرة العدد، قد تكون البركة بتتابع العطاء، فالبركة ليست لها صورة واحدة تختلف البركة من شيء إلى شيء، ولا يلزم في البركة الكثرة في العدد، فكم من كثير لا يغني شيئًا، وكم من قليل يحصل به من الغناء والنفع ما يغني عن العدد الكبير.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما النَّاسُ كإبلٍ مائةٍ» يعني الرعية من الإبل في الكثرة «لا تَكادُ تجدُ فيها راحِلةً»[صحيح البخاري:ح6498] يعني عندك مائة من الإبل لا تجد فيها إلا واحدة هي التي تصلح للركوب والتنقل، وأن تكون مركبًا هنيئًا لصاحبه.
كذلك الناس عدد كبير لكن الذين يحصل بهم نفع، يحصل بهم خير، يحصل بهم نماء، يحصل بهم صلاح، يحصل لهم دوام إحسان للخلق هم نفر بالنسبة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم واحد في المائة.
فلذلك من المهم أن نعرف ما هي أسباب حصول البركة؛ لأن البركة بها يدرك الإنسان مقصوده ومطلوبه من الأشياء، وبها ينعم، وبها يطيب عيشه، وبها يصلح معاشه ومعاده.
فلهذا ينبغي أن نحرص على معرفة ماذا نفعل حتى ندرك البركة؟ ما هي الأسباب التي نصل بها إلى هذه المنحة الإلهية التي تفضل الله بها ابتداء على الخلق بالمباركة في الأرض؟ ولكن هذه المباركة في الأرض لها أسباب تدرك بها ولها أسباب تتلاشى وتمحق هذه البركة، فالبركة كما أنها تحصل بأسباب تمحى وتمحق بأسباب.
المقدم: بمشيئة الله تعالى سنتحدث عن أسباب تحصيل البركة، وأيضًا استجلاب بركة الله تبارك وتعالى، وكيف يستجلب المسلم هذه البركة من الله تبارك وتعالى؟
لكن قبل هذا فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن مواضع البركة، هل يمكن أن تكون البركة في النفس، وفي العمل، وفي القول، وفي الرزق، وفي غيرها من هذه الأمور؟ هل هناك مواضع لهذه البركة يطرحها الله تبارك وتعالى للعبد في هذه الدنيا؟
الشيخ خالد: البركة تكون في كل شيء من شئون الناس، تكون في الأشخاص: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾مريم:31 ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى له بالصغار والأطفال حديثي الولادة يبركهم ويدعو لهم بالبركة.
تكون في الأعمال فكم من عمل قليل يحصل به من الخير والنفع الشيء العظيم الذي قد لا يحيط به الإنسان، ولا يدرك أثره، ومن ذلك بركة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الناس، فإنه أعظم الخلق بركة صلى الله عليه وسلم حيث انتفع به الخلق أجمعون، فهو رحمة للعالمين، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾الأنبياء:107 ، وما ذلك إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- بارك الله في دعوته، بارك الله في عمله، بارك الله فيما بذله في الدلالة عليه جل وعلا.
تكون البركة في الأرزاق والمطاعم، فتكون البركة في الثمار، تكون البركة في الولد، تكون البركة في المساكن، تكون البركة في المراكب، تكون البركة في الوظائف والأعمال، تكون البركة في كل شأن من شئون الإنسان، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص في كل أموره، وفي كل شأنه أن تفتح له أبواب البركات، أن يدرك الخير في البركات التي في الأشياء التي تحيط به.
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طاب الثمر، ثمر أهل المدينة أوتي به إليه صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: ثمر يعني المحصول من التمر أو من غيره من المحاصيل الزراعية التي كانت تزرع في المدينة، إذا جيء له صلى الله عليه وسلم بالثمر قال: «اللَّهمَّ بارِك لنا في مدينتِنا» هذا الموضع والمكان، «وفي ثمارِنا» هذا النتاج، «وفي مُدِّنا» وهذا الوسيلة من وسائل القياس، ومعيار من معايير حساب الأشياء، «وفي صاعِنا برَكةً معَ برَكةٍ»[صحيح مسلم:ح1373/473] فالبركة لا تخلو من شيء من شئون الناس، ولا يخلو منها شيء من الأشياء التي تمس حياة الناس، هي محيطة بهم في كل شأن، لكن كيف يحصلونها؟ كيف يستجلبونها؟
هذا الذي ينبغي أن نحرص عليه، وإلا ما من شيء إلا وفيه بركة، بارك الله في الزمان، بارك الله في المكان، بارك الله في الشخص، بارك الله في العمل، بارك الله في الثمر، بارك الله في المراكب.
ولذلك قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير»[صحيح البخاري:ح2850]، وشرع الله تعالى لمن اشترى دابة وكذلك مركبًا أن يدعو بالبركة، الأماكن والمنازل:.﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلۡنِي مُنزَلٗا مُّبَارَكٗا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ ﴾[المؤمنون:29]
البركة تكون في كل أمر من أمور الإنسان، فينبغي أن يتلمسها، وأن يحرص على أسباب استجلابها.
إذا جاءت البركة له في شيء فهذا هبة وعطاء من الله، ومنحة تستوجب الشكر، يدرك بها منافع ذلك الشيء وخيره وكثرته، ونماؤه، وزيادته، واستقراره، ودوامه، ويدرك أيضًا به وقاية الأضرار والشرور والآفات والمكروهات التي في هذه الأشياء، في المنازل، في المراكب، في الأولاد، في الأعمال، في الوظائف، في الأشخاص.
إذا حصلت لك البركة أدركت كلَّ خير من هذه الأشياء، وتوقيت كلَّ شرٍّ في هذه الأشياء، ولذلك نسأل الله أن يجعلنا من أوفر الناس حظًّا ونصيبًا من بركاته وخيراته.
المقدم: اللهم آمين.
الشيخ خالد: في كل أمورنا وشئوننا.
المقدم: اللهم آمين. بودي فضيلة الشيخ في هذا الجزء أن نتحدث عن أسباب تحصيل البركة، كيف يستجلب المسلم البركة في حياته؟ ومن ثم في جزء آخر سنتحدث عن آثار البركة إذا ما أتت للإنسان، لكن نريد أن نسأل عن الأسباب التي بها يتحصل المسلم على هذه البركة من الله تبارك وتعالى؟
الشيخ خالد: البركة لها أسباب عديدة إلا أن السبب الجامع، والأساس، والأصل، والقاعدة التي يدرك بها الإنسان البركات، وتفتح له أبواب الخيرات، ويغنم من طيب المعاش، وطيب المعاد، وحسن المنقلب هو تقوى الله عز وجل.
هذا المعنى الجامع وهو تقوى الله -سبحانه وبحمده- أعظم ما تُنال به البركات، وتدرك به الخيرات، ويفوز الإنسان فيه بسعادة الدنيا وفوز الآخرة.
التقوى هي خوف الله عز وجل، هي محبته، هي تعظيمه، هي إجلاله سبحانه وبحمده.
التقوى هي أن تقوم بما أمرك الله تعالى به، رغبًا فيما عنده وخوفًا من عقابه، وأن تترك كل ما حرمه الله تعالى عليك رغبة فيما عنده، وخوفًا من عقابه.
فأنت تفعل الطاعة محبة لله، وتعظيمًا له، وإجلالاً له سبحانه وبحمده، وتترك الذنب والخطأ والمعصية خوفًا منه، ورغبة فيما عنده، وإجلالاً له، ومحبة له سبحانه وبحمده.
التقوى مفتاح البركة، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾الأعراف:96، انظر إلى هذه الآية جمعت أعظم الأسباب التي تدرك بها البركات، وأخطر الأسباب التي تمحى بها بركات السماء والأرض، الله لم يذكر بركة واحدة، ولم يذكرها في جهة واحدة بل ذكرها بالجمع لكثرتها ووفرتها، ثم ذكر أن منها ما يكون من الأرض، ومنها ما يكون من السماء، وقدم ما يكون من السماء لكثرته، وعظيم الخير النازل به.
فالبركة النازلة من السماء أضعاف البركة الخارجة من الأرض وكله صنع الله الذي أتقن كل شيء سبحانه وبحمده.
ولهذا احرص أخي الكريم، أختي الكريمة، على تحقيق التقوى لله، فالله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كل من أطاعه فتح عليه أبواب الخيرات من بركات السماء بالهداية والتوفيق، والعون، والنصر، والتأييد، وقضاء الحاجات، بالمطر، والبركات، وكل الهبات التي تأتي من السماء، وبركات الأرض بالأرزاق التي ييسرها، والأمور التي يذللها لك ويبلغك إياها، فتفتح لك الخيرات من فوقك، ومن تحتك، ويحصل لك الأمن والسلامة.
فالبركات النازلة من السماء، والبركات الحاصلة في الأرض بفضل الله وإنعامه هي ثمرة محبتك لله، هي نتاج تعظيمك له، هي المحصلة الناتجة عن تحقيق تقوى الله تعالى.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾الجن:16 . الله أكبر يَعِد الله كلَّ من استقام على الصراط المستقيم وهذا معنى الطريقة، فإن الله يفتح له من الخيرات ما يشبعه ويكفيه، ولذلك قال: لأسقيناهم ماء غدقًا، وذكر الماء على وجه الخصوص لأنه أعظم المطالب، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾الأنبياء:30 ، وقال في الآية الأخرى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾المائدة:65 .
إذًا بركة التقوى ليست مقصورة فقط على نعيم الدنيا، بل على صلاح الآخرة وسعادتها، بحط الخطايا والسيئات، ونيل الجنة والفوز بجنات النعيم، جعلنا الله تعالى وإياكم من أهلها.
إن الله تعالى قد وعد كل من حقق التقوى وصدق في الاعتماد عليه بأنه سيكفيه، وكفاية الله تُدرك بها المطالب، وتُؤمن بها المخاوف ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:2-3 لا تقل كيف؟!
فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾يوسف:100 حقق المقدمة وأبشر بالنتيجة. ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾الطلاق:2 ، من كل ضيق، من كل هم، من كل كرب، من كل مكروه، هذا في الأمن من المخاوف، وفي تحصيل المطالب والفوز بالمرغوبات المحبوبات قال: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:3 ، من حيث لا تتوقع، من حيث لا تخمِّن، من حيث لا يدور على بالك وخاطرك بل يأتي به الله بأمر من عنده سبحانه وبحمده ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾الطلاق:3 كافيه -جل في علاه- كل ما يخاف ويبلغه كل ما يؤمله.
لذلك السبب الأساس والأصيل والذي ينبغي أن نستحضره للفوز بالبركة هو التقوى، اللهم اجعلنا من المتقين ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾الأعراف:96 .
أيها الإخوة والأخوات النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لأمته قال في حديث معاذ، وحديث أبي ذر قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» تُفتح لك البركات، وتنال الخيرات، وتأمن من المكروهات والشرور، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأنه الإنسان قد لا يدوم على حال التقوى في كل أحواله، يحصل منه ذلل وخطأ وخلل، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا»[سنن الترمذي:ح1987، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]، فإذا وقع الإنسان في خطأ، وعثر في ذنب، وخرج عن حدود التقوى، هل لو سبيل لمراجعة التقوى، والخلوص من شؤم المعصية، والسلامة من عظيم وزرها، وكبير ضررها؟
الجواب نعم، إنه الاستغفار والتوبة، ولذلك كان الاستغفار مما تفتح به البركات؛ لأنه من خصال التقوى، ولأنه معاودة للتقوى، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾نوح:10-11 بركات، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾نوح:12 ، مفتاح عظيم تدرك به المطالب، إذا عثرت فالزم الاستغفار، إذا أخطأت فلا تتأخر في التوبة والرجوع إلى العزيز الغفار، إذا أخطئت لا تبعد بل عاود في أقرب وقت، وأسرع لحظة عاود وقل: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، واعلم أنه إذا كان منك ذلك نلت منه أفضل العطاء، فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾طه:122 . ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾هود:3 ، النتيجة؟
﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾هود:3 . إذًا التقوى من أعظم ما تجلب به البركات، بركات السماء والأرض.
الاستغفار وهو المعاودة للتقوى، والرجوع إليها عند الخطأ والزلل والانحراف، والتوبة هي مما يعيدك إلى الجادة، الاستغفار يعيدك إلى الجادة فتفتح لك الأبواب وتنال من الهبات والعطايا.
من أسباب حصول البركة وإدراكها الدعاء فالدعاء من أعظم الأسباب وأقواها، فإن الله تعالى ينيل العبد بدعائه من الخير ما لا يبلغه عمله، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن: «وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ»[سنن الترمذي:ح464، وحسنه]، فسؤال الله تعالى المباركة فيما أعطاه هو من أعظم المفاتيح التي تنال بها البركات.
وهذا ليس مقصورًا على أمر أو على سبب بل يشمل كلَّ عطاء الله عز وجل، فأنت محتاج فيه إلى مباركة الله -عز وجل- في كل أمورك، وفي كل شئونك، فإنك إذا فتح لك باب الخير بالبركة بثمرة الداء أدركت خيرًا كثيرًا.
ولمحة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال البركة تجد أن البركة حصلت بدعائه صلى الله عليه وسلم، وبتوجيهه إلى الدعاء في مواضع عديدة من السنة، فينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء بالبركة في ماله ووقته، وزوجه وولده، وأجمع شيء أن تقول: «وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ»[سبق] من مال، وولد، وقوة، وصحة، وعلم، وعمل، وجاهٍ، ومنصب، ونسب، وكل شيء أعطاك الله تعالى إياه فإنه إذا وهبك لك فيه البركة كثر خيره، وعمَّ نفعه، وعظمت ثمرته.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله -عز وجل- بالبركة لبعض أصحابه فكانت ثمرة ذلك عظيمة، في صحيح البخاري من حديث عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري به شاة، فاشترى للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاتين بالدينار، أعطاه دينار قال: جب لي شاة، فلما ذهب للسوق جاب بالدينار شاتين، هو مطلوب منه أن يحضر شاة، فماذا فعل؟
باع واحدة من الشاتين بدينار، فلما رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع بدينار وشاة، يعني رجع بالثمن اللي أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم، وشاة يعني طلعت الشاة بالمجان بهذا البيع الذي حصل من عروة رضي الله عنه. لما جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- بدينار وشاة دعا له ببركة بيعه قال: «اللهم بارك له في بيعه»، فماذا كان؟
قال الصحابي: كان عروة لو اشترى التراب لربح فيه، ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «بارك الله لك في صفقة يمينك»[سنن الترمذي:ح1258، وصححه الألباني في الإرواء:5/128]، وكان لو باع ما باع -رضي الله تعالى عنه- أدرك من البركات خيرًا عظيمًا.
هذا من البركة في الرزق ونحن ما أحوجنا إلى أن يبارك الله في أرزاقنا.
اليوم تأتيك الرواتب، وتأتيك المكاسب، وتأتيك الأجور على الأعمال وسرعان ما تتبدد وتذهب، السبب هو قلة البركة في هذه الأرزاق، لكن لو بارك الله فيها لكثرت، ونفعت، وقضيت حوائجك، وأدركت كل مطالبك من هذا القدر الذي جاءك.
في الصحيح من حديث أنس أنه خدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءت أمه قالت: يا رسول الله أنس خادمك، ادع الله له، فطلبت أم أنس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأنس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين البخاري ومسلم قال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته».[صحيح البخاري:ح6334]
دعا له بالبركة في المال، دعا له بكثرة المال، وكثرة الولد، ثم دعا له بالبركة لأنه الكثرة في المال والولد قد لا تفيد ولا تنفع إن نزعت منه البركة. ولذلك قال: «وبارك له فيما أعطيته».
الإمام مسلم، قال أنس -رضي الله تعالى عنه-: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعاودون علي نحو المائة يعني يجيه من أولاده وأولاد أولاده نحو مائة نفس وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأحد إلا وفتح الله تعالى له من الخير ما أدرك به برًّا عظيمًا وخيرًا عظيمًا.
ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى الدعاء، وفعله ففي تهنئة العروسين كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: «بارك الله لكما، وعليكما، وجمع بينكما في خير»[سنن أبي داود:ح2130، وقال الحاكم(ح2745):هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي]، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمن تزوج ودخل حياة جديدة.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة في مبدأ الحياة لما فيه من تمام العيشة، وصلاح المعاش بين الزوجين: «بارك الله لكما، وعليكما، وجمع بينكما في خير»، والبركة تكون في الولد والنتاج، ولذلك جاء في قصة أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعا له ولزوجه بالبركة، فكان بذلك من الخير وعظيم الهبات على هذه المرأة وزوجها ما ذكرته رضي الله تعالى عنها في ثمرة دعائه، ولها قصة أذكرها على وجه الاختصار، وهي في الصحيح أنه مات ابن لأبي طلحة من أم سليم اللي هي أم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنها وهو غير أبيه، فقالت لأهله... أبو طلحة كان غائبًا، لما جاء قالت: لا تخبروه حتى أكون أنا أحدثه، يوم جاء عشت الرجل، وقد جاء من سفر وأكل وشرب ثم تصنَّعت له، وكان بينهما ما يكون بين الرجل وامرأته، فلما ارتاح الرجل وأكل وأتى من أهله ما يأتي الرجل أهله، قالت: يا أبا طلحة لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟
تقدمة للخبر بالوفاة، قال: لا، فقالت: احتسب بما كان من ابنك، مات ولدك.
غضب أبو طلحة يعني كيف يجري هذا؟ ما خبرتني أول ما جئت، أكلت، وشربت، وجامعت، والوضع أن ابني قد مات، وجد في نفسه انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بارك الله لكما في غابر ليلتِكما»[صحيح مسلم:ح2144/107]، يعني فيما جرى لكم من أجل وشرب وجماع فيما مضت، فحبلت امرأته من تلك الليلة، وأنجبت بعد ذلك عشرة من الأولاد كلهم يقرءون القرآن.
إذًا البركة من الله تعالى بالدعاء عظيمة، وهو -جل وعلا- الذي بيده بركات السموات والأرض، إنما البركة من الله فاسألوها منه -جل في علاه-؛ فهو الذي يعطيها، وهو الذي يهبها جل في علاه، وهو الذي يتفضل بها سبحانه وبحمده.
إذًا الآن ذكرنا ثلاثة أسباب من أسباب تحصيل البركة: تقوى الله عز وجل، والاستغفار، والتوبة إليه جل في علاه، دعاؤه وسؤاله أن يبارك فيما أعطاك من ولد، ورزق، ومال، ووظيفة وسائر الشئون والأحوال، فإذا حققت ذلك أدركت خيرًا عظيمًا، وبركة كبيرة من الله جل في علاه.
البركة تكون بالطاعة، وبالبذل والإحسان فإن البذل والإحسان من أعظم أسباب تحصيل البركات، ولهذا من ظن أن إمساك المال يكثره وينميه فقد أخطأ السبيل، فإنه ما من يوم إلا ومناديان يناديان: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[صحيح البخاري:ح1442]، هذا الدعاء دعاء ملائكة وهي حري بالإجابة، وجدير بحصول الثمرة والنتيجة.
ففي كل يوم تطلع فيه الشمس، ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا»، أخلف عليه خير، ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾سبأ:39 ، «وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» فمن أسباب حصول البركة في الرزق هو البذل، والإحسان، والعطاء ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقص مال من صدقة»[سنن الترمذي:ح2325، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»] فما نقص، الصدقة لا تنقص المال، ولا تمحقه بل تزيده وتباركه، ولذلك قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾سبأ:36 ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾سبأ:39 .
ولهذا من المهم أن يبذل الإنسان المال، ويرجو من الله تعالى الخلف، ولا يكون بخيلاً شحيحًا فإن من الناس من يظن أن إمساك المال سبب كثرته، وسبب نمائه، وسبب زيادته.
أيضًا في مبدأ الكسب إذا جاءك مال لا تكن شديد التشوف له، عظيم التعلق به، فإن المال إذا أخذ بسخاوة نفس وطيب نفس حصلت فيه البركة، وإذا أُخذ بشحٍّ ولهف وإشراف نفس، وعزم على الإمساك محقت بركته.
ولذلك جاء في الصحيح من حديث حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، يعني سأله مالًا وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته ثانية فأعطاني، هذا المرة الثانية، ثم سألته فأعطاني هذا الثالثة، أكثر على النبي -صلى الله عليه وسلم- من السؤال فقال:«يا حكيم»، واسمع إلى هذه الحكمة العظيمة، والتوجيه النبوي الكريم الحكيم لحكيم بن حزام.
قال: «يا حَكِيمُ، إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ» خضرة: يشوِّقك منظره، تتشوف نفسك إليه، حلوة: طعمه حلو جميل، مذاقه يلتذ به الإنسان. «فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ» من أخذ المال سواء كان راتبًا، سواء كان نتاج صفقة تجارية، سواء كان هبة أو عطاء، بأي وجه من الأوجه.
من أخذه على أي صفة جاء من أوجه المكاسب المباحة، «فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ» يعني طرح الله تعالى له فيه البركة، ومعنى البركة في المال أنك تستفيد منه، وأنه يكثر وينمو، ويزيد، ويقر، وتدرك به مصالح كثيرة مع قلته وعدم كثرته.
«ومَن أَخَذَهُ بإشرافِ نفسٍ له لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالَّذي يأكُلُ ولا يشبَعُ»[صحيح البخاري:ح1472]، هذا مثل نبوي واضح، فالذي تكون نفسه ملهوفة على ما يقع في يده من درهم أو دينار، ريال أو دولار هو في الحقيقة تأتيه الفلوس لكنه كالذي يأكل ولا يشبع، فلا يدرك بذلك نفحًا من المال ولا بركة ولا خيرًا.
من أسباب حصول البركة في الأموال: أن يصدق الإنسان في معاملاته، أن يتحرى الكسب الحلال، أو يتجنب الكذب والتزوير والغش والتدليس والتفريق في الأمانات في الأعمال، فإن ذلك من موجبات حصول البركة.
فأنت أيها التاجر اتق الله واحرص على الكسب الحلال، تجنب الغش، التدليس، الحلف الكاذب، الترويج المخادع، التغرير واعلم أنه سيبارك الله تعالى لك.
وأنت أيها الموظف اتق الله وأدِّ الأمانة التي وكلت إليك، ولا تبخس صاحب العمل سواء كان جهة حكومية، أو جهة خاصة ما وكل إليك من الأعمال، أدها على أكمل وجه، اتق ما تستطيع، وأتقن ما تقدر عليه، والله رقيب عليك، وأبشر فإن الله سيبارك فيما يأتيك من رزق.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا للبركة في المعاملات المالية بين الناس في حديث حكيم بن حزام أيضًا قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيارِ» هذه هي معاملة البيع، «ما لمْ يَتَفَرَّقَا، فإن صدقا» شف فإن صدقا يعني في هذه المعاملة والبيع، وبينا ما فيه كذا ولا فيه تدليس وإخفاء، وضوح تام وإخبار بالحقيقة. «بُورك لهما في بيعهما» يعني طرح الله البركة لهما في بيعهما مقابل «وإن كذبا وكتما» حصل الإخطار بخلاف الواقع والكتمان وهو عدم الإيضاح والبيان «مُحِقَت بركة بيعهما»[صحيح البخاري:ح2079]
ولذلك احرص على أن تبتدر الصدق، وتبتدر البيان، وتبتدر أداء الأمانة على الوجه الذي يحبه الله، وعند ذلك ستجد بركة. بعض الناس يقول: والله أنا راتبي كثير بس ما أدري وين أروح؟ يا أخي فتش في عملك وأدائك لوظيفتك التي تشتغل فيها، فتش في طريقة كسبك، فتش في أحوالك وتقواك لربك، استغفارك، سخاوة نفسك، بذلك لما وجب عليك في المال ستجد أن الخلل في واحد من هذه، ولذلك لم تجد لهذا المال بركة.
السبب الرابع أو الخامس من أسباب حصول البركة في الأرزاق: هو أن يتحيَّن الإنسان الفرص والأزمنة التي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها مباركة، فبركة الزمان، وبركة المكان، وبركة الحال فينبغي أن لا تغيب على الإنسان، فمثلاً الأعمال الصالحة في مكة، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لها مزية ليست لغيرها من المزايا، فينبغي أن يحرص على بركة هذه الأماكن المباركة بالاستكثار من الصالحات، فإن اغتنام ذلك مما يفتح له أبواب الخير ويدرك به كثيرًا من البركات، وتفتح له أبواب الخيرات.
فيما يتعلق بعموم الوقت النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث صخر الغامدي: «اللهم بارك لأمتي في بُكورها»[سنن الترمذي:ح1212، وحسنه] وهذا الخبر النبوي الدعاء النبوي يشهده الإنسان فيما ينجزه من الأعمال في باكورة صباحه، فإنه ينجز في أوائل النهار، وبواكيره من الخير والعمل، والإنجاز في دينه أو في دنياه ما لا ينجزه في بقية الوقت، فينبغي أن يتحين هذه الأوقات.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن في السحور بركةً»[صحيح البخاري:ح1923]، وهذا معناه أن هذه الأكلة أو هذا الوقت أو هذا الفعل من موجبات البركات في النفس، وفي المال، وفي البدن، وفي السؤال، وفي الأجر والثواب، فينبغي للإنسان أن يغتنم كل ما جاءه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فيه بركة فإن البركة تكون باغتنامها وصدق الرغبة في تحصيلها.
من أسباب البركة هو: الاجتماع فإنه يحقق الله باجتماع الناس من الخير لهم ما لا يحققه بتفرقهم، ولذلك أمرت الشريعة بالاجتماع، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُواَ﴾آل عمران:103، وأنتم تشاهدون أيها الإخوة أن بعض البلدان التي حصل فيها تفرق، وحصل فيها تمزُّق عندهم من الثروات، وطيب الأرض، وكثرة المياه ووفرتها، وأسباب الرزق لكن لا يغتنون، ما يحصلون شيء، فقراء، ليس عندهم شيء وذلك بأسباب عديدة، من الأسباب التفرق وعدم الاجتماع، والنزاع والخلاف.
فالاجتماع من موجبات حصول البركة، ولذلك اجتماعنا على ولاة أمرنا وعلى قيادتنا هو من أسباب حصول البركة في أرزاقنا، من أسباب حصول البركة في أموالنا، من أسباب حصول البركة في معاشنا، والاجتماع خير كله.
ولذلك أمرت الشريعة به، وجعله الله تعالى وصية لكل الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾الشورى:13 ، وهذا يؤكد أن الاجتماع مقصد شرعي يدرك به الناس صلاح المعاش، وصلاح المعاد.
وإذا كان الاجتماع المحدود على الطعام من أسباب مباركته وتكثيره، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام الواحد يكفي لاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة»[صحيح مسلم:ح2059/179] وهذا الخبر النبوي يؤكد هذا المعنى الذي نشير إليه وهو أن الاجتماع من أسباب حصول الخيرات، وأسباب حصول الاجتماع والألفة، وإدراك ما يؤمله الناس من طيب المعاش وخيره. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل البركة في الطعام، وأخبر أنه ينبغي أن لا يتفرق الناس في مطاعمهم حتى يدركوا تلك البركة ويحصلوا ذلك الخير. هذه جملة من الأسباب التي يدرك الناس بها البركة في أعمالهم، في أعمارهم، في معاشهم، في شئونهم، وكلما بادر الإنسان إلى هذه الأسباب أدرك من البركات والخيرات ما يطيب به معاشه، وما يصلح به معاده.
والقلب الممتلئ يقينًا بالله ومحبة له يفيض الله تعالى عليه من الخيرات والمبراة ما يكون سببًا لطمأنينة نفسه، ولذلك ارض بما قسم الله لك، وسل الله البركة فيه فإن الله يبتلي عبده بما أعطاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبتلي عبده بما أعطاه»، من صحة، من مال، من ولد، من وظيفة، أنت مختبر في كل ما أعطاك الله تعالى في هذه الدنيا،«فمن رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له».[مسند أحمد:ح20279، وصححه الألباني في الصحيحة: 1658]
فمن أسباب تحصيل البركة الرضا بما قسم الله تعالى، والإقبال عليه جل في علاه، وعدم الالتفات إلى الخلق، لا تلتفت إلى الخلق.
الله تعالى لما ذكر المفاضلة بين الرجال والنساء، قال: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾النساء:32، فكل ما تتمنى من خير وتراه عن غيره فاسأله من الله تعالى، ولا تعلق قلبك بأحد من الخلق فإن البركة منه جل في علاه، والعطاء منه فسله -سبحانه وبحمده- من فضله، وأقبل عليه، وأبشر فإنه -سبحانه وبحمده- سيبارك لك فيما أعطاك، ويرضيك بما قسم لك، ويفتح لك من الخيرات ما لا يرد لك على خاطر ولا بال.
وإذا حصلت على البركة انتفعت، وسعدت، وكان ذلك موجبًا لاستعمال هذه النعم والخيرات في طاعة الله عز وجل، وكان ذلك من أسباب حصول ما وعد الله تعالى به المؤمنين والمؤمنات في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾النحل:97، فالبركة تدرك بها الحياة الطيبة، طيب الله لنا المعاش والمعاد.
المقدم: اللهم آمين.
الشيخ خالد: ورزقنا من فضله وواسع بره الاستقامة في السر والعلن، أعاننا على التقوى والخيرات، وفتح لنا بركات السماء والأرض إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المقدم: اللهم آمين، اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا، وبارك لنا فيما رزقتنا يا حي يا قيوم.
شكر الله لك، وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلاً فضيلة الشيخ.
الشيخ خالد: شكرًا لكم وللإخوة والأخوات، وأسأل الله تعالى أن يبارك في بلادنا، وأن يبارك لنا في ولاتنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وسائر من له ولاية على أمر هذه البلاد، وأن يرزقنا وإياكم خيرات الدنيا والآخرة، وأن يدفع عنا كل سوء وشر، وأن يبارك بلاد المسلمين، وأن يعم الخير البشر أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.