يقول الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب بيان كثرة طرق الخير:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: عن رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ». رواه مسلمحديث رقم (233).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
أبواب محو الخطايا وتكفير الذنوب:
هذا الحديث الشريف حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث أبواب من أبواب محو الخطايا ومغفرة الذنوب والزلات.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الصلوات الخمس» وهن المكتوبات الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، «والجمعة إلى الجمعة» أي: ما بين الجمعتين من زمان، «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن» أي: أن الله ـ تعالى ـ يستر ما يكون بين هذه الأعمال الصالحة من الخطايا إذا أتى بها الإنسان على الوجه المأمور به، فالصلوات يمحو الله بها الخطايا، فما بين صلاة الظهر والعصر من الخطايا، وما بين المغرب والعشاء، وما بين الفجر والظهر وهكذا في كل الصلوات ما يكون من خطايا، فإنه يغفر بالإتيان بالعبادة التالية.
فالصلاة التالية تكفر ما بينها وبين الصلاة التي قبلها، وهكذا رمضان وهكذا الجمع، فإنهن يكفرن ما بينهن من الخطايا، وقد ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا يقرب المعنى في الصلوات الخمس كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أيضًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحَدِكم يغتَسِلُ منه كلَّ يومٍ خَمسَ مرَّاتٍ، هل يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ» لو عندك على الباب نهر وتنغمس فيه للتطييب والتطهير والتنظيف خمس مرات في اليوم هل يبقى من درنه شيء أي من الدرن الذي يبقى على البدن «قال: فذلك مثَلُ الصَّلواتِ الخَمسِ؛ يمحو اللهُ بهنَّ الخَطايا»[صحيح البخاري (528)، ومسلم (667)] أي: يغفر الله ـ تعالى ـ بهن الذنوب.
الحسنات يذهبن السيئات:
وقد قال الله ـ تعالى ـ في معنى عام للحسنات على وجه الإجمال قال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[هود: 114] وفي هذا الحديث ذكر ثلاث حسنات وهن من أعظم الحسنات؛ الحسنة الأولى الصلوات الخمس والمحافظة عليها وقد تقدم كيف يغفر الله ـ تعالى ـ بها الخطايا، إذا صلى العصر ثم صلى المغرب فما بين العصر والمغرب من الخطايا يغفره الله ـ تعالى ـ بالمحافظة على صلاة المغرب، كذلك ما بين المغرب والعشاء إذا صلى العشاء غفر الله ما بين العشائين من الخطايا وهذا فيما يكون من محو السيئات، ومحوها يتضمن أمرين؛ مغفرتها، والتجاوز عنها أي سترها والتجاوز عنها هذا معنى المحو.
فالمحو يتعلق بأمرين؛ أن الله ـ تعالى ـ يستر ما يكون من خطايا ويتجاوز، فلا يعاقب العبد على ذلك وهكذا الجمعة إلى الجمعة، إلا أن الجمعة جاء في حديث أبي هريرة الآخر أنه يزيد في المغفرة من فضل الله ـ عز وجل ـ على الجمعة ثلاثة أيام، فقد جاء قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن تَوضَّأَ، فأَحْسَنَ الوضوءَ، ثم أتى الجُمُعةَ فاستمَعَ، وأَنْصَتَ غُفِرَ له ما بَينَه وبينَ الجُمُعةِ وزيادةَ ثلاثةِ أيَّامٍ»[صحيح مسلم (857)] وهذا فضل من الله ـ عز وجل ـ يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، وأما رمضان إلى رمضان فهو مكفرات لما بينهن ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن صامَ رَمضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِه»[صحيح البخاري (38)، ومسلم (760)].
الإيمان والاحتساب:
وهذا الشرط وهو الإيمان والاحتساب في كل الأعمال، وإنما ذكر في الصيام ونحوه لما فيه من المشقة ولبيان أهمية استحضار هذا الأمر في هذه الأعمال.
فكل الأعمال التي تكفر بها الخطايا لا يحصل ذلك إلا بالإيمان والاحتساب، ولهذا من المهم أن يعتني المؤمن بأن يحقق هذه الأسباب التي يمحو الله بها الخطايا إيمانًا واحتسابًا، إيمانًا تصديقًا بأنها سبب لمغفرة الذنوب وحط الخطايا والسيئات، واحتسابًا أي طمعًا في حصول الأجر والفضل المرتب على ذلك من الله عز وجل.
المغفرة مع اجتناب الكبائر:
إلا أن المغفرة فيما يتعلق بالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان جاء في الحديث تقييدها باجتناب الكبائر ما لم تغشى الكبائر، ومعنى هذا أن الكبائر مانعة من مغفرة الصغائر بهذه الأعمال، فإذا وقعت كبيرة كانت مانعة من مغفرة الصغائر وقيل: بل إن الصغائر تكفر على كل حال؛ لكن الكبائر لا تكفر إذا وقعت بين هذه الأعمال، أو في ثنايا هذه الأعمال؛ لأنها لا تكفر إلا بالتوبة، وقد يقول قائل: الكبائر، القتل، السحر الكبائر كل ما جاء فيه عقوبة خاصة سواء دنيوية أو أخروية أو لعن صاحبه أو تبرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه ونحو ذلك من الأمور التي دلت على أنها كبيرة، النميمة مثلا مما تشيع في عمل الناس في مجالسهم بين هذه الصلوات وبين الجمعات وبين رمضان ويتهاون بها الناس، وهي مما يمنع مغفرة الذنوب والتكفير بهذه الأعمال.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط باجتناب كل كبيرة، وأن يجتهد في محو كل خطيئة، فإن محو الخطايا من أعظم ما يشتغل به الإنسان لأنه يتخفف به من الحساب بين يدي الله ـ عز وجل ـ فما محاه الله وغفره للعبد لم يسأله عنه يوم القيامة، وأما ما لم يمحى ولم يغفر، فإنه سيحاسب عليه بين يدي الله ـ عز وجل ـ هذه الأعمال الجليلة عظيمة القدر بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضلها الصلوات عمومًا وهي الصلوات المتكررة في اليوم والليلة، والصلوات الأسبوعية وهي الجمعة، والعمل السنوي وهو رمضان، وهذا يدل على أنك على طول الزمان أنت محتاج إلى ما يكفر الله ـ تعالى ـ به من خطاياك.
يقول قائل: إذا كانت الصلوات الخمس تكفر الخطايا، فالجمعة إلى الجمعة ماذا تكفر؟ وكذلك رمضان إلى رمضان ماذا يكفر؟
الجواب: أنه يكفر ما لا يمكن أن تشمله الكفارات في هذه الأعمال، فإذا كان لا ذنب عليه وكفرت كل الصغائر، فإنها يحيلها الله تعالى إلى ثواب وأجر، فإذا وافق العبد أن كان لا ذنب له يغفر، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، بل يكون ذلك سببًا لمزيد فضل وعظيم أجر وثواب من الله ـ تعالى ـ على عمله.
ولهذا لا ينبغي أن يكلف الإنسان في عمله أنه سيضيع منه فقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾[آل عمران: 195] فكل عمل تعمله من الصالحات لابد أن تلقاه ﴿فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا﴾[طه:112]، ظلمًا بأن يحمل ما لا يعمل من السيئات، وهضمًا أن يبخس وينقص ما عمل من الصالحات، بل كل ذلك ستجده بين يدي ربك جل في علاه تسر به، فكل صغير وكبير مستتر.
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على الصالحات، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى من الطاعات، وأن يجعلنا ممن يشتغل بما يحط الخطايا والسيئات ويرفع المنازل والدرجات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.