يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي موسى الأشعرِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري(574) ،وصحيح مسلم (635) .
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
عظيم فضل صلاتي الفجر والعصر:
فهذا الحديث الشريف حديث أبي موسى عبد الله بن قيس ـ رضي الله تعالى ـ عنه تضمن بيان عظيم فضل هاتين الصلاتين صلاة الفجر وصلاة العصر فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» والبردان هما صلاة الفجر وصلاة العصر وسمي بهذا الاسم؛ لبرودة وقتهما بالنظر إلى بقية وقت النهار فالظهيرة تسمى الهاجرة لشدة الحر، وهذان الوقتان يسميان البردين لأجل أنهما وقت برودة الجو «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» أي استحق دخولها بفضل الله ـ تعالى ـ وعظيم منه وكرمه.
دخول الجنة منية العاملين ورغبة الساعين:
ودخول الجنة منية العاملين، ورغبة الساعين، والجنة هي اسم دار النعيم الكامل الذي أعد الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر جعلنا الله وإياكم من أهلها فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» أي: تفضل الله ـ تعالى ـ عليه ثوابًا وأجرًا على المحافظة في هاتين الصلاتين أن يدخل الجنة، وهذا الأجر ليس مرتبًا على فعلهما مرة واحدة بل على إدامة هاتين الصلاتين والمحافظة عليهما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾[البقرة: 238].
مشقة العمل في هذين الوقتين أهم أسباب تفضيلهما:
والمحافظة على هاتين الصلاتين خصتا ببيان الفضل لعظيم الأجر المترتب على الصلاة في هذين الوقتين وإن كان بقية العمل لابد منه لاستكمال الأجر والثواب، فلا يعني هذا أن من أضاع الصلوات الأخرى وأضاع الحقوق الأخرى وصلى البردين، فإنه ينال هذا الفضل، بل هذا لا يقع فإنه لا يحافظ على هاتين الصلاتين مع شدة المحافظة عليهما لأسباب النوم أو الاشتغال، فالفجر وقت راحة وخلود إلى النوم والعصر سبب شغل ووقت شغل وعمل، فمن حافظ على الصلاة في هذين الوقتين اللذين فيهما مظنة إضاعة الوقت وإضاعة الصلاة فهو لما سوى هذين الوقتين من الصلوات أحفظ، فذكر هاتين الصلاتين لشدة المداومة عليهما ومعاناة المحافظة عليهما لكون صلاة الفجر يكون فيها نوم الناس وراحتهم، ولكون صلاة العصر يكون فيها اشتغالهم وتهيئهم بالأعمال، وختم ما يكون من مصالحهم فمن حافظ على الصلاتين في هاتين الوقتين كان ذلك من دلائل عظيم حرصه وكبير عنايته بهذه الصلاة والإتيان بها على الوجه الذي أمر الله به في قوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾[البقرة: 238].
وقد جاء في حديث عمارة بن رؤيبة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لن يَلِجَ النَّارَ أحَدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غُروبِها»[صحيح مسلم (634)] أي لن يدخلها من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وهذا فيه معنى الحديث السابق، فإنه من سلم من دخول النار كان مآله إلى الجنة جعلنا الله وإياكم من أهلها.
ودخول الجنة يبلغ به العبد أعلى ما يكون من النعيم، وبهاتين الصلاتين يدرك أعلى ما يكون من النعيم ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في حديث جرير بن عبد الله «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا علَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، يَعْنِي العَصْرَ وَالْفَجْرَ» [صحيح البخاري (554)، ومسلم (633)] دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين في هذين الوقتين من أسباب التنعم برؤية الله ـ عز وجل ـ الذي هو أعلى نعيم الجنة، وهذا كله يبين عظيم الفضل المرتب على المحافظة على هاتين الصلاتين فهما سبب النجاة من النار، وهما سبب لدخول الجنة، وهما سبب للتنعم برؤية الله ـ تعالى ـ في الغدو والآصال جعلنا الله وإياكم من أهل رؤيته ومن أهل التنعم بهذه الفضائل العظيمة.
واعلم أن قوله: «مَن صَلَّى» أي من أتى بالصلاة الكاملة، فبقدر ما يحصل من الإخلال بالصلاة في واجباتها وأركانها وشروطها وحقوقها ينقص الأجر، وكلما عظم العناية بالصلاة في أركانها وشروطها وواجباتها وأعمالها كان ذلك موجبًا لارتفاع الأجر، فالناس ليسوا على درجة واحدة في المحافظة على هاتين الصلاتين وفي نيل الأجر المرتب، فاجتهد على إتقان الصلاة والإتيان به على الوجه الذي يرضى الله ـ تعالى ـ به عنك واحتسب الأجر في كل عمل تقوم به فإن ذلك موجب للفوز بعظيم الفضل وكبير الأجر.
ساق الله لنا وإياكم كل خير وجعلنا من أهل الصلاة المقيمين لها في كل وقت وحين وفي صلاة البردين على وجه الخصوص، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.