يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن جَابرٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ». رواه البخاري(6021)، ورواه مسلم (1005) مِنْ رواية حُذَيفة رضي الله عنه.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
كل معروف صدقة:
هذا الحديث الشريف وجيز اللفظ عظيم المعنى باب من أبواب الخير دل عليه سيد الورى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول جابر فيما رواه البخاري وكذلك حذيفة فيما رواه مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» المعروف هو ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله من الطاعات والقروبات الواجبة والمستحبة، فكلما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله وجاء في الشريعة الندب إليه فرضًا أو نفلًا فإنه معروف وهو صدقة أي مما يجري الله ـ تعالى ـ به الأجر على الإنسان.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: صدقة أي أن الله ـ تعالى ـ يثيب الإنسان عليه ويؤجره عليه والمعروف في أجره درجات، فكونه صدقة لا يعني أن ذلك جميعه على درجة واحدة في الأجر والثواب، بل ذلك متفاوت تفاوتًا عظيمًا باعتبارات متعددة، باعتبار العمل، باعتبار نفعه، باعتبار ما قام في قلب العبد من الإخلاص لله ـ عز وجل ـ تفاوت الأجور والثواب يختلف باعتبارات متعددة، وإن كان الجميع يشترك في كونه مما يجري الله ـ تعالى ـ به على العبد الأجر.
ما هو المعروف؟
فالمعروف هو ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله ظاهرة وباطنة، ويدخل في المعروف أيضًا كل أوجه الإحسان التي تعارف الناس على أنها من الإحسان ومن الخير، ولو لم يأتي الحديث أو الكتاب بالنص عليه، فكل ما كان من الإحسان في عرف الناس فإنه داخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».
إذًا المعروف هو كل ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله، وينضاف إلى ذلك كل ما عده الناس إحسانًا ولو لم يأتِ النص في الكتاب والسنة بالأمر به والندب عليه، ينضاف إلى المعروف أيضًا ترك المنكر.
فإن ترك المحرم معروف يؤجر عليه الإنسان وهو على نحويين:
أولًا: المحرمات الإقرار بتحريمها مما يجري الله ـ تعالى ـ الأجر على الإنسان، فإذا اعتقد الإنسان تحريم السرقة تحريم الزنا تحريم الغيبة، فإنه مأجور على هذا الاعتقاد لأنه قبل شرع الله ـ عز وجل ـ ثم التزام ذلك مما يجري الله ـ تعالى ـ به على الأجر، فإذا عرض للإنسان فرصة أن يأتي محرمًا وكف نفسه عن هذا المحرم فإنه يزداد معروفًا وأجرًا وثوابًا عمن لم تعرض له تلك المعصية.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» يشمل هذا أيضًا يشمل كف النفس عن المحرمات، ولهذا في حديث أبي ذر لما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أيُّ الرِّقابِ أفْضَلُ؟ قالَ: أنْفَسُها عِنْدَ أهْلِها وأَكْثَرُها ثَمَنًا قالَ: قُلتُ: فإنْ لَمْ أفْعَلْ؟ قالَ: تُعِينُ صانِعًا، أوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ»[صحيح مسلم (84)].
فجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كف الإنسان نفسه عن المحرم، معروفًا يجري الله ـ تعالى ـ عليه به الأجر.
ولذلك لا ينحصر المعروف فقط بفعل الطاعات وترك المحرمات في فعل الطاعات والإحسان للخلق بل ينضاف إلى ذلك أيضًا ترك المحرمات إذا سنحت للإنسان وتيسرت له فتركها لله، ولذلك كان الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار أحدهم قال: اللهم إنه كان لي ابنة عم هي من أحب الناس إلي راودتها عن نفسها فألمت بها حاجة فجاءت فقلت لا أعطيك حتى تمكنني من نفسك فلما مكنته من نفسها ذكرته بالله فقالت: لا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها وهي أحب الناس إليه كف نفسه عن المحرم لله فكان ذلك من العمل الصالح الذي فرج به عن هؤلاء الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار.
فكف الإنسان نفسه عن المحرم من المعروف الداخل في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ».
ثالثا: ما يدخل في المعروف المباح إذا احتسبه الإنسان عند الله ـ عز وجل ـ وفعله رغبة فيما عنده فإن الإنسان إذا فعل المباح بنية الطاعة وكف النفس عن المحرم والتقرب إلى الله بما أباح أجر على ذلك.
ولذلك جاء في حديث أبي ذر في حديث أهل الدثور وسبقهم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ»[صحيح مسلم (1006)].
النية تحول المباحات إلى عبادات:
فإذا أتى الإنسانُ المباحَ بنية التقرب إلى الله والاكتفاء به عن المحرم، أو كفاية من له حاجة في هذا المباح فإنه يؤجر على ذلك، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» يشمل هذه الأبواب كلها، يشمل الطاعات من الواجبات والمستحبات وما عده الناس إحسانًا، يشمل كف الإنسان نفسه عن المحرم إذا تيسر له فإنه من المعروف الذي يؤجر عليه، يشمل المباح إذا فعله الإنسان بنية الطاعة والتقرب إلى الله، اللهم استعملنا في طاعتك وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.