بسم الله الرحمن الرحيم
المقدم: مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم/ وائل حمدان الصبحي. ومن الإخراج/ سالم بالقاسم وياسر زيدان.
ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ، السلام عليكم، وأهلًا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي وائل، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: حياكم الله فضيلة الشيخ. بمشيئة الله تعالى سيكون حديثنا في هذه الحلقة حول جملة من أسباب نزول المطر، لكن قبل أن نبدأ الحديث فضيلة الشيخ عن هذه الأسباب التي بها يُستجلب القَطْرُ من السماء، بودِّي أن نتحدث ابتداءً عن نعمة المطر؛ هذه النعمة التي يهبها الله - تبارك وتعالى - لمن يشاء.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النذير البشير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي وائل، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
هذه النعمة العظمى التي يتفضل الله تعالى بها على عباده؛ ذكَّر الله - سبحانه وبحمده - الخلق بها في مواضع كثيرة من كتابه الحكيم، يذكرهم بنعمة نزول الأمطار: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾الحج: 63 ، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾البقرة: 21 ، ثم ذكر أدلة استحقاق العبودية وأنه لا يعبد سواه، وأنه الإله الحق ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾البقرة: 22، وبعد أن ذكر خلق السموات والأرض وتمهيد الأرض قال: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾البقرة: 22 المطر رحمة من الله - عز وجل - وقد سماه بذلك في مواضع عديدة من كتابه؛ يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ الأعراف: 57 ، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾الشورى: 28 ، وقال تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾الروم: 50 ، هذا الماء النازل من السماء هو ما يحيي الله تعالى به العباد، يحيي الله تعالى به الخلق؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾الفرقان: 48 ما الفائدة والثمرة؟ ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾الفرقان: 49 ، وقد قال الله تعالى في بيان أهمية الماء النازل من السماء وأنه مصدر الحياة: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾الأنبياء: 30 .
والله - سبحانه وبحمده - من رحمته لعباده أن إنزاله المطر بِقَدَر؛ وذاك لإصلاح معاش الناس؛ فلو نزل من الماء ما يزيد على حوائج الناس هلكوا، ولو قلَّ ذلك عن حاجة الناس لهلكوا، ولكنه - جل وعلا - أنزل المطر بمقدار وبميزان، وذكر ذلك في محكم التنزيل فقال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾المؤمنون: 18 أي: بمقدار لا يتجاوزه، وهذا القدر وِفْقَ حكمته ورحمته جل في علاه.
فهو يحقق مصالح العباد ويدركون به ما يأملون من خير الدنيا والآخرة، دون أن يكون في ذلك نقصٌ يحوجهم إلى شيء غير ما أنزله الله - عز وجل -، وهذا في كل ما ينزله الله - عز وجل - على عباده إنما ينزله بقدر، فإنزاله - جل وعلا - المطر وإمساكه لحكمة ورحمة؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾الحجر: 21 فكل المطلوبات والمرغوبات خزائنها بيد رب الأرض والسموات - سبحانه وبحمده -، وينزل منها -جل في علاه- ما يصلح به حال الناس، لا ما يشتهون ولا ما يحبون فقط، بل ينزل من ذلك ما يصلح حالهم، فلو أنزل عليهم شيئًا زائدًا عما يحتاجون كان في ذلك هلاكهم وفساد معاشهم، ولو قصر ذلك عن حوائجهم كان ذلك مفضيًا إلى فساد دنياهم، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾الحجر: 21 ، وفي الآية الأخرى، يقول - جل وعلا - : ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾المؤمنون: 18 وهذه إشارة إلى نعمة أخرى أن الماء الذي في الآبار، والماء الذي في العيون، والماء الذي في الأنهار، والماء الذي في باطن الأرض - هو بإسكان الله - عز وجل -، ولولا أن الله يسره بإمساكه في مواضعه لكان الماء ذاهبًا متبددًا بلا فائدة؛ ولذلك قال: ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾المؤمنون: 18 .
وقد ذكَّر الله - عز وجل - العباد بفقرهم إليه - جل وعلا - واضطرارهم إلى ما أنزل من الأمطار فقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾الملك: 30 يعني ذاهبًا في الأرض بعيدًا متبددًا ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾؟ لا يأتي به إلا الله، فلا حياة في الدنيا إلا بهذه النعمة التي تفضل بها على عباده.
وقال الله تعالى مذكرًا العباد بالماء الذي يشربونه لأنه أبرز الفوائد المباشرة لهم؛ قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾الواقعة: 68 - 69، الله أكبر! هذا الماء، هذا الكوب الذي بيدك ملأته ماءً ووضعته على فيك، مَن الذي يسَّر إنزاله من السحاب؟ إنه الله - جل وعلا -. يقول: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾الواقعة: 68، ومهما جرى عليه من معالجات وتصفيات هذا الماء الذي تشرب أصله نازل من السماء ﴿أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ﴾الواقعة: 69 هل أنتم بعملكم وجهدكم أنزلتموه من السحاب أم أنه نزل بتقدير الله وفضله وإنعامه على عباده أم نحن المنزلون؟ قد ينزل ولا ينتفع به ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾الواقعة: 70 مالحًا ﴿فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ مالحًا امتنعت الاستفادة منه، ولم يتحقق للإنسان ما يؤمله من هذا الماء، فالماء الطاهر نعمة عظيمة بها تحيا الأرض، بها يحيا الإنسان، بها يحيا الحيوان، بها تزول الأمراض، بها تصفو الأجواء، بها تنشرح الصدور، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾فصلت: 39 أي: من علامات إلهيته وبراهين أنه الإله الحق ﴿أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً﴾فصلت: 39 جدباء مشهبة، قد علاها ما علاها من الكآبة ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا﴾فصلت: 39 أحيا هذه الأرض التي كانت على هذه الصفة السابقة؛ خاشعة مغبرة ميتة، ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
فهذه النعمة لا يأتي بها إلا الله جل في علاه، هذه النعمة لا دخل للناس في حصولها ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾الحجر: 22 ، ثم يذكر افتقار العباد بحفظها بعد نزولها ﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ فنحن فقراء في نزول الأمطار، ونحن فقراء إلى الله - عز وجل - في إمساك هذه الأمطار والانتفاع بها سواء كان ذلك بحفظها في باطن الأرض أو بحصول المقصود منها الذي ينتج من هذه الأمطار من الحياة في الأرض، وهذه من أعظم الرحمات التي يرحم الله تعالى بها عباده، وهي من أعظم الآيات الدالة على إلهيته -جل في علاه-، وعلى عظيم قدرته، وعلى جزيل إحسانه بعباده؛ قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾الزخرف: 11 .
إذًا الأمطار ونزولها من أعظم النعم التي يتفضل الله تعالى بها على عباده ونزولها كما ذكرنا هو بقَدَر الله - عز وجل - ونزولها بمقدار لا يتجاوز حكمته - جل وعلا -، كما قال: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾الحجر: 21 فكل شيء عنده - جل وعلا - بمقدار، وإذا أيقن العبد هذا المعنى أيقن أنه -جل في علاه- لا يزيد شيئًا عما قدره وما فيه مصلحة عباده، ولا ينقص عن ذلك ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾الرعد: 8 - سبحانه وبحمده-.
ثم إن الله تعالى يجري نزول هذا المطر على رحمة وحكمة، فهو - جل وعلا - قد صرَّفه بين عباده، فتجد من الجهات والأماكن ما أمطاره متتابعة متوالية ينتفع بها أهل تلك البقاع وينتفع بها غيرهم، وتجد مواقع أخرى جدباء ليس فيها من الأمطار ما تنتعش به تلك الجهات وتحيا، ولله في ذلك الحكمة البالغة؛ ولذلك أشار الله تعالى في الحكمة في تصريف هذه الأمطار واختلاف أحوال الناس فيها من حيث تصريفها فقال -جل في علاه-: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾الفرقان: 48 - 49، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ﴾الفرقان: 50 صرَّف المطر - جل وعلا - بين العباد تصريفًا بالغًا وفق حكمته ورحمته جل في علاه، وهذا التصريف له فيه الحكمة البالغة - سبحانه وبحمده -، ولا يُعترض عليه في ذلك.
وليُعلم أيها الإخوة والأخوات أن هذا التنوع في التصريف هو لحكمة الله، ليس شيئًا يتعلق بصلاح أو عدم صلاح أهل هذه الجهات؛ لأن بعض الأحيان يقول قائل: في بعض الجهات تكفي الأمطار مع كون أهلها في غفلة وفي بُعد عن الله - عز وجل - وعدم تذكُّر لآياته -جل في علاه- وعدم القيام بحقه، وفي جهات أخرى يكون أهلها أهلَ توحيد وطاعة ولا يكون عندهم من الأمطار ما عند غيرهم.
هذا التصريف ليس لأجل صلاحٍ مِن عدمه، فله الحكمة فيما يعطي ويمنح، وأشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى، فقال تعالى في محكم كتابه في سورة الفجر: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾الفجر: 15 أكرمه بكل ما يكرم به من عطاء مال، من عطاء ولد، من طيب معاش، من كثرة أمطار، من غير ذلك مما يكون به الإكرام والإنعام، ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾الفجر: 15 فيستدل بالعطاء على إكرام الله ومحبته وإحسانه وشريف مكانته عند الله - عز وجل -؛ يعني أعطاني لأني أستحق الإكرام فيرجع الفضل إلى ذاته لا إلى فضل ربه فيغتر بنفسه.
في المقابل: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾الفجر: 16 اختبره، إذًا في العطاء اختبار، وفي المنع اختبار، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ﴾الفجر: 16 يعني ضيق عليه رزقه في ماله، في ولده، في جاهه، فيما ينزله عليه من الأمطار، فيقول: ﴿رَبِّي أَهَانَنِ﴾ الله - عز وجل - يقول: ﴿كَلَّا﴾الفجر: 17 ليس الأمر كذلك، ليس الإكرام بالعطاء الدنيوي ولا الإهانة بالمنع الدنيوي، بل الإكرام في لزوم طاعة الرحمن جل في علاه، الإكرام في تحقيق الإنسان ما من أجله خُلق في هذه الدنيا، وهو عبادة الله - عز وجل - على كل الأحوال في العطاء والمنع، في الضيق والسعة، في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في الأمطار والأقطار والجدب، كل ذلك له فيه حكمة؛ ولذلك قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾الفرقان: 50، أي: أجريناه على نحو تحصل به لهم الذكرى والعظة والاعتبار والادِّكار، فيكون ذلك موجبًا لعودهم إلى ربهم جل في علاه، وإظهار الافتقار له - سبحانه وبحمده-.
هذه مقدمة لعلها تشير إلى عظيم نعمة الله بإنزال الأمطار على عباده والتنبه إلى الحكمة في التصريف لهذه الأمطار في المنع والعطاء، وفي الكثرة والقلة، وليذكر العبد قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ﴾الفرقان: 50 أمطرنا هذه الأرض دون هذه، سقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقًا، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من الماء، وله في ذلك الحجة البالغة، وله الحكمة البالغة فيما يعطي ويمنع، وليتذكر العباد بهذه الأمطار النازلة إحياء الله وإحياء الأرض بعد موتها بأنه قدير على إحيائهم وردهم وبعثهم بعد موتهم للحساب والجزاء.
المقدم: جميل، اسمح لي فضيلة الشيخ أن نستكمل حديثنا في هذه الحلقة التي بدأناها حول المطر وحول حكمة الله - تبارك وتعالى - من تصريف الأمطار وقلَّتها في مكان وزيادتها في مكان آخر.
نريد أن نستكمل الحديث حول أسباب نزول المطر التي بها تستجلب هذه الرحمة من الله - تبارك وتعالى -، وبها يستجلب المسلم هذا الخير وهذه البركة، وهذا الفضل من الله - جل وعلا-.
الشيخ: من أهم الأسباب التي تستجلب بها الخيرات وتستدفع بها المكروهات ويدرك بها الإنسان المرغوبات أن يحقق تقوى الله - جل وعلا - في الغيب والشهادة؛ تقوى رب الأرض والسموات - سبحانه وبحمده -؛ فإن تقوى الله - عز وجل - أعظم ما استفتحت به هبات الله وعطاياه جل في علاه، فمفتاح بركات السماء ومن أعظمها المطر النازل ومفتاح خيرات الأرض وذلك بحصول بركة هذه الأمطار على الأرض بالإنبات والإحياء - تقوى الله - جل وعلا -؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾الأعراف: 96، فالله - عز وجل - يخبر في هذه الآية الكريمة أن أهل المدن في القرآن حصل منهم الإيمان بالله - عز وجل - وهو صلاح قلوبهم وحصل منهم التقوى وهي الاستقامة على خصال الإيمان ومقتضياته ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾الأعراف: 96، هذه الآية الكريمة وعدٌ من الملك الحق -جل في علاه- أن أهل المدن والأمصار إذا حصل منهم الاستقامة على ما أمر الله تعالى به من صلاح قلوبهم واستقامة أعمالهم، فإنهم سينالون من الله - عز وجل- ما يؤملون من الخيرات، فيفتح الله تعالى عليهم بركات السماء وبركات الأرض، وفتح بركات السموات والأرض مُؤْذِن بكثرة الخير وشيوعه وانتشاره وظهوره على نحو يدرك به الناس ما يؤملونه من الخيرات، ما يؤملونه من صلاح معاشهم، وكذلك ما يؤملونه من صلاح معادهم، فبركات السماء نزول الأمطار وبركات الأرض حصول النبات الذي هو ثمرة نزول الأمطار، وبذلك يتحقق مبدأ النعمة ومنتهاها، فمبدأ النعمة بإنزال المطر ومنتهاها بحصول البركة من الله - عز وجل - في هذا المطر النازل، فكم من أرض تمطر ولا يحصل من هذه الأمطار غاية ولا مقصود من طيب نبات وكثرة خيرات وما إلى ذلك، وهذا لكونه قد نزع الله تعالى البركة منه.
فقوله - جل وعلا - : ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾الأعراف: 96 وعدٌ منه - جل وعلا - لكل من حقق التقوى بأن ينال من فضل الله وإحسانه وبرِّه ما ينعم به ويصلح حاله، وقد قال الحق -جل في علاه- في آية أخرى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾الجن: 16، والمعنى: لو آمنوا وحققوا الاستقامة على الطاعة وعلى الصراط المستقيم لأوسعنا عليهم من الدنيا بحصول غاية مطلوبهم في الأرزاق والهبات والعطايا، ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾ أي: على الهداية التي طلبوا أن يسلكوها وهو الصراط المستقيم، ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ أي: لأوسعنا عليهم في الأرزاق وفتحنا عليهم بركات السماء والأرض، وهذا على قول أكثر أهل التفسير في معنى الآية الكريمة.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾المائدة: 65 هذا الثواب الأخروي؛ وهو الغاية والمقصود، ثم قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾المائدة: 66، أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، وهو القرآن الحكيم أو ما أمروا به من الإيمان بخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ أي: فتحت عليهم الخيرات، فكان هذا مفتاحًا لنيل حاجتهم من كل جهة؛ من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فمما تستفتح به البركات وتنال به الأمطار وتدرك به خيرات السماء والأرض وبركات السماء والأرض أن يحقق الإنسان تقوى الله - جل وعلا -: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق: 4 ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾الطلاق: 5 ، ومن اتقى الله جعل له من كل ضيق مخرجًا؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾الطلاق: 2 ، وقال - سبحانه وبحمده -: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق: 4 أن ييسر له كل أمر يواجهه وكل أمر يعانيه، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾الطلاق: 5 التقوى مفتاح خيرات عظيمة.
ولقائل أن يقول: ما المقصود بالتقوى؟
التقوى بإيجاز: هي لزوم دين رب العالمين، أن يلزم الإنسان طاعة الرحمن، أن يلزم الإنسان ما أمر الله تعالى به من الواجبات والفرائض، ويأتيَبها على الوجه الذي يرضى الله به تعالى عنه، وأن يجتنب المحرمات، وأن يجتهد في النأي عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فالتقوى تقوم على ساقين: ما أمر الله به من الواجبات والفرائض ابتداءً، ثم التزود بالمستحبات والنوافل، والشرط الثاني التي تقوم عليها التقوى: ترك ما حرم الله - عز وجل - من الذنوب والخطايا الظاهرة والباطنة في حقه وفي حق عباده جل في علاه، ثم الاجتهاد في النأي بالنفس عن المكروهات، هذه هي التقوى بإيجاز.
فتقوى الله - عز وجل - أن تفعل ما أمرك الله تعالى به في صلاتك، أولًا: في توحيدك لربك ومحبتك وتعظيمك له، في أعمال القلوب كذلك، فيما يتعلق بالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا وغيره من الواجبات فعل الإنسان لها هو من تقوى الله - عز وجل – يفعلها المؤمن يرجو بها ما عند الله ويخاف عقابه.
أيضًا من التقوى ترك المحرمات،ورأسها الشرك،ثم النفاق وخصاله، ثم البدعة وأعمالها، ثم ما يتعلق بالمحرمات بشتى صورها من الكبائر والصغائر؛ شهادة الزور، النميمة، الغيبة، الزنا، السرقة، أكل مال اليتيم، السحر، اجتناب هذه الأمور كلها هو من تقوى الله - عز وجل -، فإذا حقق العبد هذا فُتحت له بركات السماء والأرض، وإذا كثر في الناس كان هذا من موجبات نيل الخير؛ لأن الخير النازل على الناس إما خاصٌّ وإما عام، الخاص باستقامة الإنسان في نفسه، والعام بظهور الاستقامة والتقوى في حال الناس؛ ولذلك قال -جل في علاه-: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى﴾الأعراف: 96 فجعل مناط الشرط في فعل أهل القرى لا في فعل أفرادهم وآحادهم، بل في فعل مجموعهم، ولا يلزم أن يكونوا جميعًا على حال واحدة، لكن أن تكون السمة الغالبة في حالهم هو تقوى الله - عز وجل - عند ذلك تفتح بركات السماء وبركات الأرض.
إذًا هذا هو السبب الأول من أسباب استجلاب الخيرات عمومًا، ومن أسباب نزول الأمطار خصوصًا، أن يحقق الناس تقوى الله - عز وجل - بفعل ما أمر -جل في علاه- من توحيده وفعل فرائضه وواجبات دينه، وأن يجتنبوا أيضًا كل ما حرمه الله عليهم من الشرك به، ومن خصال النفاق والبدعة، ومن الموبقات وسيئ الخطايا والأعمال.
أما السبب الثاني من أسباب تحقيق الخير ونزول الأمطار واستجلاب رحمة الله - عز وجل –: الاستغفار، وهنا تنبيه مهم: لماذا ذكرنا الاستغفار بعد التقوى؟ التقوى هي الأصل الذي ينبغي أن يستعمله الإنسان في كل حاله وشأنه، لكن الإنسان في طبيعته لابد أن يكون له خطأ، ما في إنسان سالم من ذنب أو خطيئة ظاهرة أو مستترة لازمة أو متعدية، «كل ابن آدم خطاء وخير الخطَّاءين التوَّابون»[سنن الترمذي:ح2499، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح3139]، فبما أننا خطَّاءون فلابد لنا من أن نكون توَّابين حتى ننجو من غوائل الخطأ ومن عواقبه الرديئة؛ ولذلك كان من أعظم أسباب نزول الغيث كثرة الاستغفار والتوبة، فإن الله - عز وجل - أمر عباده عند احتباس الأمطار أن يستغفروه ويتوبوا إليه، وهذا جاء في ثلاثة خطابات نبوية للأمم كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن؛ فهذا نبي الله نوح -عليه السلام-، وهو أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض يقول في بيان ما دعا إليه قومه؛ قال - جل وعلا -: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾نوح: 10 ، كلام نوح عليه السلام، وهذه دعوة إلى ترك الذنوب والخطايا؛ قال تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾نوح: 11 هذه الثمرة ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾، جزاء ذلك: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ أي: مطرًا متتابعًا يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد بفضله ومَنِّه - سبحانه وبحمده -، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾نوح: 12 ، الأموال والبنون هي ثمرة هذا المطر المدرار؛ فإنه إذا كثرت الأمطار أنبتت الأرض وكثر نتاجها حيي ما عليها من بهائم، فكان ذلك موجبًا للخير الوفير بكثرة الأموال وكثرة البنين، ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾نوح: 12 هذا نوح عليه السلام.
هود قال لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾هود: 52، ثم ذكر بعد إرسال السماء على الناس مدرارًا قال: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ فيكونوا بهذا المطر النازل أقوياء في معاشهم، في أبدانهم، في اقتصادهم، في سائر شئون حياتهم.
فمن أسباب نزول المطر: الاستغفار، وإذا نزل المطر حصل للناس ما يؤمِّلونه من الخيرات.
وفي ختام هذه الوصايا الإلهية على ألسنة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- ما ذكره الله - جل وعلا - في خطاب القرآن على لسان سيد الورى - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله تعالى جاء في هذا القرآن آمرًا بعبادته وحده لا شريك له: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾هود: 1 - 2 ، ثم قال في ثاني ما ذكر بعد أَمْرِه بعبادة الله وحده وأن القرآن وآيات القرآن جاءت بالأمر بعبادة الله وحده، قال: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾هود: 3 فثاني ما جاء الأمر به بعد التوحيد الاستغفار، كما قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾محمد: 19، قال: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه﴾ هود: 3 ، والاستغفار هو طلب العفو والصفح والتجاوز، والتوبة هي الرجوع إلى الله بترك الذنب والخطيئة وإصلاح العمل؛ ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ هود: 3 .
فهذه الآيات الكريمات تبين أن الاستغفار من مفاتيح بركات السماء والأرض؛ ولذلك قال تعالى: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾هود: 61، والاستغفار يستعمله الإنسان في خاصة نفسه، وفي صلاته، وفي مواطن دعائه، وفي كل أحواله؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُحسب له بين أصحابه في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفارًا، - صلى الله عليه وسلم–.[صحيح البخاري:ح6307]
من أسباب نزول المطر: الدعاء، والدعاء أعظم أسلحة المؤمن، والدعاء باب عظيم من أبواب الخير؛ ولذلك شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته عند احتباس المطر أن يدعوا، وجاء في ذلك على ثلاثة أنحاء، وعلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: الدعاء في صلاة الاستسقاء، فقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كما في حديث عبد الله بن زيد، حيث خرج وصلى ركعتين ثم دعا واستقبل القبلة وحول رداءه - صلى الله عليه وسلم[صحيح البخاري:ح1024]، وهذا ما يعرف بصلاة الاستسقاء، وهي سنة عمل بها أهل الإسلام منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبها قال عامة أهل العلم، ولله الحمد لازالت هذه سنة ظاهرة، ومن ذلك ما يصدر عن ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين حفظه الله بين فترة وأخرى عند احتباس الأمطار من دعوة الناس إلى صلاة الاستسقاء والخروج لطلب السقيا من الله - عز وجل -، فهذه سنة نبوية وهي قائمة في بلادنا ولله الحمد، وذلك من فضل الله علينا ولله الحمد وجزى الله ولاة أمرنا خيرًا على ما يقيمون من شعائر الدين وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم-.
الصورة الثانية: من صور الاستسقاء الدعاء في خطبة الجمعة؛ فقد دخل رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل وجاع العيال فادعوا الله أن يغيثنا، فدعا: «اللهم أَغِثْنا، اللهم أغثنا»[صحيح البخاري:ح1014] وهو على المنبر -صلوات الله وسلامه عليه-.
الصورة الثالثة: أن يسألوا الله السقيا دون صلاة، وهذا جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - وبه قال جماعة من أهل العلم، وبهذا يتبين أن الدعاء مما تستجلب به نعم الله وخيراته جل في علاه.
من أسباب نزول المطر: الإحسان إلى الخلق، فالإحسان إلى الخلق موجب إلى إحسان الله - عز وجل - إلى العبد؛ قال الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾الرحمن: 60 ؛ ولهذا استعمال الإنسان هذا المعنى باشتغاله بالإحسان إلى الخلق، وذلك في كل صور الإحسان سواء كان ذلك بالصَدَقَة، أو كان ذلك بالإعانة البدنية، أو كان ذلك بغيره من الوسائل والسبل يحصل به إحسان الله تعالى لعباده؛ ولهذا ينبغي لنا أن نضرع إلى الله - عز وجل - وأن نُلحَّ عليه - سبحانه وبحمده - بالدعاء وصالح العمل أن يسقيَنا وأن يغيثنا.
وهنا أنبه إلى أمر مهم يغفل عنه كثير من الناس: المطر ونزول المطر نعمة عظمى لا غنى للناس عنها في معاشهم، فمهما تنوعت وسائل تحلية المياه وما إلى ذلك من الوسائل الأخرى لا غنى لهم عن نزول أمطار السماء، الأمطار من السماء لا غنى عنها في إحياء الأرض، في تطييب الأجواء، في إحياء الأبدان، في إحياء الحيوان، في كل شأن من شئون الإنسان، فلا يغني عنها شيء مما يسره الله تعالى من وسائل يحصل بها للناس ما يريدونه من مياه، فهي مهما كانت لا تغطي حوائج الناس، ومهما كانت لا تفي بما تحتاجه الأرض من الأمطار، فليس فقط الماء لأجل الشرب، بل للحياة بكل صورها ومناحي جوانبها.
ومن رحمة الله أن الله يحبس المطر عن عباده ليعرفوا فقرهم إليه وعظيم حاجتهم إليه، فيظهر ذلك بالتوبة وبالاستغفار وبالأوبة إليه وبالدعاء، ومن لجأ إلى الله -جل في علاه- أدرك منه - سبحانه وبحمده - ما يؤمل؛ ولذلك جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضحِكَ ربُّنا مِن قُنوطِ عبادِهِ» بسبب ما حصل من جدب الأرض وقحط السماء قال - صلى الله عليه وسلم - «وقُربِ غِيَرِهِ»[سنن ابن ماجه:ح181، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع:ح3585، وقال الهيثمي في المجمع(ح278):فيه جارحة بن مصعب، وهو متروك الحديث] أي: قرب فرجه جل في علاه، فهو الذي يغيث، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾الشورى: 28 - سبحانه وبحمده-.
ذكرنا جملةً من الأسباب التي تحصل بها إنزال الأمطار.
ذكرنا:
أولًا: تقوى الله جل في علاه، وهذا معنى جامع يشمل كل ما أمر الله به تعالى ورسوله من فعل المطلوبات وترك المنهيات.
الثاني: الاستغفار والتوبة.
الثالث: الدعاء والإلحاح على الله - عز وجل -، ومن ذلك الاستسقاء، ولا يتحقق تمام ذلك إلا بإظهار الافتقار لله - عز وجل-.
الرابع: الإحسان إلى الخلق؛ فإنه من موجبات إحسان الله - عز وجل - إلى العبد.
المقدم: جميل، كنا نتحدث عن جملة من الأسباب التي تُستجلب بها رحمة الله تعالى - تبارك وتعالى - ويُستجلب بها المطر من السماء، نريد أن نختم بسبب أخير ألا وهو البذل والإِحسان والعطاء في سبيل الله - تبارك وتعالى -، هذا أيضًا مما تستجلب به رحمة الله - تبارك وتعالى - من الخير والأمطار.
الشيخ: لا شك، وقد أشرنا إلى هذا في ثنايا الحديث أن من الأسباب الأكيدة التي يدرك الناس بها خير الدنيا والآخرة الإحسان، والإحسان مرتبة عالية سامية، ولا تنحصر هذه المرتبة في صورة من الصور، الإحسان يشمل القلب ومحبة الخير للناس، وسلامة القلب من الآفات المُفضِية إلى سيئ القول والعمل، فمبدأ الإحسان بالقلب، ثم بعد ذلك ينتقل الإحسان إلى القول وينتقل أيضًا إلى العمل، وبالنظر في النصوص النبوية يرى الإنسان فيها الدائرة الواسعة التي تشمل كل ما يكون من أوجه البر والإحسان التي تستجلب بها رحمة الله - عز وجل -، الإحسان يكون بالمال، والإحسان يكون بالقول، والإحسان يكون بالعمل، يكون بالمال وذلك بالصدقات؛ فالصدقات تقي مصارع السوء: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾البقرة: 245 ، والله يبسط ويرزق من يشاء بغير حساب، هذا معنى من معاني الإحسان، فالإنفاق والبذل مما تستجلب به الخيرات وتُستدفع به البليِّات.
الثاني: الإحسان بالقول؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، والكلمة الصالحة الطيبة صدقة، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكلمة الطيبة صدقة»[صحيح البخاري:ح2989]، فالكلمة الطيبة تشمل كلَّ كلام حسن طيب ترتاح له النفوس وتطمئن له القلوب، ويدخل به الخير على الإنسان وعلى من يعامله.
الإحسان يكون أيضًا بالعمل، وهذا يخفى على بعض الناس، أحيانًا قد لا يكون عندك شيء تقدمه فهنا تقدم ما تستطيع بالقول والعمل؛ ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة»، ثم قال: «فمن لم يجد فبكلمة طيبة»[صحيح البخاري:ح1413]، وعندما سأل أبو ذر رضي الله عنه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أي العمل أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله»، قال: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» قال: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ يعني إن كنت لا أقدر على هذا وقصرت عنه، قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق»، الجهد البدني الذي تبذله في نفع الناس، في إعانة من يحتاج إلى الإعانة، في خدمة من يحتاج إلى الخدمة، حتى في حمل متاع إنسان يحتاج إلى إعانة، «تُعين صانعًا أو تصنع لأخرق» قال: يا رسول الله - وهذا أقل مراتب الإحسان - أرأيت إن لم أفعل ذلك؟ يعني لم يفعل هذا كله، ترك هذا كله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تكفُّ شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك»[صحيح البخاري:ح2518]؛ ولذلك حتى كف الإنسان نفسه عن أذية الخلق وإيصال الشر لهم مما يُجري الله تعالى به على الإنسان من الخير، وهو صدقة يفتح الله بها على الإنسان أبواب الصالحات.
إذًا الإحسان بمفهومه العام سواء كان بكفالة الأيتام، بإطعام الفقراء والمساكين، بقضاء الديون، بإغاثة المستغيثين والمحتاجين، بالسعي في نفع الناس بالجاه، بالكلمة الطيبة، بكف الإنسان شرَّه عن الناس؛ كل ذلك مما تُستجلب به رحمة الله - عز وجل -، ويندرج في عموم قول الحق -جل في علاه-: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾الرحمن: 60 .
نسأل الله أن يستعملنا وإياكم في فضله، وأن يجعلنا من أهل الإحسان الذين قال فيهم: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾الأعراف: 56 ، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
المقدم: شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.
الشيخ: شكرًا لكم وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله رب العرش العظيم أن يمنَّ على بلادنا بالأمطار، وأن يسقينا وأن يُغيثنا من فضله، وأن يعمَّ الخير سائر بلاد المسلمين وعامة البشر، وأن يوفق ولاة أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.